زملاء

محمد أبي سمرا : لبنان في مخاض الخروج على أمير الحرب؟

هل وضعت انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة لبنانَ في مخاض خروجه على تاريخ حروبه الأهلية الدامية والباردة، وعلى سلطان أمير الحرب الذي يعتقله اليوم، ويحوّله إمارة حربية؟
أظهرت انتفاضة اللبنانيين الراهنة – انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 الجاري، الشبابية والشعبية – أن المسافة قصيرة بين وقائع يومياتها، قولها ولغتها ونبضها في الشوارع والساحات، وبين شاشات التلفزيون التي ساهمت بقوة وفاعلية في دبيبها وتوسعها وانتشارها وصناعتها في الأماكن والعلنية العامة والبيوت.

فالانتفاضة شدّت الناس إلى الشاشات التلفزيونية، وأجلستهم أمامها ساعات وساعات في البيوت، بقدر إسهام الشاشات في إخراج الناس من بيوتهم إلى الساحات والشوارع، للتجمهر والاعتصام والاحتفال فيها، ولطلب الوقوف والكلام والظهور على الشاشات التلفزيونية، بحميّة واندفاع لافتين ومحمومين.

الحريري وأمير الحرب
وقد يكون لبنان واللبنانيون بلداً وشعباً تلفزيونيين، ولا شيء يوحّدهما أكثر من التلفزيون الذي يشكل مرآة أساسية لوقائع حياتهم اليومية، حوادثها والخبر عنها ولغتها، ويتدخل في صناعتها. وهذا أقله بعد الحرب (1975-1990)، ومنذ بداية زمن رفيق الحريري اللبناني في مطالع التسعينات من القرن الماضي. وهو زمن اختُتِم باغتياله المدوي، وبمساهمة التلفزيون الفاعلة والقوية في تأجيج “انتفاضة الاستقلال” أو “ثورة الأرز”، الوليدة من حادثة الاغتيال، والمستمرة ما بين 14 شباط و14 آذار 2005. وقد تكون تلك الانتفاضة والانتفاضة الحالية أقوى أوقات توحيدهم التلفزيوني.

وبعد انتفاضة 2005، سرعان ما بدأ زمن السيد حسن نصرالله التلفزيوني، منذ اختبائه بعد حرب تموز – آب 2006، وعدم ظهوره مذّاك وحتى اليوم، إلا في خطبه الدورية المشهودة المتلفزة، التي صنعت هالته المقدسة. ولما كان لهذه الهالة أن تبلغ هذا القدر من السطوة، لولا إيران الخمينية ومالها وسلاحها وعقيدتها الشيعية الحسينية الكربلائية، وصناعتها المقاومة الشيعية للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، وحروب حزبها في الداخل اللبناني، وفي حرب أو مقتلة ومجازر النظام الأسدي للشعب السوري الثائر وتشريده وتدمير سوريا.. ولولا الإطلالات التلفزيونية الدورية لأمير الحروب الإيرانية الدائمة في لبنان وسائر المشرق، منذ اختبائه بعد حرب 2006.

اختفاء المهرجين

لا شك في أن انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة في لبنان، قوضت مسرح التهريج اليومي للزعماء السياسيين اللبنانيين ومهاتراتهم وفضائحهم، وكشفت ضحالتهم، ومزقت الشرنقة الخانقة والموبوءة والقميئة التي سُجنت فيها حياة اللبنانيين السياسية. أقلَّه منذ حاصرت انتفاضة 14 آذار أمير الحرب، فحاصرت الاغتيالاتُ والتفجيرات زعماءَها وقادتها، ورماها الأمير إياه بـ”النصر الالهي” الذي حوّل لبنان “جمهورية خوف”، وراح يخاطبها تلفزيونياً من مخبئه السري، مهدداً متوعداً نيابة عن سيده الإيراني وجيشه السري في لبنان.

أما النواب والوزراء اللبنانيون الذين يعيّنهم ويديرهم الزعماء “الكبار” الخمسة أو الستة (حسن نصرالله، نبيه بري، ميشال عون، سعد الحريري، وليد جنبلاط، وسمير جعجع)، فقد غيبتهم انتفاضة 17 تشرين، وأسدلت عليهم يومياتها، موقتاً على الأقل، ستاراً، فبدوا من ورائه كما صورتهم كلمات المنتفضين في الشوارع والساحات وشهاداتهم المتلفزة: زمرة من الدهاقنة النّهابين المتسلقين والدجالين، الذين أفقروا البلاد وتسلطوا عليها، وتركوا أهلها يتخبطون في الذل والمهانة والقهر.

ولم يكذّب الزعماء ونوابهم ووزراؤهم وبطاناتهم وحاشياتهم ما ذهبت إليه الانتفاضة، فسكتوا واختفوا بعدما انهار مسرحهم، وعجزوا عن أي قول يرد عنهم سيل التهم المنهالة عليهم كعاصفة مفاجئة انفجرت في وجوههم وأخرستهم، بعدما كان هذرهم الفضائحي يملأ الشاشات التلفزيونية ويشغل الناس.

وبعد الأيام الأولى من انتفاضتهم، انتقل ناس الانتفاضة في الشوارع والساحات وعلى الشاشات، من شتم زعمائهم إلى التظلم منهم، وصوّرُوهم وباءً سمّم حياتهم ونكبها وجعلها لا تطاق، ولم يترك لهم خلاصاً من الوباء ومنهم سوى الخروج إلى الشوارع والانتفاض عليهم وشتمهم بلا هوادة، وعرض مظالمهم الشخصية، فرداً فرداً، أمام الكاميرات التلفزيونية. أما زعماؤهم الثلاثة الأساسيين والمتصدرين بتفاوت المشهد السياسي والحكومي (حسن نصرالله، ميشال عون وظله جبران باسيل أو العكس، وسعد الحريري)، فخرجوا عليهم في إطلالات تلفزيونية ثلاث، ووافقوا على أقوالهم ومظالمهم، وكالوا لها ولهم المدائح والنصائح، لتكون انتفاضاتهم مقبولة وفاعلة. ورمى كل من هؤلاء الزعماء المسؤولية عما آلت إليه أحوال البلاد وأهلها، على سواه، متبرئاً هو ورهطه منها. والحق أن تقاذف المسؤولية والتبرّؤ منها، هو لب السياسة اللبنانية ومركبها الديموقراطي الطائفي.

الإرث والثورات المضادة

وجعل المنتفضون انتفاضتهم وانفجارها، منصة تلفزيونية لتبرُّئهم من زعمائهم وأفعالهم المديدة، ومن سكوتهم المديد عليهم وعلى تلك الأفعال. وهم في هذا قسروا الانتفاضة كلها، كلاماً وصوراً وكرنفالات، على ذلك التبرّؤ، على مسرح سيال يعرض أحوالهم ومظالمهم، مبتهجين بخروجهم من شرانقهم وولاءاتهم التي سجنهم الزعماء فيها، وسجنوا أنفسهم، أقله منذ تسعينات القرن الماضي. وذلك بعدما خرجوا خروجاً منقوصاً وموقوفاً من حروبهم الأهلية أولاً، ومن قمقم الوصاية والسيطرة والولاية الأسدية عليهم وعلى بلادهم وزعمائهم، وإرادتها وإدارتهم على مثال حرب أهلية باردة، صدعوا واستجابوا إليها صاغرين، وأخرجهم منها وعليها اغتيالُ رفيق الحريري، خروجاً منقوصاً ومعلقاً.

لكن انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة سكتت سكوتاً تاماً عن ذلك الإرث المديد الذي يشكل مسار تاريخ لبنان السياسي ومداره، منذ بدايات حروبه في العام 1975. وهذا ما فعلته انتفاضة الاستقلال سنة 2005، بسكوتها عن التاريخ والإرث الذين سبقاها. وفي الانتفاضتين هاتين، كانت الكرنفالات الآنية في الشوارع والساحات وعلى الشاشات التلفزيونية، هي الفعل السياسي المشهدي الأساسي، والذي طغى على القول والعمل السياسيين.

وحده أمير الحرب التلفزيوني وجيشه السري وجمهوره المرصوص المطواع، كانوا متهيئين على الدوام للقيام بانتفاضات أو ثورات مضادة، تستعمل التلفزيون ومشهدياته أدوات سياسية حربية واقعية، وغير آنية، بل معدّة ومبرمجة ومخطط لها في السر والخفاء. لذا حطم أمير الحروب ورهطه، بثورتهم المضادة المبرمجة خطوة خطوة، انتفاضة استقلال 2005 التي عجزت مشهديتها الكرنفالية الديموقراطية والآنية، عن القول والفعل السياسيين اللذين يحوّلان مراجعةَ التاريخ الكئيب السابق عليها والمفضي إليها، عملاً سياسياً ديموقراطياً، فاعلاً ومستمراً في دوائر العلانية العامة ومنابرها.

ولم تستفد انتفاضة 17 تشرين الأول الراهنة من انتفاضة الاستقلال المحبطة والمهزومة، والتي حولها زعماء السياسة والجماعات ورهطهم دوائر ومنصات وشرانق لتمتين زعاماتهم وأجهزتها الحزبية المغلقة على الولاءات والإعالة والتصدر والمكانات، وتقاسم المغانم.

بل قد تكون الانتفاضة الجديدة قد استفادت من انتفاضة 2005، بخروجها الصريح من شرانق الزعماء وأجهزتهم الحزبية والسياسية، وعليها، قولاً وفعلاً وعملاً، بعدما نضبت مصادر الإعالة وتقاسم المغانم في إدارة الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وأشرفت على الانهيار والإفلاس.

العونية المتأخرة

وقد يكون التيار أو الشيعة السياسية العونية هي الأشد جوعاً ونهماً إلى المغانم والإعالة والتسلق والتصدر والمكانة، لأنها وصلت متأخرة إلى نادي قدامى زعماء الحروب والمغانم وشرانقهم، وأرادت إحداث انقلاب فيها، وخصوصاً على الحريرية التي تصدرت على نحو هادئ ومديد المشهد السياسي في دولة ما بعد الحرب، باسم الإعمار والبناء، في ظل الوصاية الأسدية على لبنان، وتقسيمها السياسة والحكم والدولة والبلاد والجماعات إلى دوائر واختصاصات متفرقة متباينة، وتابعة كلها لها وتديرها: حذف المسيحيين عموماً من المعادلة اللبنانية وتهميشهم، ونفي زعمائهم، لقلة عدائهم للغرب وإسرائيل، وعدم حربهم عليها بوكالة أسدية ونيابة عن ديكتاتورية في سوريا. واستعمال الحريري لإدارة الإعمار والبناء وتوزيع المغانم على أمراء الحرب والطوائف. واستعمال الشيعية أهل حرب وإمارة حربية على إسرائيل، بوكالة أسدية – إيرانية مزدوجة.

وبعد حرب 2006، والثورة السورية القتيلة والمغدورة منذ 2011، راحت الإمارة الحربية الشيعية وأميرها يتسلطان على لبنان تسلطاً كاملاً لتحويله كله إمارة حرب أمنية وسياسية إيرانية. وبعد مخاض عسير أوكلت إلى الحريرية الجديدة المنهكة إدارة الشؤون الحياتية والمعيشية في هذه الإمارة، بالتقاسم مع الشيعة العونية الجائعة والنهمة الى المغانم والتصدر، والى الثأر من الحريرية التي أرسى ركائزها رفيق الحريري.

معجزة سياسية
هذا الإرث الثقيل والمديد هو الذي تحاول انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة الخروج منه وعليه، بشتيمة الزعماء أولاً، وبالتظلم منهم ثانياً، وبإحيائها كرنفالات يومية في الشوارع والساحات، احتفالاً بهذا الخروج الآني الكبير. وهو خروج كبير بقدر ما ضاق به صدر أمير إمارة الحرب اللبنانية، الخبير بالتحضير للانتفاضات أو الثورات المضادة، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، والتي باشرها في ساحتي رياض الصلح والشهداء، قبل بدئه بخطبته الأخيرة وفي ختامها. وأشد ما يضيق به صدر أمير الحرب وجيشه السري ورهطه الجماهيري، هو نزع القداسة عنه.

وكم تبدو صعبة ومريرة وغامضة، وتحتاج إلى جهد جبار متصل، مغادرة انتفاضة 17 تشرين الأول الراهنة، الشتيمة والتظلم وعرض الحال أمام عدسات الكاميرات التلفزيونية؟ وذلك لاجتراح قول وفعل سياسيين صريحين يراجع ذلك الإرث المديد والثقيل، للبدء في محاكمة إمارة الحرب وسلطان أميرها على لبنان واللبنانيين. وكذلك أسراه ومواليه من الزعماء والسياسيين الذين أسدلت الانتفاضة الراهنة الستار عليهم آنياً، فغابوا غيبته في انتظار الترويع الذي قد ترتكبه ثورته المضادة، ليعودوا الى مسرحهم الموبوء في رعايته وحمايته.

نقلا عن المدن

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق