زملاء

ديمة ونوس : قناص

على سطح العمارة، يقف. يمدّ رأسه قليلاً ليرى الشارع المطلّ عليه. يمتلك مدى يصل إلى 1600 متر. يرتدي ملابس مريحة. بنطال جينز ربما وكنزة قطنية وحذاء رياضياً. قد يكون نحيلاً وساعداه رخوان. إلا أنه يقف هناك. شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره. يمتلك حيّزاً من المكان، يجعله سيّد اللحظة، وصيّادها. مساحة الزمن، تسعفه وتزيد من براعته. يحمل بندقية من طراز “دراغونوف 54×7.62 ملم”. بندقية روسية أدخلت الخدمة العام 1967. خفيفة الوزن (4 كلغ). سرعة طلقتها يصل إلى 830 متراً في الثانية. مخزنها يتسع لعشر طلقات ساخنة كرغيف خبز.

ليست مهمّته مستحيلة. حتى ولا معقّدة. تكفيه قوة الملاحظة والبراعة في التركيز. حادّ البصر. ثابت العزيمة. لديه قدرة هائلة على الانفصال عن كل ما يحيط به، بما في ذلك حدود جسده. يتحول إلى مجرّد عين تحدّق في المنظار وتبحث عن الهدف. حياته تصبح محصورة في مساحة تلك العدسة. كل ما يتحرّك، يعتبر هدفاً. هو شخص “حرّ” الخيار، صاحب قرار، ينتقي هدفه من بين عشرات الأهداف، المهم أن يعود من مهمته خفيفاً، مع بارودة فارغة.

يمتلك السماء. السقف الذي يعلو المتظاهرين السلميين. هو فوق. ذلك الـ”فوق” الذي كان يومئ إليه السوريون طوال عقود للإشارة إلى السلطة العليا مجهولة الهوية، مطلقة الصلاحيات. هو يرى الكل، والكل لا يراه. يتحيّن الفرصة، يقتنصها. يتمتع بالجرأة، لكنه يفتقر إلى الشجاعة. لا يواجه. عيناه لا تنظران إلى عيني خصمه. لا نعرف إن كان قادراً على إنجاز مهمّته بالكفاءة ذاتها، وجهاً لوجه. هل باستطاعته التقاط عيني من يقف قبالته والتركيز على هدفه في الوقت ذاته. هو ينفصل عما حوله، صحيح. لكن لا نعرف إن كان قادراً على فصل حواسه بعضها عن بعض. العين عن اليد، عن الصدر، عن القدمين، عن الخوف. هل يشعر بالخوف؟ هل يؤلمه صدره عندما تخترق رصاصته صدر المتظاهر؟ هل ترفّ عينه إن صنعت الرصاصة عيناً ثالثة بين عيني المتظاهر؟ هل يشعر بالوجع؟ هي تسري في جسمه قشعريرة ما، عندما يتهاوى من دخلت الرصاصة إلى أحشائه؟ أيراه يتهاوى، أم أنه يصوّب ويطلق وينتقل سريعاً إلى هدف آخر؟

يقف القنّاص على سطح العمارة وحيداً أو بصحبة قنّاصين آخرين. يقف فوق بيوت مأهولة لا يعرف سكّانها بالضرورة أن سقف بيتهم يفصلهم عن حذائين رياضيين وعينين ثاقبتين وبندقية.

القنّاص أيضاً، يحبّ اللعب. ثمة طفل يلهو وراء أضلاعه. ثمة طفل لم يكبر بعد. قتل المتظاهرين السلميين بداية الثورة، لم يكن مسلياً. فالقتل من أجل القتل، ليس هواية تجمع القنّاصين كلّهم. بعضهم يحتاج إلى موضوعة تستثير الأدرينالين، فيتسرّب إلى دمه، ويكون إفرازه كثيفاً، لزجاً، عند منطقة العينين، وفي أصابع اليد اليمنى على الأرجح. الموضوعة كما روى جرّاح بريطاني تطوّع للعمل في إحد مستشفيات مدينة سورية، هي “لعبة” يختارونها كل يوم. لم يذكر الطبيب كيف يتمّ اختيارها، هو لا يعرف غالباً. ربما يجلسون كل مساء، يتحلّقون حول مائدة طعام، يقترحون، يتجادلون، يصوّتون، يعتمدون اللعبة التي نالت أصواتاً أكثر. نعم، إنهم يصوّتون. وصوتهم له أهمية. ولكي تزيد اللعبة من حماستهم، وربما لا تنقصهم الحماسة، يختارون جوائز يومية، ينالها من يصيب الهدف. علبة دخان مثلاً أو مئة ليرة سورية (أقلّ من دولار واحد). لعبة اليوم، العنق. غداً، الصدر. بعد غد، الجبين. صباحاً، عندما يأتي إلى المستشفى المصاب الأول، يعرف الطاقم الطبي نوع الإصابات التي ستأتيهم بقية النهار. كلها في العنق أو كلها في الصدر. أما النساء الحوامل، فتخترق الرصاصة بطونهنّ. الهدف هو رأس الجنين. هل يجرون بحثاً عن أطوار الحمل وعن تموضع الجنين داخل بطن أمّه؟ هل يحزرون مكان رأسه من حجم استدارة البطن؟ هل يرسلون أحد أعوانهم إلى المستشفى ليعرف ما إذا أصاب زميله الهدف أم حاد عنه؟

تلك الحرب غير المتكافئة تدور بين السماء والأرض. بين “فوق” و”تحت”. بين سلاح وجسد، عين أو صدر أو عنق أو جنين. بين شخص يتخفّى وأشخاص مكشوفين. بين سوري يمتلك سلاحاً، وبين سوري آخر أعزل، يمتلك صوتاً وإرادة، وحظاً قد يحالفه وقد يقضي عليه.

المدن … | الخميس 03/07/2014

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق