زملاء

د. وفاء سلطان : بشار الأسد: هذا الشبل من ذاك الأسد

 قالوا لي بأنّك طبيب، فقررت أن أصدّق الكذبة! قالوا لي بأنّك قضيت تسعة أشهر في التحصيل العلمي الطبّي في جامعات ومستشفيات بريطانيا، فقررت أن أصدّق الكذبة، علما بأنّها كانت أكبر!
قراري بتصديق تلك الأكاذيب لم يكن وفقا لقناعاتي الطبيّة ولا منسجما مع أمانتي العلميّة، أعترف بذلك! لكنّه كان قرارا اضطراريّا ولم يكن لديّ خيارٌ غيره.
تاريخ والدك، ياسيّدي الرئيس، غنيّ عن التعريف. ولكنك لا تستطيع أن تقرأ ذلك التاريخ  بنفس الطريقة التي تقرأه بها  وفاء سلطان، التي شبّت في ظلّ حكم والدكم المفدّى!
سنة 1985 كنت أحد أعضاء لجنة فحص الموظّفين الطبيّة في مدينة اللاذقيّة. كنّا ثلاثة أطباء، الرئيس وعضوين. أحد الأيام غير المباركة دخل موظّف اللجنة الى غرفتنا نحن الأطباء وهو يرتجف، وبصوت مبحوح قال: هل تعرفون من هنا؟ لم يكن رئيس اللجنة قد وصل بعد، فتساءلت وزميلي العضو الآخر: من؟!!

ـ اخت الرئيس حافظ الأسد! تريد توقيع وثيقة ما، اياكم أن تطالبوا بفحصها، أنصحكم بتوقيع الوثيقة على بياض! وركض مسرعا ليعود الينا بالسيدة عمتك.
 
امرأة قصيرة مربوعة القامة، لا يتجاوز طولها المتر. تنظر الى وجهها فتراه صورة فتوكوبيّة عن وجه السيد والدك! لم يكد بصري يقع على ملامح ذلك الوجه حتى سرت في جسدي قشعريرة ارتعشت لها كلّ مفاصلي! وهمست في سرّي:

ـ يا إلهي! إنّه هو بشحمه ولحمه!

الدكتور صلاح عجّان من أهذب الأطباء الذين قابلتهم في حياتي وأرفعهم خلقا. ينتمي إلى عائلة من عوائل اللاذقيّة المشهورة بسمعتها الطيّبة وبحب أفرادها للموسيقا وابداعهم بالعزف على العود. وقف الدكتور صلاح بلمح البرق وسحب لها كرسيّا: أهلا بك ياخالة! تفضّلي بالجلوس!

جلست السيّدة عمتك، فتابع الدكتور صلاح: أنا والدكتورة وفاء ـ مشيرا اليّ ـ سنوقع لك الوثيقة، ولكن الدكتور رئيس اللجنة قد تأخر اليوم وسيكون هنا في الحال! فأشارت برأسها موافقة، دون أن تنبس ببنت شفة.
 
لم يمض على هذا الوضع سوى دقائق خلتها ساعات حتى دخل الموظف ليرى ماحدث. عندما عرف بأننا ننتظر رئيس اللجنة قال لنا: لقد أرسلنا الوثيقة الى بيته كي يوقعها أولا والآن لاتحتاج إلاّ إلى توقيعكما. ولم يكد ينهي عبارته تلك حتى انتفضت تلك السيّدة كالوحش الكاسر، وقفت قبالة الدكتور صلاح وقد وضعت كفيّها على خصرها وجعرت ككلب أصيب لتوه بطلقة:

ولك ياحقير نطرتني عالفاضي؟!! أنت بتعرف من أنا؟!! وخبطت بقدمها على الأرض، ثم تابعت:

أنا الله ولاك!! أنا الله ولولا يقولوا جنت لمسحت فيك الأرض!

هل صحيح بأنّكم الله ياسيّدي؟!! لكنّ الله لايمسح بعباده الأرض!!

لم يكن الدكتور صلاح هو المواطن السوري الوحيد الذي مسحت به “عائلتك الكريمة” الأرض. فلقد توقّف ابن عمك الميمون، والمعروف “بنبل أخلاقه” فواز الأسد يوما آخر غير مبارك في مدينة بانياس، المدينة التي ولدتُ وترعرت بها، في طريقه من اللاذقيّة الى دمشق. دخل المقهى الوحيد في تلك المدينة الهادئة والجميلة، حيث يجتمع رجال الحي بعد انتهاء العمل ليتسامروا، علّهم يخففون من أعباء الحياة التي فرضها العيش في ظل السيّد والدك. دخل وعصابته مدجّجين بالسلاح وصاح بالحضور: اوقفوا ياعر……..ات وإلاّ خرطشتكم بالرصاص!

وقف الرجال مذعورين، فصاح: اقعدوا…….اوقفوا…….اقعدوا…….اوقفوا…..اقعدوا.. واستمر في جعيره، وحراسه يحيطون به شاهرين أسلحتهم، حتى ملّ. خرج مومئا لزبانيته فتبعوه.

مرّة اخرى أعود لتجربتي كطبيبة في لجنة فحص الموظفين. حدث ذلك في الفترة التي غضب به السيّد والدك على عمك ملعون الذكرـ السيّد رفعت ـ بعد أن تهاوشا على المصالح والمطامع والغنائم!

اتصل الدكتور محمد معروف بدر ـ الله لا يذكره ولا يذكر أمثاله بالخير ـ مدير صحّة اللاذقية، بالطبيب رئيس اللجنة التي كنت أعمل بها وأمره أن يرسل الطبيبة العاملة باللجنة ـ أي حضرتي ـ الى بيت رفعت الأسد لفحص إحدى “بعلاته” والتأكد من صحة التقرير الطبّي الذي منحها حق التغيّب عن وظيفتها كمعلمة للمرحلة الابتدائية لأسباب صحيّة. وكانت البعلة المقصودة السيّدة سلمى مخلوف ابنة عم السيدة “الاولى” انيسة مخلوف!

وهنا قد يستغرب القارئ ويتساءل: وهل سلمى مخلوف، زوجة رفعت الأسد وابنة عم السيدة “الأولى” أنيسة مخلوف، تشتغل معلمة للمرحلة الابتدائية، وراتب المعلمة في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز الألف ليرة سورية؟!! لم يكن استغرابي أقلّ من استغراب أيّ انسان يسمع بهذا الكلام، ولكن عندما شرح لي أحدهم السر تلاشى استغرابي.

كانت زوجات رفعت ومن لف لفيفهن يشتغلن بالاسم وليس بالفعل في الكثير من وزارات الدولة وتتقاضى الواحدة منهنّ اكثر من راتب من أكثر من وظيفة، وهي تجلس بالبيت. عندما تم الخلاف بين شلة اللصوص، تظاهر السيّد الوالد بحرصه على احترام القانون! فأمر بعودتهن الى وظائفهن كي يضيّق الخناق على أخيه رفعت!

ركبت سيارة مارسيدس كان يقودها أحد الشبيحة، نقلتني من مركز اللجنة المقابل لمبنى مديريّة الصحة إلى حيّ الأمريكان في مدينة اللاذقيّة. لا أستطيع أن أصف مشاعري في تلك اللحظة! كلّ ما أتذكره إنني همست في اذن إحدى الموظفات: سلمي على زوجي وقبّلي لي مازن وفرح!

وقفت بنا السيارة أمام بناية من ست طوابق، حيث أحيط المبنى بالكولبات العسكرية. كانت خادمة تنتظرني على البوابة، ثم رافقتني الى الطابق الرابع حيث تقيم السيدة مخلوف. ألقيت عليها التحيّة بصوت خافت يكاد لايسمع ومددت يدي مصافحة فمدت يدها، وهي ماتزال جالسة على كرسي هزّاز، وأومأت اليّ كي أجلس على الكرسي المقابل.

كنت طبيبة غرّة وفي مقتبل العمر، لم تكن تجارب الحياة قد علمتني بعد كيف أتصرف في مواقف كهذه. جلست وأنا أرتجف، وبصوت منكسر قلت: سيدتي! لقد أمرني مدير الصحة بالقدوم لتصديق التقرير، ولكنني متأكدة من صحته. ثم ذيلته أمامها بتوقيعي، فردّت: لايهم.. ليكن مايريد هؤلاء الخونة! واعلمي ياحضرة الدكتورة بأن راتبي الشهري لايشتري لي هذا الحذاء، مشيرة الى حذائها الذي رفعته حتى حاذى وجهي!

ـ أعرف.. أعرف ياسيّدتي! ثم وقفت وهممت بالخروج، فوقفت وأشارت بيدها الى مائدة من الحلوى والفواكه تتوسط الغرفة:

ـ تفضّلي وتناولي بعض الحلوى!

بطرف عيني رأيت من ضمن مارأيت طبقا من الموز. وكانت قد مضت أكثرمن ثمان سنوات على عدم وجود موزة واحدة في الأسواق السوريّة.

 

في إحدى المرّات أقسمت لي معلمة ابتدائي بأن طلابها لايعرفون تسمية الموز عندما يرون صوره في الكتاب! تمنيت في تلك اللحظة أن أتجرأ الى الحدّ الذي يمكنني عنده من أن ألتقط واحدة منها وأحملها في حقيبتي نصفها لمازن والنصف الآخر لفرح، ولكن كرامتي المجروحة حالت دون ذلك فخرجت وأنا أتمتم: شكرا شكرا عليّ أن ألحق بالوقت!

راتب زوجة عمك ياسيّدي الرئيس لايكفي لشراء حذائها، ولكن يكفي لشراء موز وحليب لطفليّ! أنا طبيبة، ياسيّدي الرئيس، والطبيب في بلاد العالم التي تحترم نفسها يعيش في وضع يليق بانسانيّته! لاشكّ بأنّك لاحظت ذلك وأنت تتلقّى علومك الطبيّة في مستشفيات بريطانيا (!!!).

هناك مثل انكليزي يقول: لاتستطيع أن تحاور رجلا له بطن وليس له اذنان! لقد التهمت بطونكم الموزة بقشرتها! كيف سأحاوركم؟ لكم بطون وليس لكم آذان!!!

في منتصف الثمانينات وصلت الأوامر الى جميع المحافظات للقيام بمهرجانات شعبيّة على كافة المستويات احتفالا بذكرى إعادة انتخاب السيّد والدك. في جامعة اللاذقية قام بعض رجالكم باطلاق النار تعبيرا عن الفرح. أصابت رصاصة طائشة أحد الطلاب فقتلته على الفور. شاءت الأقدار أن يكون ذلك الطالب من عائلة فقيرة جدا، وهو وحيد والديه.

في زيارة الوفد الطلابي الذي نظّمها اتحاد الطلاب في الجامعة للقصر الجمهوري أو “قصر الشعب” كما يحلو لكم أن تسمونه، في تلك الزيارة أخبروا السيّد والدك بالحادث وشرحوا له ظروف عائلة ذلك الطالب الضحيّة، أملا في أن يأمر لعائلته ببعض التعويض المادي.

كانت صدمتهم كبيرة عندما أجاب ببرودة أعصاب، لايستطيع أكبر مجرم في العالم أن يبديها أمام حدث كهذا، أجاب:

ـ ماالقضيّة؟!! لم يكن الطالب الوحيد الذي استشهد، فلقد مات مواطن في الحسكة وآخر في حلب وثالث في.. وفي مناسبة وطنيّة وقوميّة كهذه ليس قضيّة كبيرة أن يستشهد بعض الناس! عاد الوفد بخفّي حنين وبحرقة قلب وانكسار نفس!

سنة 1986، وخلال دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط التي استضافتها مدينة اللاذقيّة، كنت وزوجي وأطفالي خارجين من مسبح أفاميا عندما تناهي إلى سمعنا صراخ امرأة تستجير بالحجر! التفتنا الى مصدر الصوت وإذ بسيارة مارسيدس سوداء تقف وقد ترجل منها شاب وراح ينهال ضربا على امرأة ترتدي أسمالا بالية ويركلها برجليه، والدم ينفر من كل بقعة في جسدها:

ـ دخيلكم..أتوسل اليكم أن تنجدوني..

تجمهر الناس، هذا ينظر بألم وذاك يحاول أن يغطي عينيه بيديه، دون أن يتجرأ أحد على الإقتراب لحماية تلك المرأة المسكينة. سألت أحد المارة بعد أن أعياني مارأيت:

من هذا الرجل ولماذا يضرب تلك المسكينة؟!!

ـ إنّه هارون الأسد وعصابته، وهي امرأة فقيرة متسولة تسأل المارة عن بعض النقود. عندما رآها انقضّ عليها بحجة أنها تسيء الى وجه سوريّة السياحي!!

ماأكبر شهامتكم ياسيّدي الرئيس!!

امرأة فقيرة متسوّلة تسيء الى وجه سوريّة السياحي، أمّا جرائمكم فلا تسيء الى وجه سوريّة الحضاري؟!! يقول شكسبير: أنت عظيم عندما تملك قوّة الأسد، ولكنّك مجرم عندما تستعملها كما يستعملها الأسد. لقد امتلك هارون الأسد قوة الأسد، لكنّه استعملها كما يستعملها الأسد! إنّه مجرم!!

أهكذا يعالج الفقر بالضرب واللكم والإعتداء على حرمة الناس؟!! عندما مات “العقيد الركن الفارس البطل الشهيد  الدكتور المهندس” باسل الأسد اثر حادث سيارة، كتبت الصحف الغربية عن أرصدته التي تجاوزت الأربع بليون دولار في بنوك سويسرا، والتي رفضت السلطات السويسريّة لأي من أفراد اسرته بنقلها الى حسابه، بحجة أنه لم يكن متزوجا وليس لديه أولاد كي يرثوه ولم يترك وصية لأحد من بعده!! وصلت غطرستكم الى الحدّ الذي لاتصدّقون عنده بأن الموت قادر على أن يحصدكم!!

أربعة بلايين دولار، جمعها المهندس باسل بعرق جبينه دولارا دولارا من المشاريع التي هندسها للوطن الأم، أربعة بلايين دولارا ذهبت هباء الريح!! أربعة بلايين دولار كانت كافية لغسل فاقة ثلاثة أرباع الشعب السوري التي ترزح تحت خط الفقر المدقع!! ثلاثة أرباع الشعب السوريّ يرزحون تحت خطّ الفقر المدقع، لكنّها مازالت تهتف، وفوق رقبتها يعلو حذاؤكم العسكري: بالروح.. بالدم نفديك ياحافظ!!

في زيارتي الأخيرة للوطن التقيت بأحد اصدقائي القدامى، وأثناء الحديث تطرقنا الى قطعة أرض كان يملكها وينتظر كي تتحسن أحواله كي يبني عليها بيت العمر. غصّ بالبكاء وقال: تفاجأت أحد الأيام بشخص يخابرني ليسأل عن المشروع الذي بدأته على تلك الأرض، فسألته: أيّ مشروع تقصد؟ أنا لم أبدأ بعد بمشروعي!!

ـ ولكنني رأيت هذا الصباح العديد من آليات الحفر والجرافات والعمال!! وبسرعة البرق استقليت سيارة اجرة وكنت هناك لأفاجأ بالمنظر الذي وصفه لي ذلك الشخص. اقتربت من سائق جرّافة وصرخت في وجهه:

ـ قف.. قف ماذا تفعل يارجل؟ إنّها ارضي.. إنّها ارضي!!

توقف السائق ونظر اليّ مستغربا وكأنه أدرك اللعبة:

ـ بل إنّها أرض جميل الأسد وقد كلفنا ببناء مشروع عليها. أنا آسف ياسيّدي.. أقدّر احساسك ولكن لاشيء بإمكاني أن أفعله!!

اتصل صديقي بمحام مشهور وخبير بتلك القضايا، ولكن المحامي اعتذر اذ لاشيء بامكانه أن يفعله! والآن صديقي ينتظر، وهو مازال متمسكا بسند التمليك، ويأمل أن ينتهي كابوسكم كي يستعيد امتلاك حقه المسلوب! متى سينتهي هذا الكابوس ياسيادة الرئيس؟!!

أبو أحمد ضابط سوري ذو رتبة عالية زجّه السيد والدك في السجن لمدة ست سنوات دون أيّة تهمة. في أحد المرات تقدم  بطلب للحصول على سجل عدلي. سأله طفله ذو الثمانية أعوام: بابا لماذا كتبوا في سجلّك العدلي “لاحكم عليه” ولم يكتبوا سُجن لمدة ست سنوات؟!!

فردّ ابو أحمد: يابني، الست سنوات تُكتبُ في السجل العدلي لحافظ الأسد وليس في سجليّ!

 

سيديّ الرئيس!

اذا أردنا أن نكتب في سجّل والدك العدلي كلّ السنوات التي ضاعت من عمر الشعب السوري، سيدخل كتاب جينيس للأرقام القياسيّة كمرتكب أكبر عدد من الجرائم!

ماذكرته ليس الاّ غيضا من فيض ما عاشته مواطنة سوريّة واحدة، ما رأيك لو أردت أن أذكر ما تعرفه بقيّة العشرين مليون سوريّ؟! والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يعقل بأن الانسان الذي يعيش ويتربّى ضمن هذه الطغمة الموبؤة الملوثة والمشوّهة أخلاقيا وضميريّا لديه الملكات العقلية اللازمة والكافيّة لدراسة الطب، ناهيك عن قيادة بلد تمّ تدميره كليّا وعلى مدى قرابة أربعين عاما؟!!

هل يعقل إنّ الانسان الذي يمت بصلة لحافظ الأسد أو رفعت الأسد أو السيّدة عمتك أو السيّدة أنيسة مخلوف أو سلمى مخلوف أو السيّد فواز الاسد أو السيّد جميل الأسد أو السيّد هارون الأسد، هل يعقل بأن الانسان الذي يتربى في حظيرة هؤلاء المجرمين مؤهل عقليا وأخلاقيا ليكون طبيبا؟!!

 

الطبّ ياسيّدي مهنة انسانيّة، بل هو أرقى المهن الانسانيّة! ولايعقل أن يجيدها انسان لم تسلّحه تربيته بالقيم والملكات والمفاهيم اللازمة لاجادتها! لايستطيع انسان على سطح الأرض أن يقنعني بأن شخصا ما قضى حياته في تلك الفوضى، حيث لا تحكمه ضوابط قانونيّة أو منطقيّة أو أخلاقيّة، يستطيع أن يتفرغ لدراسة الطب والإبحار في محيطاته، الذي يتطلب صبرا واستيعابا وجهدا وقدرة على ضبط النفس وتخزين العلم ثمّ تطبيق ما خزّنه!

سأروي لك قصة قد تساعدك على استيعاب ما أقوله: قام عالم نفسي امريكي بفصل مجموعتين من الجرذان حديثي الولادة. وضع المجموعة الأولى في قفص مجهّز بكلّ ماتحتاج اليه لتعيش، درجة حرارة ثابتة.. كميّة وافرة من الأطعمة.. مياه للشرب.. أدوات للعب.. الخ بينما أطلق سراح المجموعة الثانية في الطبيعة المحيطة لتواجه التحديّات التي تفرضها تلك البيئة، كندرة الطعام والماء وقساوة المناخ ومصائد الانسان.. الخ

بعد سنة جمع المجموعيتن وأجرى عليهما بعض التجارب في مخبره. أهم الحقائق التي توصل اليها كان ما أكده بأن القشرة المخيّة لدى الجرذان التي اطلقت في الطبيعة كانت أثخن وأكثر تمايزا من القشرة المخيّة لدى الجرذان التي عاشت في القفص.

معروف علميّا بأن القشرة المحيطة بالمخ هي التي تحوي مراكز الحس والحركة والتفكير والقدرة على المحاكمة وصنع القرار. التحديّات التي واجهتها تلك الجرذان أجبرتها على استعمال حواسها والتركيز على حاجاتها باضطراد، الأمر الذي أدى الى تكاثر ونمو خلايا القشرة المخية بطريقة سريعة. بينما لم تواجه الجرذان التي عاشت في القفص أيّ نوع من التحديات، الأمر الذي لم يجبرها على استعمال مراكز الحس والحركة في قشرتها المخيّة فتوقفت خلايا تلك القشرة عن التكاثر والنمو وضمرت مع الأيام حسب القانون الطبيعي الذي يؤكّد بأن العضو الذي لا يستعمل يضمر!

هناك مثل افريقي يقول: اكثر التجارب قدرة على صقل الرجل تلك التي يصطدم خلالها مع الجبل!

هل اصطدمت مع جبال كي يساهم تفاعلك معها في صقل شخصتك؟!! أيّ نوع من التحديات واجهتها، ياسيدي، وأنت تكبر في قصرك الملكي؟!! عقيد يقودك بالسيارة الى المدرسة ولواء يعود بك الى البيت!!

هل نمت يوما جائعا؟!!

هل ارتفعت يوما حرارتك ولم تجد السيّدة والدتك طبيبا يقبل أن يعالجك في نصف الليل؟!!

هل أرهقك الوقوف بانتظار الحصول على حصتك التموينية من الزيت والسكر والرز على باب مؤسسة استهلاكيّة؟!!

هل جئت يوما الى وظيفتك لتواجه المشاكل التي يسببها لك العاملون معك في نفس الدائرة؟!!

هل جربت أن تحصل على أيّة وثيقة ما من دائرة حكوميّة في مدينة اللاذقيّة؟!!

هل ركبت باصات النقل الداخلي؟!!

هل اضطررت يوما أن تستخدم مرحاضا في أحد المرافق العامة؟!!

هل حاولت الحصول على قرض عقاري من بنك سوري؟!!

هل فكّرت كيف ستدفع فواتير التلفون أو الماء أو الكهرباء، أو كيف ستشتري لابنك حذاء وقد نضب راتبك منذ اليوم الأول للشهر؟!!

هل جلست قبالتك سيّدة، وحذاؤها يحاذي وجهك، وهي تستهتر براتب الموظّف الذي لايساوي قيمة ذلك الحذاء؟!!

هل أكلت لكما وضربا من مجرم يستعمل قوته كما يستعملها الأسد؟!!

هل حلمت بموزة كي ترضي بها معدة طفليك؟!!

هل نمت على باب إحدى السفارات في دمشق أملا بالهروب من جحيم حكومتك؟!!

اذا ماهي التحديّات التي واجهتها وساهمت في نمو وتكاثر خلايا قشرتك المخيّة كي تصل الثخانة والتمايز المطلوبان لتمكينك من استيعاب الطب وعلومه؟ ناهيك عن القيادة ومسؤولياتها؟!!

عندما أطلق العالم الجرذان التي عاشت في القفص الى الطبيعة ماتت بعد عدّة أيام لأنها لم تكن تملك القشرة المخيّة اللازمة لمواجهة تحدّيات البيئة الكثيرة والصعبة!

الجرذ الذي يعيش في القفص مغمورا بكل مايحتاج اليه لن يكون قادرا على مواجهة أيّ تحد، ناهيك عن قيادة عشرين مليونا آخر!!

ثق تماما، ياسيّدي الرئيس، بأن أيّ رجل يعيش في شوارع دمشق او حلب او أي مدينة سوريّة اخرى، يصارع تحديّات الحياة كي يعود بلقمة عيش نظيفة لعائلته، لقادر أكثرمنك على قيادة وطنه، لأنّه تعلم من تجاربه والتحديّات التي واجهها في حياته أكثر بكثير مما تعلمت!

المرة الأولى والأخيرة التي رأيتك بها تتحدث كانت خلال مقابلة أجراها معك صحفي لبناني لاأذكر اسمه. لم انتبه وقتها الى ماقلت بقدر ما انتبهت الى حركاتك، التي إن دلّت على شيء إنّما تدلّ على ارتباكك وتوتّرك واحساسك بأنك في مأزق لاتعرف كيف تخرج منه!

هذا تصرّف طبيعيّ لشخص لم يخض أيّة تجارب كي يتعلّم كيف يواجه أيّ تحد!! أشفقت يومها عليك، وأشفقت أكثر على هذا الشعب المسكين الذي توهمه بأنّك قائده!

قرائي يحتجّون عليّ، ياسيادة الرئيس!! يدّعون بأنني أتجاهل الأزمة التي تمرّ بها سوريّة الآن، حكومة وشعبا، ويدّعون بأنني لا أتفاعل بمسؤوليّة مع أحداث الوطن. لك وللقراء الأعزاء أقول:  الأزمة الحاليّة التي افتعلتها جريمة اغتيال السيّد الحريري لاتخرج، بالنسبة لي، عن كونها لعبة سياسية لا أعرف أسبابها وأبعادها ومداخلاتها. لا تعنيني تلك الأزمة أكثر ماتعنيني الأزمات اليوميّة التي يعيشها الشعب السوريّ منذ أربعين عاما.

الحريري انسان، يحزنني موته كما يحزنني موت أيّ انسان آخر. لا أستطيع أن أميّز بين حياته وحياة تلك المرأة السوريّة الفقيرة التي كانت تتسوّل على شاطئ اللاذقيّة فانتهك حرمتها أحد مجرميّ السلطة. لافرق عنديّ بين حياة الاثنين! المجرم واحد والضحية، من حيث الحياة كقيمة، واحدة!

الأزمة التي يعيشها الشعب السوري اليوم، لاتختلف عن ازمات البارحة! المجرم نفسه والضحايا تتساوى في قيمتها! واذا كان الشعب السوري يرتكس لتلك الأزمة بطريقة مختلفة، لا لأنها بنظره أكبر ازماته ولا دفاعا عن حكومته، بل لأنّه يتساءل في سرّه: لماذا الآن؟ لماذا يحتج المجتمع الدولي على قتل الحريري ولم يحتج منذ أربعين عاما على قتل شعب بأكمله؟!!

المجتمع الدولي متمثلا بمجلس الأمن مدين للشعب السوري بالجواب، كي يثبت حسن نواياه!! هل كان المجتمع الدولي يبحث عن قشّة كي يقصم بها ظهر البعير؟ ألم تكن جرائم هذا البعير، الذي بعّر ورفس حتى خرّب البلد بأكمله، ألم تكن كافية لقصم ظهره من زمن بعيد؟!!

لقد تفاقمت الأزمات في حياة الشعب السوريّ حتى صارت طريقة حياة! لقد استفحل الظلم الذي مارسته طغمتكم الحاكمة، ياسيّدي الرئيس، وصارت حقوق الشعب السوريّ، للتحرر من أغلال تلك الطغمة، ديونا مستحقّة الدفع منذ زمن طويل!

صرح نيرون دمشق، السيّد آصف شوكت، صهر العائلة الحاكمة والمتّهم باغتيال الحريري مؤخرا:

أحرق دمشق ولا أسلم نفسي! يحرق دمشق؟!! من هو كي يحرق دمشق؟!!

دمشق، ياسيّدي الرئيس، مهما احترقت ستخرج من الرماد كالعنقاء وستجرّكم أيدي الشعب على أرصفتها، هذا مارواه لنا التاريخ عن مصير حكّامه الظالمين!

عندما تُكتب كلمة أزمة في اللغة الصينيّة، تتألف الكلمة من مقطعين. مقطع يعني “خطر” والمقطع الثاني يعني “فرصة”.

أتمنى أن يكون الشعب السوري قادرا على أن يقرأ الأزمة التي يمرّ بها الآن على الطريقة الصينيّة.

هي تحمل مخاطرا، لكنها في الوقت نفسه تحمل فرصا! أريده أن يفعل مابوسعه لتجنب مخاطرها واستغلال فرصها.

الخطر الأكبر الذي قد تحمله الأزمة الحاليّة امكانيّة سقوط الوطن في فخ الإرهاب الاسلامي، لكنّ الفرصة مواتية ايضا لأن يتحرر الوطن من طغمة البعث وينتقل الى قيادة علمانيّة تفصل بين الدولة والدين وتتبنى سلطة القانون.

خمس سنوات مضت، ياسيادة الرئيس، ونحن نصدّق الكذبة على أمل أن تثبت لشعبك بأنّك على حقّ وبأننا نحن الكاذبين، خمس سنوات لم تثبت خلالها الاّ أنك ابن أبيك!

د.وفاء سلطان
elsultana1@yahoo.com

  • اظهر المزيد

    نشــــطاء الـرأي

    نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

    مقالات ذات صلة

    زر الذهاب إلى الأعلى
    error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
    إغلاق
    إغلاق