زملاء

هنادي زحلوط : نساء يتيمات

أفتح عيني، أنا على فراش حديدي، في غرفة كبيرة، كبيرة، لقد تذكرت: أنا في سجن عدرا للنساء! ملك ما تزال في فرع الأمن السياسي، عليّ أن أنتظر ليومين، حسب كلام الرائد وسام قبل أن يفرجوا عنها، أو أراها هنا مجددا. قرع علينا الباب، إنها ربا، وفي يديها مخصصات غرفة الايداع من الخبز، وعليّ أنا كمشرفة غرفة أن أضعها في المطبخ، تستوقفني:

-سيكارة.. بس سيكارة الله يخليكي..

سبب آخر لأشعر بالكراهية تجاه السجائر القاتلة، إنها سبب آخر لذلّ النساء في السجن..

– آسفة.. أنا ما بدخن..

صوت فيروز ينسكب من إذاعة السجن على كل الممرات، يجتاز القضبان ليجلد قلبي، ليس هنالك أصعب من التعذيب بصوت فيروز في الصباح، وأنت سجين!

لوّحت لي فتاة في الثلاثينات من عمرها من بعيد، قرأت على شفاهها: -صباح الخير.. وابتسامة ملء الصباح، لا بد أنها من “جماعتنا”، الابتسامة في وجه السجينة للسجينة السياسية هي كلمة السر هنا: نحنا معكون.. الله يقويكون.. تخاطر وتخترق قرار منع احد من الحديث معي، تقترب من الباب المقفل وعينها على الممر حيث غرفة “ميس” مشرفة الجناح:

– بس بدي قلك.. أنا اسمي تقلا.. إذا احتجت يشي هون بس خبريني.. انتي شو اسمك؟

– أنا هنادي..

كلماتها تنسيني أنني في جناح “القتل”، وتبتعد واجلة قبل أن يمسكوا بها تتعاطى السياسة معي، وتقترب ربا حاملة إلينا الفطور في”توبر وير” مليء بالفول، وجرزة بصل أخضر!

ليس هنالك تلفاز في غرفة الايداع، كما أن الاتصالات الهاتفية محدودة باتصال واحد يوميا، لا جرائد رسمية ولا غيرها، ولا مجال لقليل من الصمت وسط جلبة الفتيات في غرفة الايداع المغلقة، لقد مضت الدفعة المتجهة إلى المحكمة منذ التاسعة صباحا، وبقيت فتيات التسفير ينتظرن رحلتهن الصعبة!

في الخارج تتمشى الفتيات والنساء المحكومات بجناية القتل، يتمتعن بالتنفس طوال اليوم، ما عدا وقت “التأمين” الذي يمتد من الثالثة عصرا وحتى الخامسة، وفيما عدا ذلك أراهنّ يصرخن، يختلفن بحدّة حول من تكلمت على حصّالة التلفون وقتا أطول، وترتفع الأصوات في شجارات لا تنتهي.

“حنين” لا تكترث لهنّ، هي تنتظر حكما في جريمة قتل سائق تكسي مع زوجها، شريكِها في الجريمة، أخذ أهلها ابنتها لتربيتها، وتركوها ملقاة هنا لمصيرها، تخبرني أنها بدأت بالعمل منذ اليوم الأول لوصولها إلى هنا، وضعوا لها كومة من الملابس لغسلها مقابل عشرين ليرة، أما الآن فيصل أجرها لقاء غسل الملابس إلى مائة وخمسين ليرة، إنها تشطف الممرات، وتجمع القمامة من الغرف، وتحمل الأغراض من السوبر ماركت إلى الفتيات مقابل ألف وخمسمائة ليرة في الشهر، تكاد لا تكفيها ثمنا لسجائرها!

وطفل صغير، لا أفهم ماذا جاء به إلى هنا، يركض بين أحضان النساء والفتيات ويقبّلنه ويحملنه وكأنه ابن لهنّ جميعا، ويضربنه كذلك وكأنه ابنهنّ جميعا!

وبفارغ الصبر أنتظر وقت السماح لنا، نحن نزيلات غرفة الايداع بالسماح لنا لنتصل، أجهّز بطاقة المحامية سيرين خوري التي أعطتني إياها منذ يومين، النقود في يدي، أحسّ بالعرق في قبضتي وأنا أمسك أخيرا بسماعة التلفون، ألقّن الرقم لـ “ميس” التي ترمقني بنظرة فاحصة..

-آلو.. أي سيرين..

وما إن يأتيني صوتها الحنون من الطرف الآخر حتى أخالها أمي فأحكي لها كيف ضربتني تلك الـ..، وأسألها متى ستزورني؟ أراقب الثواني وهي تتناقص، تتسارع أنفاسي..

– آلو سيرين.. أي بس ضروري تجي.. بدي ارفع دعوى عليها.. أي تعي السبت إذا بتقدري أو..

تنتهي دقيقتي اليتيمة وأعود دامعة العينين إلى الغرفة التي يغلق بابها بعنف ورائي!

في الليل حين ينام الجميع يصلني صوت نشرة الأخبار عبر قناة “الدنيا”، أسمع تسجيلا لأخ صديقتي، فدوى سليمان، يتبرأ منها، ويقول “لا مو هيك نحنا تربينا يا فدوى”، لا أعرف ماذا فعلت فدوى، لكنني أوقن في تلك اللحظة أنها فعلت ما يستحق العقاب من إعلام النظام، والنظام، وما يجبر عائلتها على أن تتبرأ منها علنا! آخر مرة رأيت فيها فدوى اختلفنا حتى العظم، كنت ممن يؤيدون الاستنجاد بالاتفاقيات الدولية والمواثيق الخاصة بحقوق الانسان لوضع العالم أمام مسؤولياته في حماية “الإنسان” السوري، فيما كانت فدوى ترى أن الحل يجب أن يكون سوريّا خالصا وأننا يجب ألا ننتظر خيرا من الغرب خصوصا، والخارج عموما، وكنت أرى نبلها في طرحها ذاك وأعرف بأننا لسنا مختلفتين في الجوهر، لكننا كنا نحسّ أن العالم قد تخلى عن الثورة السورية وأنها أصبحت ثورة “يتيمة”!

رغبت في تلك اللحظة ان أعتذر من فدوى عن حماقاتي كلها، وأحسست بأنني فخورة بها، وأنها أخت في النضال بحق!

لكنني لم أتصل بأحد في اليوم التالي، كان اتصالي بسيرين وروايتي لحادثة ضربي لمحاميتي، على الهاتف، سببا في حرماني من الاتصال التلفوني بشكل نهائي!

أشتري مرآة صغيرة، وأقلام كحل وحمرة، أستلقي في حضن “صفاء” الفتاة العراقية الصغيرة، وهي تعيد تحديد حاجبيّ الكثيفين ليعودا حاجبي فتاة كنتها قبل اعتقالي واهمال وجهي، أعود للامساك بقلم الحمرة مجددا وأعيد الالوان قسرا إلى خدودي وعينيّ وشفاهي رغم أنف دموعي!

صباح الأحد، التاسع من شهر تشرين الأول لسنة 2011، تبلغني الشرطية ذاك الصباح أن ألبس الثوب “الجزائي” فلدي زيارة محامي! انزل الأدراج دون أن ألامسها، أعانق “سيرين” واشتم رائحتها، وأضمّ شعرها الأجعد بأصابعي لأتأكد أني لست وحيدة هنا، وأن هنالك من يعرف أني هنا!

– ما كنت عارفة كيف بدي اجي يا هنادي.. لازم روح على تعزية مشعل..

-كيف؟

تضعف سيرين أمام دموعي:

-قتلوا مشعل التمو.. ما بتعرفي؟

تسأل الشرطية:

– ماعندون تلفزيون يحضروا الأخبار؟ السورية ع الأقل؟

تضمني سيرين وانا أبلل سترتها، هي لا تدري كيف تعتذر مني، وانا لا أعرف كيف أُخرِج من أذني صوت “هرفين أوسي” رفيقة مشعل يوم الحكم عليه: كلنا مشعل يا مشعل! أضم سيرين وتحيط بذراعيها رأسي، دون أن تتمكن من ابقاء تلك الصرخة بعيدة، أو من تجفيف دموعي!

كاتبة سورية وناشطة

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق