زملاء

يوسف بزي :المجتمع المدني في لبنان ليس هو نفسه «المجتمع المدني»

  • شعار «إسقاط النظام الطائفي» يستدعي في لبنان ترجمة عملية واحدة: الإطاحة بالتوازن بين المسلمين والمسيحيين. وهو ما ينكره المسلمون ويرفضه المسيحيون.
  • اللبنانيين ينقسمون إلى تيارين رئيسيين، حركة 14 آذار، المتولدة من انتفاضة سلمية مدنية أجبرت النظام السوري على الانسحاب ، وتحالف 8 آذار، الذي يضم أحزاباً موالية للنظام السوري وإيران الخمينية.
  • شكلت «بيروت مدينتي» في الانتخابات البلدية تهديداً هائلاً للوائح أحزاب السلطة ومرشحيها. ورغم عدم فوزها بتلك الانتخابات (بفارق قليل من الأصوات)، إلا أنها نجحت في إجبار الخصوم على التشبه ببرنامجها.

من وحي ثورات «الربيع العربي»، شهدت بيروت في أواخر العام 2011، تظاهرات تدعو إلى «إسقاط النظام الطائفي»، ونسب المشاركون فيها أنفسهم إلى «المجتمع المدني». وائتلفت تلك التظاهرات من جموع مواطنين مستائين من الشلل السياسي واحتدام الانقسام الأهلي والطائفي والاستنفار المذهبي، خصوصاً السنّي ـ الشيعي، وما يستدعيه هذا الاستنفار من مخاوف على السلم الأهلي الهش.

وإضافة إلى هؤلاء المواطنين، اعتمدت تلك التظاهرات في الحشد والتنظيم ورفع الشعارات على مجموعات كبيرة متباينة ومتنوعة، هي خليط من رثاثة أحزاب ناصرية على شاكلة مؤيدي النائب السابق الشعبوي نجاح واكيم والوزير السابق اليساري شربل نحاس، وشلل يسارية أخرى من حركات طلابية متفرقة، وبعض منتسبي الحزب الشيوعي اللبناني وهوامشه، وبقايا الحركات النقابية التي تم تفتيتها وشرذمتها واستتباعها للأحزاب الفاعلة (الممثلة للطوائف)، إضافة إلى «ناشطين» بيئيين واجتماعيين وحقوقيين انتقلوا من حيز الجمعيات غير الحكومية إلى العمل السياسي الميداني والمباشر.
ومنذ اليوم الأول لانطلاق هذه التظاهرات، انفجرت التناقضات الفادحة بين كتل المتظاهرين، فشعار «إسقاط النظام الطائفي» يستدعي في لبنان ترجمة عملية واحدة: الإطاحة بالتوازن بين المسلمين والمسيحيين. وهو ما ينكره المسلمون ويرفضه المسيحيون. كذلك فهو شعار يتجاوز «اتفاق الطائف» الذي كرس السلم الأهلي ومبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وهذا ما وضع تلك التظاهرات بمواجهة مع استهزاء أكثرية اللبنانيين بها.
وتزامن هذا «الحراك» مع اشتداد السؤال المصيري حول مستقبل لبنان ومستقبل علاقات جماعاته ببعضها البعض، وعلاقة لبنان بالمحيط الإقليمي وبالعالم، ومستقبل نظامه السياسي كدولة ومؤسسات. وهو سؤال يفرضه وجود سلاح «حزب الله»، الذي يربط لبنان بما يسمى «محور الممانعة» (طهران، بغداد، دمشق، بيروت… ولاحقاً صنعاء)، وما يستجلبه هذا السلاح من أخطار حروب إقليمية لا قدرة للبنان على تحملها، وعداء مع الغرب لا يطيقه معظم اللبنانيين، عدا عن كونه سلاح غلبة مذهبية، وسلاحا متهما باغتيالات سياسية كبرى ومشهودة، وسلاحا يفرض هيمنته على الحياة السياسية الداخلية، تم استخدامه في ترهيب اللبنانيين والإطاحة بحكومات وبتعطيل البرلمان، بل وفي التهديد بحرب أهلية كاسحة (من طرف واحد) إن لم يرضخ اللبنانيون لشروطه ومشيئته، على نحو ما حدث في أيار/مايو 2008.
ومع معادلة فائض القوة لسلاح «حزب الله» بات لبنان خاضعاً لخلل عميق يعطب النظام السياسي ويخرب آليات عمل الدولة بما في ذلك آلية إنتاج السلطة وآلية التمثيل واتخاذ القرار.
ومن المعروف، إزاء هذه المعضلة، أن اللبنانيين ينقسمون منذ مطلع العام 2005، إلى تيارين رئيسيين، حركة 14 آذار، المتولدة من انتفاضة سلمية مدنية أجبرت النظام السوري على الانسحاب من لبنان بدعم عربي ودولي، وتحالف 8 آذار، الذي يضم أحزاباً موالية للنظام السوري وإيران الخمينية، يقودها ويؤطرها «حزب الله» أساساً. وعلى الرغم من انتصار 14 آذار في الانتخابات العامة مرتين (2005 و2009)، إلا أن معادلة السلاح والاغتيالات والترهيب وغزو بيروت بشراذم ميليشياوية بإمرة «حزب الله»، منعت 14 آذار عن السلطة والحكم. وهذا ما شكل تعليقاً للديمقراطية وتوقيفاً اعتباطياً للسياسة ومعناها، عدا عن نسفه لمعنى اتفاق الطائف والدستور.
وأما «الحراك» وتظاهراته في العام 2011، فاصطدم منذ اليوم الأول مع معضلة صوغ جواب فعلي على سؤال الانقسام اللبناني المصيري والوجودي، بغض النظر عن شاعرية شعار «إسقاط النظام الطائفي»، إذ أن اللبنانيين في تلك الأيام كان لسان حالهم مقابل الشعار الشهير «الشعب يريد إسقاط النظام» في عواصم عدة، كانوا يقولون هنا «الشعب يريد النظام». فلا حكومة فعلية ولا سلطة ولا برلمان. هذه المفارقة أودت بتلك التظاهرات القليلة إلى نهاية سريعة مع اندلاع الخلافات بين منظميها، وفق الانقسام الأصلي الذي يضبط معظم اللبنانيين بين 14 و8.
أفضت تلك التجربة الهزيلة إلى ولادة «مجتمعات مدنية»، متباينة ومتخاصمة. وهي على كل حال ضعيفة التمثيل والفاعلية.
في السنوات اللاحقة، ومع ترتيب تسويات متتالية بين ما كان سابقاً «14 آذار» و»8 آذار»، وما استتبعها من تنازلات وتحولات وتحالفات مصلحية وعابرة، وسياسات براغماتية وانتهازية، نشأت «نخبة» سياسية حاكمة ومتواطئة فيما بينها، وفق قواعد المحاصصة والزبائنية وتوزيع المغانم، وعلى قاعدة التناتش بين زعماء الطوائف لمقدرات الدولة ومرافقها وجباياتها ووظائفها ومناصبها. وبررت هذه النخبة «توافقها» أو تسويتها، على مبدأ بقاء الانقسام السياسي ـ الأيديولوجي من جهة، والتعاون على إدارة البلاد والدولة والاقتصاد من جهة ثانية، أي إبقاء النزاع دون الحرب ودون شلل النظام.
أدى هذا إلى تفاقم قياسي للفساد الإداري والمالي. فساد سياسي وأخلاقي إلى حد الفجور. بات النظام التوافقي أكثر جذرية في طائفيته، وفي خطابه الغرائزي والتحريضي، وأشد طلباً للإستتباع والزبائنية، وأفدح نهباً للدولة ومقدراتها، بل وأكثر إهمالاً للمصلحة العامة ولخدمة المواطنين ولصيانة المؤسسات والبيئة.
فجأة اكتشف اللبنانيون هول هذا الفساد: عجز في إنتاج الكهرباء، تهالك متراكم للبنية التحتية، تلوث كارثي للمياه والأنهر والشواطئ البحرية، فضائح مالية كبيرة بلا أي محاسبة، فضائح في القضاء والسجون، أزمة اقتصادية أساسها نمو الدَين العام، تجاوزات وانتهاكات خطيرة ترتكبها أجهزة أمنية… وصولاً إلى الفضيحة المهينة: النفايات، التي ما عاد أحد يجمعها ولا مكان لتصريفها وتبديدها أو معالجتها. غرق اللبنانيون حرفياً بأطنان النفايات. ليتحول لبنان إلى مشهد سوريالي برائحة لا تطاق.
ائتلاف السلطة ـ زعماء الأحزاب والطوائف، القائم على تغييب السياسة (منعاً للحرب الأهلية!)، بوعد صون لبنان وترتيب شؤونه وإدارة مصالح المواطنين وتلبية احتياجاتهم، لا استطاع كبت القلق العميق في السياسة بعد تورط «حزب الله» في الحرب السورية، ولا استطاع تلبية الحد الأدنى من مطالب اللبنانيين ومصالحهم اليومية.
هذا بالضبط، ما أسس لحركة مدنية جديدة، في صيف عام 2015، حين نزلت عفوياً جموع غفيرة من اللبنانيين إلى ساحات وشوارع بيروت، تلبية لدعوة من مجموعة ناشطين احتجاجاً على فضيحة النفايات وروائح الفساد المستشرية.
تألفت هذه الحركة من مجموعتين أساسيتين، واحدة باسم «طلعت ريحتكم» وأخرى باسم «بدنا نحاسب». وذهبت المجموعة الأولى بجمهورها إلى «ساحة الشهداء»، فيما الثانية ذهبت إلى «ساحة رياض الصلح». وهذا الانقسام الجغرافي كان بالضبط على شاكلة الانقسام الجغرافي نفسه لتظاهرات 14 آذار و8 آذار. فمجموعة «طلعت ريحتكم» كانت شبابية وطلابية ومتنوعة التوجهات وضعيفة الصلة بالأحزاب، فيما مجموعة «بدنا نحاسب» كانت واضحة بارتباطها بالحزب الشيوعي وباليسار التقليدي وبعض وجوه الأحزاب القومية و»المناضلين» السابقين، وهو أمر أضفى عليها صبغة سياسية فاقعة.
أيضاً أدى هذا الانقسام إلى بروز فارق نوعي بين مجتمع بيروت المدني وما يسمى «المجتمع المدني». فالأول كان يتحرك وفق شكوى عميقة لمطالبه الاجتماعية والاقتصادية والخدماتية، ووفق نقمة عارمة من فساد الإدارة والدولة وفجور أهل السلطة، واعتراضاً على التكاذب السياسي والكذب الفاحش على المواطنين. أما الثاني الذي يصف نفسه «المجتمع المدني»، فكان على شاكلة التقليد القديم للأحزاب العربية التي تصف نفسها «جماهير الأمة».
على هذا، لم يلبث الحراك الجديد أن تبعثر وتبدد في خضم تناقضاته وبعد أن اخترقته أحزاب السلطة نفسها واستولت عليه تقريباً (التيار الوطني الحر، حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، الحزب القومي..إلخ).

يمكن القول أن مجتمع بيروت المدني، وإثر تجربتي 2011 و2015، نأى بنفسه عن تلك المجموعات المشوبة بانتماءاتها الحزبية والأيديولوجية. ومن هذا النأي صاغ وعياً سياسياً لا يقوم على «القضايا الكبرى»، فإلحاح القضايا المدنية والاجتماعية والمعيشية والبيئية والعمرانية بات هو المعنى الوحيد والشرعي لـ«السياسة». هذه العودة إلى أصل السياسة: إدارة المدينة، شكلت اللحمة الضرورية لجموع المواطنين ذوي الوعي المدني والمديني.

هكذا ولدت في شباط 2016 حملة «بيروت مدينتي». في أحد تقاريري الصحافية أكتب: «الملامح والوجوه مألوفة، إنهم يمثلون حضوراً نعرفه في التظاهرات السياسية، في حملات ميدانية شهدناها عند شاطئ الرملة البيضا والروشة ومار مخايل والحرش، في ساحة الشهداء، في السجالات التلفزيونية، في النشاطات الثقافية العامة. إنهم هؤلاء الذين يتورطون في الشأن العام، كلما ظهرت مشكلة أو أزمة. نخبة مدينية ومدنية، معظمهم مهندسون وخبراء عمران وبيئة واقتصاد وأساتذة جامعات وفنانون».
ضم هذا التجمع عدداً من الناشطين في الجمعيات غير الحكومية، التي عملت في العقدين الأخيرين، في ميادين البيئة والتطوير الحضري والتنمية الاجتماعية، وكان لها إسهاماتها بالتعاون مع البلديات في كثير من المشاريع ذات المنفعة العامة، أي أن هؤلاء الناشطين حصّلوا خبرة كبيرة وواسعة في الشأن البلدي وإداراته، ومعرفة تفصيلية بالحاجات والإمكانات العملية لتحسين حياة العاصمة.
الأهم، أن عصب الحملة هم الناشطون الذين اختبروا الحراك المدني الذي انطلق مع أزمة النفايات. هؤلاء، تجاوزوا تبايناتهم السياسية، وعادوا بالسياسة إلى مبدئها الأول: تدبير المدينة. فخرجوا من الاصطفافات الحزبية والطائفية وقسمة 8 و14 آذار، نحو اهتمامات اجتماعية ملحّة وعمومية في منفعتها ومصلحتها.
من هذا الوعي، وافتراقاً عن سلبيات الحراك المدني، وتجاوزاً لموقف الاحتجاج أو الاكتفاء بالاعتراض والمطالبة، نحو موقف المبادرة الإيجابية.
شكلت «بيروت مدينتي» في الانتخابات البلدية تهديداً هائلاً للوائح أحزاب السلطة ومرشحيها. ورغم عدم فوزها بتلك الانتخابات (بفارق قليل من الأصوات)، إلا أنها نجحت في إجبار الخصوم على التشبه ببرنامجها إلى حد سرقة أفكارها أو على الأقل تبنيها.
كانت هذه التجربة منعشة ومنحت مساحة أكبر للمواطنين الذين يتجاوزون الهوية الأهلية أو الطائفية نحو الهوية المدنية. وللأسف، فالانتقال من الانتخابات البلدية إلى الانتخابات النيابية، أدى مجدداً إلى انفراط عقد تجمع «بيروت مدينتي» تحت وطأة الانقسام السياسي والطائفي والحزبي الذي ينتظم فيه اللبنانيون في كتل كبرى. وما يسمى اليوم «المجتمع المدني» كصفة للمرشحين إلى البرلمان، فلا يعدو أن يكون تمويهاً لمنشقين ومستقلين ضعفاء في بيئتهم الأهلية والطائفية، أو ادعاء لوجهاء محليين ورجال أعمال طموحين.

كاتب وشاعر لبناني / المقال عن القدس العربي

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق