زملاء

هنادي زحلوط : عكيد القاووش

في غمرة آلام رأسي أصل سجن عدرا، أسوار وراء أسوار، يستلمني شرطي ينادونه “أبو نغم” ويأخذني إلى مكتب مدير السجن، وراء الكرسي في ذلك المكتب الذي تفوح منه رائحة الأضابير يجلس شرطي بملابس مدنية ناداه أبو نغم: “أبو تيمور”، وهما متشابهان إلى درجة اختلط الأمر عليّ فخلتهما واحدا!

ما زلت أفكر بكلام الشرطي الذي خلصني من بين يدي تلك المرأة الفاجرة التي ضربتني أمام القصر العدلي على رأسي، لم يقل لي اسمه، يجلس بجانبي مبتسما بعد أن غادر باص السجن حدود دمشق، ويقول، وصوت أغنية “يا بشار متلك مين” يقف حائلا دون مسامع السائق: -أنا آسف يا أختي.. نحنا مو طالع بايدنا شي.. اللي عملته هالمخلوقة غلط.. بس انتي طولي بالك.. وما تلومينا.. والله نحنا قلبنا معكون بس شو فينا نعمل.. أحاول أن أجعله يخرج من سلبيته تلك، أن ينفعل ويتحدث بوضوح أكثر، القلب يشتاق لكلمة مؤازرة، لنظرة مشجّعة وسط سيل التعب، وهو مقيد مقتاد إلى السجن!

يباغتني “أبو تيمور” بصراخه وقد فاجأه ملفي القضائي الذي وقع بين يديه: -تظاهر؟ ونيل من هيبة الدولة؟ وليك شو عاملة انتي آه؟ شو بدكن انتوا؟ موعيجبكن وضع البلد؟
– لأ!
ترنّ الـ “لأ” كصفعة في وجهه، ويقوم غاضبا ليقتادني عبر ممر ضيق يقع قفص الزيارة على يمينه، بقضبانه الرفيعة المتشابكة بقوة، وأسال نفسي “يا ترى مين رح يزورني هون.. انشالله ما يزورني حدا.. إذا ما زارني حدا رح انسى وجعي وضل قويّة.. ما بدي شوف وجوه اخواتي.. ولا وجه أمي .. أكيد بيي مارح يقدر يجي.. مارح يقدر يجرّ الأوكسجين معه لهون!”

نصعد درجا، يضغط “أبو تيمور” على زر جرس فتأتي امرأة متشحة بالسواد، على وجهها ابتسامة دائمة، تفتش حقيبة يدي والأغراض التي أعادوها إلي في ديوان المحكمة، تفش ملابسي، تحاول أن تكون طيبة، لكن تفتيش الملابس، هو تفتيش الملابس!
تأخذ “الممنوعات” التي وجدتها، حمرة خدود، وقلم كحل أسود، وتقول لي: -أنا اسمي الـ “لا لا”.. ما تخافي يا بنتي.. هدول الغراض رح يضلوا بالأمانات باسمك.. وانشالله بكرا بس تطلعي بعطيكي ياهن من عيوني.. وأفكر: “بس اطلع رح اتركلك كل شي.. رح اركض ركض لبرا..”..

غرفة الايداع، هذا هو اسم تلك الغرفة في آخر الممر، يسارا، تقفل “ميس” مشرفة جناح “القتل” الباب ورائي وتذهب، فتيات ينمن على ثلاثة أسرّة من حديد، عليها فرشات اسفنج مهترئة، ورغم فداحة الموقف أجد نفسي أقرب للضحك، فبعد سبعة أعوام من النشاط النسوي، وخمسة أعوام من النشاط في مجال حقوق الإنسان مع أسماء كبيرة، وبعد النشر في مناشير سياسية معارضة، وكثير من الصحف العربية والمواقع العالمية، وبعد الكثير من الخطط للإيقاع بنظام مافيوي كللت بزلزلته، أجد نفسي نزيلة غرفة واحدة مع العشرات من النساء اللواتي لم يفكرن في حياتهن بأبعد من الايقاع برجل أو سرقة أمواله!

الحيطان بيضاء، الدهان جديد، لكن القضبان تلقي على المكان مسحة سوداوية تظلل على القلوب قبل العيون!

جلست على الأرض المفروشة بالبطانيات في زاوية الغرفة البعيدة، الفتيات والنساء رمقنني
بنظرات فضولية، واقتربت الأكثر فضولا منهن تسألنني عن تهمتي: دعارة؟ سرقة؟ شيك بلا رصيد؟ قتل؟؟؟ لم يسمعن بعد أن هنالك ثورة في الخارج، وأن العشرات من النساء يعتقلن، ويعذبن خلف القضبان، وأن النساء معنيات بدعم هذه الثورة، وطبخ قوتها، وتغذيتها، وكتابة يومياتها، وتضميد جراحها!

ثلاث نساء بقين بعيدات، أعرف فيما بعد انهن أخوات من إحدى العائلات في دوما، وأنهن ضحايا عملية احتيال شاركن فيها رغما عنهن، حاولت أن أعرف منهن اخبار دوما، لكنهن يفضّلن أن يبقين حذرات معي وقد علمن أنني “أتظاهر”، وهي تهمة خطيرة، تهون أمامها تهمة “القتل”!

في آخر الغرفة باب المطبخ، الذي يضم أيضا حماماً، فيه دوش، سقفه مفتوح، بجواره “دورتا مياه”، أغسل وجهي وأعود فمشرفة الجناح ستأتي لتسجّل في قائمة طويلة ما تحتاجه كل فتاة هنا: جبنة، مرتديلا، شيبس…. أطلب دفترا وقلما، وعلبة “بيبسي”…
أسجّل رقم هاتف “فرح” أخت لؤي، لقد بقيت أردده بخوف ولهفة كل يوم كي لا أنساه، لا أريد لهذا الخيط بيني وبينه أن ينقطع، أريد أن أتصل بها واسألها عنه، وربما يجيب هو وأسمع صوته بعد أن أطلب الرقم: – اتنين.. سبعة.. سبعة…… هلق ما عاد يهمني انسى الرقم.. رح خبي الورقة!.. وأشرب البيبسي.. إنها فرحتي الأولى بعد زمن..

أسمع جرساً يرن، فتنتهي الضجة النسوية التي يصنعنها بضحكاتهن الهستيرية، ورقصهن، وأغاني المذياع والتلفزيون لديهن، تغلق “ميس” غرف أبواب جناح القتل، مهجعا مهجعا، يرافقها ضابط برتبة عقيد، يقتربان من باب غرفة الايداع ويأمرنا “أبو تيمور”: – قوموا ع حيلكن انتي وياها.. يالله!
أقف صامتة، يسأل العقيد، مدير السجن الذي يقطب حاجبيه، ويرمقنا بنظرات مرتابة من الأعلى للأسفل، عن الاسم، والتهمة، وعندما يصل الدور لي، يسمع اسمي ولا يطلب أن يسمع التهمة، يقول لي: – انتي مشرفة الغرفة يا زحلوط، بتديري بالك ع البنات وبتضلي هون، ويتنامي على هاد التخت، لنشوف شو بيصير بوضعك!
ويقوم “أبو تيمور” باصطحاب الفتيات كل إلى الجناح الخاص بتهمتها، وأبقى أنا مع الفتيات اللواتي سيعرضن غدا على المحكمة، أو ينتظرن تسفيرهن إلى محافظات أخرى!
وإذا، لن يأخذوني إلى جناح “السياسيات”: أي وشو هلق؟ آخرتي عكيد القاووش؟

تدعوني إحدى نساء دوما إلى العشاء مع أخواتها ومع صبيّة عراقية، قاصر، ستسفّر قريبا إلى أمها في اللاذقية، لتستلمها، بعد أن عملت لأربع سنوات في مقاصف “جرمانا” و”التل”، وترقص الفتاة بعد العشاء بحكم العادة، لا بحكم الفرح!

كاتبة سورية وناشطة
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق