زملاء

فدوى سليمان تكتب عن مارلين هاكر شاعرة الموت واللاجئين والحرية

من اللحظة التي تطأ فيها قدماكَ أرض اللجوء، تتلاشى ملامحكَ، تفقد هويَّتكَ، ولا تتعرف إلى اسمكَ ولا عمركَ، وخصوصاً عندما تُطلَب منكَ هذه المعلومات في مكاتب اللجوء. يختفي صوتكَ وأنتَ تسمع لغةً غير لغتكَ، ينطق بها كلّ شيء حولكَ. ترى حروفكَ تسقط أمامكَ ولا قدرةَ لك على لملمتها. كأنّ شيئاً ما يسحبها من رأسكَ، تشعر أنّك بلا ذاكرة، خارج الزمان والمكان. شبح لا مرئيّ، يمرّ على الأشياء، ولا يترك ظلَّه على شيء، ثمَّ تعود لتدفن نفسكَ بين حروف لغتكَ، وتبحث في التاريخ والكتب والأدب والشعر والمسرح، حتى أنّكَ تبدأ البحث في الجامعات عن أيِّ فرع يتعلَّق بدراسة اللغة العربية، وهذا ما يفِّسر اشتغال أغلب السوريين في تدريس الأجانب لها، وتزايد عدد الكتّاب والشعراء والصحافيين، لحاجة البقاء على اتصالٍ معها.

كنتُ قد طلبتُ من صديقتي أن تساعدني في إعلان رغبتي في تدريس اللغة العربية. ذات صباح، فتحتُ بريدي الالكتروني، فوجدتُ رسالةً بالفصحى: “صباح الخير، أنا مارلين، أعطتني صديقتكِ عنوانكِ الالكتروني، أرغب في دراسة اللغة العربية، وأن أُنشد الشعر، وهل هناك أجمل من أن أقوم بهذا مع كاتبة وممثلة وشاعرة مثلي”. حدّدنا موعداً. يعود الماضي بأسلوبٍ آخر. في حيِّ تورين، في مبنىً يعود بناؤه إلى القرن السابع عشر، ما إن فَتَحت لي الباب، حتى هبَّت عليَّ لغات الأرض، من كمِّ الكتب في الغرفة. احتاجت مارلين إلى ثوانٍ كي تجد اللغة التي تكلّمني بها، فهي تحيا مع اللغات وباللغات.
صعدنا درجاً خشبياً، كانت مارلين تُعدّ القهوة، وأنا مذهولة أمام الدواوين المنتشرة فوق الطاولة بكل اللغات لمحمود درويش.
– سنبدأ الدرس اليوم، بقصيدة لدرويش. أحضرت ورقةً مكتوبة بخطّ يدها بالعربيِّة، وبدأت القراءة: “جواز سفر/ لم يعرفوني في الظلال التي/ تمتصّ لوني في جواز السفر/ وكان جرحي عندهم معرضاً/ لسائحٍ يعشق جمع الصور/ لم يعرفوني، آهٍ… لا تتركي/ كفّي بلا شمسٍ/ لانّ الشجر يعرفني/ تعرفني كلُّ أغاني المطر/ لا تتركيني شاحباً كالقمر/ كلّ العصافير التي لاحقت/ كفّي على باب المطار البعيد/ كلّ حقول القمح/ كلّ السجونِ/ كلُّ القبورِ البيضِ/ كلُّ الحدودِ/ كلُّ المناديلِ التي لوَّحت/ كلُّ العيونِ/ كانت معي، لكنّهم/ قد أسقطوها من جواز السفر/ عارٍ من الاسمِ من الانتماء/ في تربةٍ ربّيتُها باليدينِ/ أيّوبُ صاح اليومَ ملء السماء/ لا تجعلوني عِبرةً مرتينِ/ يا سادتي الأنبياء/ لا تسألوا الأشجار عن اسمها/ لا تسألوا الوديانَ عن أمّها/ من جبهتي ينشقّ سيفُ الضياء/ ومن يدي ينبع ماء النهر/ كلّ قلوب الناسِ جنسيَّتي/ فلتُسقِطوا عني جواز السفر”.
ردَّدتِ القصيدة مرّاتٍ ومرّات، في كلّ مرة كنت أصحّح لها التشكيل، والسكتات، والوقف، وأنطق لها الكلمات حرفاً حرفاً كي تصحّح مخارج الحروف، كالعين والحاء والخاء والهاء، لكنني تحولتُ إلى ظلال طفلةٍ عمرها ستّ سنوات. ذات يوم اصطحبتني أمي إلى الطبيب. لا أعرف لماذا خطر في بالها يومذاك أن تدلّني إلى بعض معالم منطقتنا. كانت كلّما مرّ الباص في حيِّ من الأحياء تسمّيه لي، حتى وصلنا إلى المركز الثقافي الذي أشارت إليه أيضاً. فما كان منّي بعد أيام، إلا أن ركبتُ الباص وحدي وقلتُ للسائق أن يُنزلني بجانب المركز. لم تكن صدمته بوجودي في الباص من دون مرافق، أقلّ من صدمة موظفي المركز، عندما سمعوا صَوتاً يقول: أريد المجموعة الكاملة لمحمود درويش. بدأوا يبحثون حولهم عن مصدر الصوت، حتى رأيت وجهاً منحنياً فوق وجهي من خلف طاولة الاستقبال. نادت الموظفة موظفاً آخر، وبدأا باستجوابي حتى عرفا أصلي وفصلي، وكيف وصلتُ وحدي إلى هنا، ثمَّ راحا يضحكان وقد عرفا أخاً وأختاً لي كانا معاً في المدرسة، فبطل عجبهما من ناحية حبِّ القراءة المتوارث، وطلبا إليَّ ألاّ أكرّر القدوم وحدي، واحتارا ماذا يفعلان كي يعيداني إلى بيتنا، ولم يكونا متأكدين من أنَّ أهلي يعرفون بحضوري وحيدةً إلى المركز، حتى قلت: “جئتُ وحدي كما تريان، وسأعود وحدي، أعرف الطريق”.
كانت أسرتي في حالة جنون تامّ. قبل أن أصل إلى البيت بخمسين متراً، سمعتُ اسمي يتردد صداه في الحارة منطلقاً من أرجاء البيت. رآني أخي فجأةً أمامه حاملةً كتاباً أثقل مني، نلتُ يومها جزائي ضرباً كتعويضٍ عن الهلع الذي تسببتُ به لهم، ومن يومها تعلمتُ كيف أختار وقت انشغالهم بأمرٍ ما كي لا ينتبه أحدٌ لاختفائي، ثمَّ أخفي الكتاب تحت ثيابي قبل أن أصل إلى البيت، ثمَّ أصعد إلى السقيفة من دون سلَّم، كي لا يعرف أحدٌ مكاني.
لم أكن أتخيَّل يوماً، أن القصيدة التي حفظتُها عن ظهر قلب، وكنتُ أغنّيها في كثير من الأحيان، سأكونها يوماً وتكونني، وستحفر حروفها أوجاعي، في غرفةٍ في باريس، مليئة بالكتب، كسقيفة بيتنا، صعدنا درجها الخشبي أنا ومارلين.
فجأةً أصبح زكريا تامر فوق الطاولة، بمجموعته القصصية “القنفذ”. اختارت قصةً قصيرة عنوانها “صديقتي التي لا تُرى”. لم أعد أرى إلا وجه مارلين الضاحك وهي تقرأ مستمتعةً بجمال اللغة، وذكاء الفكرة.
سقيفةُ بيتنا، طفلة في السابعة من عمرها، تُخرج كتاب “لماذا سكت النهر” من تحت ملابسها، بعدما كانت قد أخرجت ديوان سميح القاسم، ثمّ توفيق زيّاد، ثمّ “التراب الحزين” لبديع حقي، ثمّ “أرض البرتقال الحزين” لغسان كنفاني، ثمّ تحوّلت إلى القصص القصيرة لزكريا تامر، الذي خلق لي كوناً في سقيفتي.
كيف تعرَّفت إلى زكريا تامر يا مارلين؟
– كنتُ أدرس اللغة العربيّة في معهد العالم العربي، وكان أحد الدروس، نصاً لزكريا تامر أعجبني جداً. ذهبتُ فوراً إلى المكتبة كي أبحث عنه، وجدت كتاب “القنفذ” وهو مجموعة قصصية للأطفال. صحيحٌ أنّ الراوي طفل في حكاية “صديقتي التي لا تُرى” وفي “أخبار الحائط”، لكنّي أجد أنهما قصتان للكبار وليستا للصغار.
وصلتُ إلى البيت، أردتُ التعرف إلى مارلين التي لم أكن أعلمُ عنها الكثير. فتحتُ الكتيِّب الصغير الصادر عن “بيت الشعر” في المغرب، الذي كانت قد أعطتني إياه، لأجد أمامي قصيدة “جديلة ثوم”، إلى روح الشاعر محمود درويش: “النساء المسنَّاتُ يلبسن الحداد ليذهبن إلى السوق/ يشترينَ السمك. التين. الطماطم. ما يكفي/ لإطعام الذئب النائم تحت الطاولة/ المستيقظ من أيّ حلم؟/ ماذا يأتي مع تغيّر الفصول سوى الخسارة؟/ مات الذي كنتُ أجرؤ على أن أسمّيه أخاً/ بتلك البقيّة من الحياة الجاثمة على كتفه/ كغُرابِ بَين/ ألقى رمية النرد الأخيرة. التقى/ مُحاوِره الأفضل والأخير أيَّاماً قبل أن/ يضطجع على سرير الجراح الذي قد وقد لا/ يُطيل عمر المقامرة/ هم المعنيّون بما قالوه. اليومَ ابنٌ يكتب/ المراثي رغم أنّ له أباً على قيد الحياة/ أحدهم يعشق شايَ المريمية. آخر منح العالمَ رائحة/ قهوةِ أمِّه” (مارلين هاكر “شاعرة الموت كما الحبّ والفرح والنبيذ كأبي نّواس”.
ولدت الشاعرة الأميركية مارلين هاكر في العام 1942، درّست الأدب الفرنسي في الجامعات الأميركية، وتعيش اليوم بين باريس ونيويورك. بدأت بكتابة الشعر في سنّ مبكرة جداً، وطُبع ديوانها الأول، “تقديم نص”، في العام 1974. من أعمالها الشعرية، “فراق” 1976، “تدوين ملاحظة” 1980، “افتراضات” 1984، “العودة إلى النهر” 1990، ثم “حب، وموت، وتقلبّ الفصول”، 1994، وقصائد مختارة 1965-1995، وأيضاً “المدن الأولى” 2003 و”باحات وميادين” 2000 .
حازت جوائز عدة، منها جائزة الكتاب الوطني 1975، وجائزة غوغنهايم (1980-1981)، وجائزة برنار كوينر وجون ماسفيلد التذكارية من مجمَّع الشعر الأميركي، وفي العام 2008 عُيِّنت مستشارة لأكاديمية الشعراء الأميركيين. في العام 2011 حصلت على جائزة الأركانة الدوليّة التي يسلِّمها “بيت الشعر” في المغرب لشاعرٍ على المستوى العالمي، كان حصل عليها كلٌّ من الشاعر الصيني بي داو والمغربي محمد السرغيني والفلسطيني محمود درويش والعراقي سعدي يوسف، والكاتب والشاعر المغربي الطاهر بن جلون. بذلك تكون مارلين هاكر أول امرأة تنال جائزة الأركانة الدوليّة.
يقول رئيس “بيت الشعر” في المغرب، الشاعر نجيب خداري، عن هذا الحدث: “لم تكن حتى قصديّة اختيار امرأة ماثلة أمام أعضاء اللجنة، كلُّ ما كان في وعيهم هو أفق الجائزة وأهدافها، في تكريم تجربة شعريّة ذات منحىً إنسانيّ عميق، ينافح عن قيم الحريّة والسلم والاختلاف. مارلين هاكر التي أنجزت مساراً شعرياً وأدبيَّاً لافتاً في الشعريَّة الأميركية والانجليزية المعاصرة، وعلى مدى نصف قرن، هي من أبرز من ناضلن بالإبداع الشعري، خصوصاً ضد الألم والفقر والعنف والحرب والكراهية”.

أنباء صباحية
“يطغى نسيم الربيع على رائحة عادم الحافلة. الخبز/ والبطاطا المقليّة. وأطراف الأغصان الخضراء/ يردّد أخباراً عتيقة: غطرسة جهالة. حرب/ حائط اللبن يفصل بين بيتين/ آلَ بدوره إلى أنقاض. على إحدى جهتيه كان هناك مجلى/ مطبخٌ وخزانة. على الأخرى كان/ هناك سرير. رفٌّ للكتب. ثلاث صورٍ مؤطّرة /انتثر الزجاج على الصور/ نصفا رغيفٍ صغيرٍ يابس/ على خزانة المطبخ. كان ملجأً موقتاً. شاحنة بلاستيكية تحت أغصان/ شجرة تين. سكّينٌ يلتمع في المطبخ/ بكلّ بساطة لتقطيع الثوم. آلات الحرب/ قادمةٌ لا محالة تقصد بيوتاً محدَدة/ بينما المدنيّون يمكثون آمنين في بيوتٍ أخرى/ يقرأون الجريدة، التي تخلق صورها/ المسوِّغات المطهّرة للحرب/ هناك أصنافٌ لا تعدّ ولا تحصى من الخبز/ الذي جُلب من المخابز. خبزٌ في المطبخ /التاريخُ. المدى. يشيان أيٌّ منهما قد/ سقط من يد طفلٍ تحت الأغصان المدمَّاة”.
في التقرير الذي جاء في الكتّيب الصادر عن “بيت الشعر” يلخصون تجربة مارلين هاكر الشعرية بالقول: “مخترقةٌ بالذاتي الذي عرفت كيف تنحاز به جهة الفرح، سواءٌ في جسارتها الإيروسية، التي تزعج أحياناً، أو في صراعٍ إنساني جمالي شعري ووجودي قوي مع الموت، فعلى الرغم من الحضور اللافت لثيمة الموت في نصوصها، على إثر داء السرطان الذي واجهته، فإن هذا الحضور ظل مسيَّجاً بما يُضعف الهلع المتولد منه، ظلّت قصائد الشاعرة حتى في نصوص الموت، مضمرة لمحبة الحياة، والإقبال عليها، وهذا ما شكّل رؤية ثاوية وراء كتاباتها الشعرية، على نحو يخترق ما هو ذاتي ويتجاوزه. ذلك ما يتجلى في نبذ نصوصها لكلّ أشكال الموت، سواء اقترن بالعنف اليومي، أو باستشراء الحروب في التوترات والنزاعات”.
“الأول من أيلول سيأتي كلّ مرة/ وسيأتي أولادٌ من الدومينيكان/ وستكون مباراتهم لكرة القدم مثار حديثٍ بريء/ لشخصين يشربان القهوة بلا غطاء/ سيكون هناك غروب/ بضوءٍ ورديّ فوق النهر، مثلَ كاتدرائية/ سيكون هناك زورق مسلّ ومغبرّ/ يسحب برجاً من البضائع”.
نعود إلى الدرس. كالعادة، تبدأ مارلين بقراءة قصيدة “جواز سفر”، تتلوها كنص مقدّس، تفتح كتاب “حالة حصار” وتقرأ: “إذا لم تكن مطراً يا حبيبي فكن شجراً/ مشبعاً بالخصوبة كن شجراً/ وإذا لم تكن شجراً يا حبيبي فكن حجراً/ كن حجراً مشبعاً بالرطوبة كن حجراً/ وإذا لم تكن حجراً يا حبيبي فكن قمراً/ كن قمراً في منام الحبيبة كن قمراً”. هذا ما كتبته امرأةٌ لابنها في جنازته.
تقول عاشقة درويش: “أريدُ قراءته بالعربية فقط لأنها أجمل، لم ألتق به إلا ثلاث مرات، إحداها كانت في باريس بعد موت المفكّر العربيّ إدوارد سعيد، قرأ حينها درويش قصيدة كتبها في هذه المناسبة في المكتبة الوطنية. الشعر بالنسبة لي فكرةٌ في رأسي، كلمةٌ أريد أن أقول من خلالها شيئاً لأحدٍ ما”.
ثم تبدأ بقراءة “أخبار الحائط” لزكريا تامر. ترجمت مارلين هاكر كتاب “القنفذ” لزكريا تامر إلى الفرنسية، وبدأت بترجمته إلى الانكليزية، نُشِرَت أربع قصص في مجلة أدبية انكليزية، “كريتيكال مسلم”، يدير التحرير فيها مديران، أحدهما الكاتب والصحافي روبن ياسين قصاب من أصل سوري، والآخر باكستاني. غالبية المجلة عن كتَّاب وروائيين سوريين ومن العالم العربي والإسلامي. نُشرَت قصة “صديقتي التي لا تُرى” باللغة الفرنسية في مجلة “القرن 21” في العدد 23، وهي مجلة أدبية تصدر في فرنسا، حيث تعمل مارلين هاكر في هيئة تحريرها. على الرغم من أنّ المجلة تُعنى بالأدبين الإنكليزي والأميركي، خُصِّص ذلك العدد في معظمه لنشر نصوص شعرية وأدبية ومسرحية لشعراء وكتَّاب سوريين، كتبوا نصوصاً خلال الثورة، بعد ترجمتها إلى الفرنسية، محاولةً من هيئة تحرير تلك المجلة إلقاء الضوء على ما يجري في سوريا عبر “الأدب الراهن من سوريا، خلال الصراع”، في وقتٍ وقفت فيه الهيئات الدولية صامتةً أمام ما يحدث في سوريا من مجازر وعنف. كان هدف المجلة أيضاً تقديم كتَّاب وأدباء لم يسبق أن تعرَّف إليهم العالم الغربي.
¶ ماذا تُحبين بشكل عام يا مارلين؟
– أنا شاعرة الموت، كما الحب والفرح والنبيذ كأبي نواس، أحبّ النهر، الشوارع، السماء، الحياة. أنظري إلى السماء كم هي جميلة، وكم جميلةٌ تلك الغيوم، وأحبّ الحرية أيضاً.
¶ لكنّ الحريّة مفهوم واسع، هل أنتِ حرة؟ وكيف؟
– مَن هو الحرّ في هذا العالم؟ الحرية بنت الحلم، ولكن حلم مَن؟ أشعر أنني حرّة عندما أكتب المقالات والشعر، وكما قال التاجر للحصان في قصة زكريا تامر: فقدت حريتك عندما قبلتَ أن تجرّ عربتي مقابل الشعير، ومن الصعب عليك استردادها، لن تتمكن من العودة إلى البراري، من يقبل بأن يفقد حريته مرة، سيفقدها للأبد.
“تثير الريح توقاً في رأسي. أصبو إلى/ سطوح الماء، خفيفةً على أربع ضفاف أنهرٍ مختلفة،/ ثمّة ارتعاش فضيّ على حافّة الضفة، شلّالٌ/ يطلع مني حين أهبط فوقك”.
عن حياتها تروي: “ذهبتُ إلى بريطانيا عندما كان عمري أربعة وعشرين عاماً، استأجرتُ دكاناً في أحد أسواق لندن لكي أبيع الكتب فيه، أتيتُ إلى باريس لكي أشتري كتباً عن الأثاث والتصاميم وهندسة العمارة، حينها قلت إنني سآتي للعيش هنا، أفضّل العيش في باريس على العيش في أيّ مدينة أخرى. يبقى لنيويورك حبّي أيضاً، فهي مسقطي ومدينتي. ما أحبّه في باريس هو التنوّع البشري والثقافي والعرقي، أراها كقرية صغيرة مقارنةً بنيويورك، كلّ حيّ من أحيائها قرية مختلفة عن الأخرى، وأجمل شيء فيها كثرة المكتبات. كان في نيوورك العديد منها عندما كنت صغيرة، ولكن اليوم اختفت تقريباً. أظنّ أن باريس وبيروت آخر مدينتين في العالم اليوم تكثر فيهما المكتبات. في كلّ حيّ من أحياء باريس توجد مكتبة، والأهم من هذا أنّك تجدين كتباً بكلّ اللغات، لا تجدين هذا في لندن ولا في نيويورك، لكن ما يزعجني في فرنسا، أنّهم لا يهتمون لأمر الشعر كثيراً، لقد وضعوه جانباً. اليوم قبل أن أقابلك قرأتُ بالمصادفة على الأنترنت مقالتين مختلفتين، الأولى في صحيفة “ميديا بار” تنتقد حال الشعر في فرنسا، وتقول إنّه على الهامش ويحيا في الهامش، وإننا لم نعد نجد دواوين الشعر إلا في بعض المكتبات النائية، ولكنني حين أفكرُ في درويش عندما قرأ قصائده في مبنى الأونيسكو، كان هناك ألفا شخص، وعندما أراد أن يقيم أمسيّة في مسرح الأوديون لم يستطع أحد أن يجد بطاقات للدخول قبل ثلاثة أيام من تاريخ الأمسية، وهذا لا يعني أنّ الشعر على الهامش. المقالة الثانية كانت في صحيفة “ذا غارديان” الانكليزية، عن عشرين شاعراً جديداً سيقرأون كتبهم، نصفهم نساء، ثلاثة أو أربعة منهم من أصل هندي وأفريقي”.
مارلين هاكر التي تعيش هواجس الشعر، لا تنأى عن آلام ما يعانيه الناس سوريا والعراق وفلسطين.
– تربطني علاقات ثقافية وإنسانية بأشخاص في كل من سوريا والعراق وفلسطين. يومياً أتلقى عشرات الرسائل الالكترونية، من فلسطين ومن بيروت ومن الموصل ومن أصدقائي اللاجئين السوريين في فرنسا وهولندا. تقول الرسائل: “بيتي تهدّم، لم يعد لدينا مأوى، الألوف يموتون تحت القصف، لا نعرف من سيقتُلنا، “داعش” أم النظام، بعد قليل، سينضمّ الشباب السنّي إلى داعش”. كلّنا يعلم أنهم قد ينضمّون إليهم مع الأسف، ليس حباً بهم، ولا إيماناً بأفكارهم الظلامية، وإنما اتّقاء لشرّهم، وحمايّة أرواح من بقي من ذويهم وأصحابهم. أنا حزينةٌ جداً لما يحدث في سوريا اليوم. في بداية العام 2011 كان لدينا أمل كبير، سوريا بلد غنيّ بكلّ شيء، غنيّ بأناسه الحميمين، بثقافته وأدبه وفنّه وشعره. الشعب السوري يملك الغنى الإنساني.
“هل تصوّرت أنها تعرف بنيّات الصديق؟/ هل تصوّرت أنّ أخاها يطير فرحاً للقائها؟/ هل تصوّرت أنها ستنام حتى مطلع الصباح بقرب حبيبِها؟/ الأسى ليس له لا أخٌ ولا أختٌ ولا حبيب/ الأسى يجد الصداقة في مكان آخر، الأسى، في الساعات/ الطويلة المظلمة، قبل أن ترى أيّ نافذةٍ خطفةَ ضوء./ يمسك الأسى بمرآته الأخ؟ كان ميتّاً في مدينةٍ استنرفتها الحرب/ الأسى وحيدٌ، قصير النظر، وينقصه/ التفهم والعاطفة والخيال/ يقرأ سجلات المذابح والفيضانات والزلازل/ في وحل قصةٍ واحدة”.
– تقول الولايات المتحدة إنّها ستدعم أربعمئة عنصر من “الجيش الحر” في الأردن، ولكن ليس بالسلاح. إذاً ما هو نوع هذا الدعم؟ على رغم أنني لا أؤمن بالسلاح، عندما بدأت الثورة سلمية في سوريا كنا متفائلين جداً، ولكن اليوم لست أدري. يقول الأميركيون أيضاً إنّهم سيتدخلون الآن لضرب “داعش”، بينما لم يتدخّلوا عندما بدأ النظام السوري بمجازره، ولا عندما حصد الكيميائي الألوف. الأميركيون دائماً يعدون، ولا يفكرون، ومعهم الأوروبيون، إلا في “داعش” خوفاً من أن يمتدَّ الإرهاب إلى بلدانهم.
قبل عشرين سنة، عندما أرادت اسرائيل أن تقضي على وحدة الفصائل الفلسطينية وعلى كل حالة ديموقراطية تريد القيام في فلسطين، خلقت “حماس”. لم تخلقها وحدها بالتأكيد، إذ كان هناك أرضية من الجانب الفلسطيني لقيامها. وجود “حماس” يضمن وجود إسرائيل، تماماً مثل “داعش” والنظام السوري، على رغم أنّ “حماس” ليست بسوء “داعش”.
خلال الحرب على غزة في العام 2009 بدأت مارلين هاكر كتابة ديوان شعري مع الشاعرة الفلسطينية ديما شهابي، عبر تبادل الرسائل الألكترونية بينهما.
– كنت أرسل إليها قصيدة وتردّ بقصيدة، وقد كتبناه على نمط قصيدة “الرِنكا” اليابانية، ولكن بالانكليزية، حيث يكتب القصيدة أكثر من شاعر. ليست كلّ القصائد عن فلسطين، فهناك قصائد عن اللاجئين والمهاجرين الموجودين في باريس من كلِّ الجنسيات، سوريين وعراقيين وفلسطينيين، وأفريقيين وأميركيين. تنبع القصيدة من مكان، وترحل إلى مكانٍ فمكانٍ فمكان. الشخصيات بعضها متخيَّل وبعضها حقيقي، سأسافر بعد أسبوعين إلى أميركا لأقرأ مع ديما في مؤتمر لكتِّاب من أصل عربي في ولاية ويسكونسون، ثمّ في كاليفورنيا.
تكتب الشعر والمقالة بالانكليزية، وتترجم منها إلى الفرنسية، والعكس. تصل الشرق بالغرب والغرب بالشرق عبر كلماتها النابعة منها أو من خلال ترجماتها. عندما تلتقي مارلين هاكر، ترى اللغات تحوم حولها، وهي تهدي إليك مباشرةً لغةً للتواصل معها، هي لغة إنسانيتها ومحبتها.
من الجدير حقاً أن يتعرّف القارئ العربي بشاعرة كمارلين هاكر، ومن الجدير أيضاً ترجمة شعرها إلى العربية، الغني بأساليب الكتابة الشعرية الفرنسية والإنكليزية والأميركية واليابانية، وبثقافات عدّة. هي من الشخصيات النادرة في العالم اليوم، تقف برهافة إحساسها وكلماتها مع الحياة في وجه الموت، ومع الحب في وجه الحرب، ومع الإنسان أينما كان في معاناته وتشرده وجوعه وفقره. تُرقّص الكلمات على صفحة الكرة الأرضية، وتنتقل بها من مكان إلى آخر. عندما قرأت قصيدة “رنكا من سوريا” لمارلين هاكر في مجلة “أوروبا” الأدبية الشهرية في فرنسا، في العدد الصادر في آب 2013 المكتوبة على نمط الرِنكا اليابانية، وجدت أنّ من الأهمية ترجمة هذه القصيدة (مع دلال مسعود) التي تلخص مارلين هاكر، فهي لم تتشارك فيها مع شعراء، بل كانت هي كلّ هؤلاء الشعراء، في كلِّ مكان، مرةً مع اللاجئين العراقيين والفلسطينيين في سوريا، ومرةً مع سجناء سجن تدمر، ثمّ مع اللاجئين السوريين خارج سوريا، تنقل ألمهم وخوفهم على ذويهم في الداخل.

“رنكا من سوريا”
على متن شاحنته/ الملأى بالخراف/ على طريق القلمون/ تسرح نظرته فوق الجبل/ تذهب أفكاره إلى إخوته/ لا يزالون في كركوك/ العبورُ، كان من أجلِ العمل/ يعبرون اليوم/ كمتدربين على اللجوء/ في المنفى رغماً عنهم/ من مخيّم اللاجئين/ إلى ريف دمشق/ مئتا كيلومتر، زينب/ تنزل درجات معبد بعل/ حاملةً الاسم نفسه/ لزنوبيا المتمرّدة/ أمام جحافل روما/ Sanuqawi/ الوشاح الأبيض الذي يغطيها/ يتوّجها كملكة/ في اتجاه تدمر/ لا في اتجاه المملكة/ السجناء في شاحنةٍ، بأصفاد/ لا يرون معبداً ولا أعمدة/ ولا صغار البدو باعة الكوفيَّات/ بالنسبة إليهم/ تدمر/ درسُ تاريخ/ ستأخذ دروسهم/ منحىً مختلفاً/ أربعةٌ وتسعون عاماً/ سيموت والدها/ من دون أن يراها ثانيةً/ في المقهى، يتابع المنفيّون/ التمردَ عن بُعد/ سؤالٌ للزوج: – من سيحكم/ بعد ثورتك؟/ مرتفعات اللاذقية/ والعجوز الذي تحبّه، يشغلان بالها/ يتّصل شمس بأمّه/ ترمّز الأمّ إجابتها: – البارحة أمطرت/ ورياح الجبال الباردة/ أسقَطَت أَعمدة الكهرباء/ يعود التيّار، من اليوتيوب/ وعبر شاشة هاتفه النقّال/ تعبر التظاهرة المصوّرة/ لا يمكن أن يرى أخاه الشاب/ وسط هذا المدّ/ يصبح شاعراً أميركياً/ يمزج بين الاستعارة/ والكنايات/ يختصر، لكلماته البسيطة/ عمق مدهش/ يظلّ الصوتُ والتركيب/ من جذور لغته الأولى/ قادرَين على التحوّل والازدهار/ بجنونٍ/ ولكن بمنطقيّة/ لكي تعود في النهاية/ تطلب تأشيرةً/ كالعادة/ في السفارة يسألونها: – أنتِ صحافية؟ أن تجيب بلا/ ذلك ليس صحيحاً تماماً/ مَن يدري ماذا تستطيع أن تَكتب؟/ لن تمنعهم إجابتها بلا/ من رفضهم طلبها/ ابتسامة طفل/ بوجهٍ مدوّر،/ صورةُ جسدٍ تعرّض للتعذيب/ عشرةُ آلاف ملصق فوق الجدران/ ازدهرت في اليوتيوب/ انقطاعُ شبكة النت/ الجمعة:/ هو يوم الشوارع الملأى/ أَين جمانة؟ إيمان؟/ Eina Najib wa Ahmad?/ يرنّ الهاتف عند ريم/ يرنّ ويرنّ/ ما من أحدٍ لكي يجيب/ إنّها في السوق/ أو في المكتبة/ في آخر الليل يرنّ/ وفي الصباح المبكر/لا أحد يجيب/ هل ذهبت إلى أسرتها في القرية؟/ لكن ليس لها أسرة/ تقول الأمّ لشمس/ إنّ ثلاثة جنودٍ جاؤوا/ كي يسألوا عنه/ حتّى لو أنه أنهى خدمته العسكرية/ يبقى جنديّ احتياط/ يطلبونه/ – ذهب إلى انكلترا/ ولن يعود/ لم يكن يفكّر لا في العودة/ ولا في تخيُّل المنفى”.
تغريدة من سوريا الثورة: يريد ابن عمّه هواتف/ وشرائح ذاكرة/ على متن الطيران التركيّ/ مسافراً ليومينِ إلى اسطنبول/ بجواز سفره الفرنسيّ/ موعدٌ مع شخصٍ مجهول/ يتكلّمان لغتهما الأمّ/ تُعيده ثانيةً إلى الطفولة/ وإلى الشلَّة/ عندما أنام/ في مخيّم اليرموك/ أحلم بفلسطين/ أحلم أنني أنام في مخيّم/ أحلم بفلسطين/ يقتلون الأطفال السوريين/ ويقصفون المدن/ إدّعوا أنّهم يحمونها/ ليست هكذا فلسطين التي أريدها/ دمشق/ في مطعمٍ للبيتزا/ يترجمانِ لبلاث/ يشربان القهوة تلو القهوة/ حتّى غروب الشمس/ وبعد سنتين/ الاتصالُ بأحد الهواتف النّقالة/ مقطوع/ الصديق البعيد الآن، يترجم الصمتَ وحده/ خالياً من الشعر”.

مراجع ومصادر
* “أنباء صباحية” من ديوان “شعراء من أجل فلسطين” ترجمة أحمد أحمد، “جديلة ثوم”، ترجمة نور الدين الزويتيني، “الأسى” ترجمة دنيا ميخائيل، مطبوعة في الكتيِّب الصادر عن بيت الشعر في المغرب 2012. “تثير الريح توقاً في رأسي”، مقطع من قصيدة منشورة في موقع “الأمبراطور” الالكتروني الذي يديره الشاعر العراقي أسعد الجبوري من ديوان “الحب، والموت، وتّقلب الفصول” ترجمة أحمد أحمد؛ موقع الأمبراطور الالكتروني، الكتيِّب الصادر عن بيت الشعر في المغرب 2012، مجلة بانيبال العدد 39، مجلة القرن 21 العدد 23، 2013، مجلة” أوروبا”، عدد 1012-1013 .

  • فدوى سليمان : فنانة سورية ومناضلة كان لها دور كبير بقيادة المظاهرات الثورة السورية ضد بشار أسد … والمقال نقلا عن الملحق 
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق