زملاء

خضر الآغا : على وقع الثورة السورية /التطبيق العملي لسقوط «المظلوميات»

قد يكون مفهوم «المظلومية» من أكثر المفاهيم المنتشرة في المنطقة، والتي لم تخضع لعملية فحص معرفية كما ينبغي للمفاهيم. بل اتخذ وجوداً مستقرّاً وقارّاً في الذهنية العامة، وفي المعطى الثقافي بوصفه من (بديهيات) الحياة! إن التعاطي مع هذا المفهوم نقديّاً عرضة لعواقب غير محمودة من لدن أصحاب هذه المظلوميات، لما ينطوي عليه -هذا التعاطي- من شبهة موقف مضاد لـ «الحقوق« التاريخية والمشروعة(!) لهؤلاء «المظلومين«.

كذلك، قد تكون «المظلومية» من أكثر الوسائل نجاعة في استقطاب مؤيدين تاريخيين لهذه الجماعة البشرية، الدينية، أو المذهبية أو القومية… التي ترفع شعار مظلوميتها مقدمة إياه على كل عمل سياسي أو ثقافي يحمي ويحمل «حقوقها« التي أهدرتها جماعة، أو جماعات أخرى في مرحلة ما من مراحل التاريخ. التاريخ، وفق المظلوميات، قد لا يكون تاريخاً بالمعنى العلمي للكلمة، بل ربما هو نوع من الميثولوجيا التي تحولت، بقوة الاستمرار، وبقوة تحييدها عن الملاحقة المعرفية، إلى تاريخ!

«المظلومية»، أيضاً، بناء. لم تتوقف المظلومية الشيعية عن بناء نفسها منذ أن اجتمعت جماعة أخرى في السقيفة لـ»لإقصاء« علي بن أبي طالب عن خلافة الرسول، حيث تم التنازع بين أحقية السلالة العائلية بالحكم، وأحقية الشورى! أو التنازع بين أحقية رأس المال (قبل التسمية) التي يمثلها عثمان بن عفان، وأحقية الفقراء التي يمثلها علي! في التاريخ بدا علي بن أبي طالب صاحب حق يمثل مشروع الفقراء، بوصفهم الحملة الحقيقيين لرسالة النبي، وكونه صاحب حق وليس صاحب سياسة كان أن خسر أمام منافسيه، حقناً لدماء المسلمين من جانب، ودرءاً لانشقاقات عظيمة بين صفوف المسلمين الصاعدين آنذاك، من جانب آخر. على الرغم من أن أول معركة شقاقية بين صفوف المسلمين كان هو أحد طرفيها. بلغت هذه المظلمومية أوجها في مقتل ابنه الحسين وتعرضه لخيانة صحبه. التاريخ الشيعي يقدم مسيرة الحسين نحو كربلاء بمزيد من البناء التراجيدي الميثولوجي، فقد تخلى عنه صحبه، وقاتل وحيداً «أعداء الله«، وقامت الجماعة الأخرى بوضع رأسه على سن الرمح مشياً إلى دمشق محاطاً بنساء آل البيت مقيّدات سبايا عرايا! وما طقوس البكاء واللطم إلا استعادة ميثولوجية لسيرة الإله «تموز» السوري القديم، حيث يقوم أتباعه باللطم حزناً عليه!

تقدمت هذه المظلومية خطوة أخرى نحو «ثقافة« عنوانها الأبرز الذي، تحقيقاً له، ستبنى الجيوش ويحتشد له الأنصار في بقاع العالم وليس في منطقة بعينها وهو: «يا لثارات الحسين»! المسألة تطورت إلى مرحلة يبدو أنها ستستمر ما استمرت الحياة. فأخذ الثأر من قتلة الحسين لن يتوقف ما دام ثمة في الحياة من يحملون، كإرث مذهبي، وزر قتل الحسين! وذلك على الرغم من أن ليس الشيعة وحدهم يعتبرون الحسين سيد الشهداء، وينظرون إليه على أنه من دعاة الحق والذين قتلوا لأجله، بل المسلمون كافة. لكن جعل المسلمين كافة ينظرون إليه بالمنظار ذاته، يُفقد المظلومية ركنها الأساسي، وتتحول إلى مظلومية بلا سند، ما ينفي وجودها أساساً، لذلك بنى القائمون على أمر بناء هذه المظلمومية «ثقافة«: «يا لثارات الحسين» بوصفهم هم، وليس عامة المسلمين، من سيثأرون له.

باسم هذه المظلومية، وتحقيقاً لـ «ثقافة«: «يا لثارات الحسين»، دخل حزب الله اللبناني إلى سوريا ليثأر للحسين! فثمة من سيدنّس المراقد الشيعية التي جاءت من كربلاء يتقدمها رأس الحسين! وتحت هذه اليافطة احتشد له أنصاره وشاركوا النظام في مقتلة لم تحدث منذ ما قبل أيام الحسين. وكان مقاتلوه يرفعون على البيوت التي يقتلون أصحابها ويهدمونها لافتة كتب عليها: «يا حسين»! في تطبيق عملي لما تعنيه هذه الـ «ثقافة«. وكانت إيران، بوصفها القائدة الحديثة لهذه «المظلومية»، قد أرسلت مختلف صنوف الأسلحة والمقاتلين من الحرس الثوري الإيراني إلى سوريا لتثأر، أيضاً، للحسين! وشاركتها ميليشيات أخرى عراقية ودولية تنتمي لـ «الثقافة« ذاتها. ثم اكتشف السوريون، أن هؤلاء لم يدخلوا لحماية المراقد الشيعية التي هي، أصلاً، ترقد بسلام منذ حضورها الكربلائي، بل إنهم ينتشرون على كامل الأرض السورية، حتى تلك الخلو من هذه المراقد. ثم، وتحت تأثير انتشار القتال وانتشار الثورة المسلحة إلى كافة الأرجاء السورية، وقيام ثأريي الحسين بقتالهم في الأمكنة كلها، اعترفت إيران والميليشيات الأخرى أنها تقاتل لأجل النظام السوري، وليس لأجل الحسين…

في هذه الأوقات كان تسقط، بقوة لا مثيل لها، هذه المظلومية التاريخية التي دفع العالم، كل العالم، أثماناً باهظة بسببها. ليس العالم الحديث فقط، بل العالم منذ وفاة الرسول.

تاريخياً وواقعياً لم يكن الشيعة كطائفة تنطوي على تمايزاتها المذهبية هي التي بنت وأنمت هذه المظلومية، بل أباطرتها كما يحدث لدى كل جماعة تتخذ من المظلومية «ثقافة« لها، وتاريخياً وواقعياً أيضاً كان هؤلاء الأباطرة يعملون ليس ضد الجماعات الأخرى المختلفة مذهبياً عنها وحسب، بل ضد الطائفة الشيعية ذاتها، فقد قدموا هذه الطائفة وكأنها تحمل سكيناً لجز أعناق قتلة الحسين! فحفروا هاوية عميقة بين أفراد هذه الطائفة، ومواطنيهم من الطوائف الأخرى، كذلك نكّلوا بمعارضيهم من الطائفة نفسها على مدار التاريخ تحت اليافطة ذاتها: «المظلومية». وعوضاً عن أن تكون «المظلومية» هنا عامل جذب للرأي العام حول «قضيتهم« تحولت إلى عامل طارد له.

تلك كانت مظلومية مذهبية دينية.

ثمة مظلومية أخرى، قومية هذه المرة، هي المظلومية الكردية. الكرد شعب بلا دولة. لديه حضارة وثقافة وتاريخ ولغة… وهو منتشر بين حدود دولية متلاصقة: إيران، العراق، تركيا، سوريا. لكن أياً من حكومات هذه الدول لم توافقه على / أو تسمح له بـ «استعادة« أرضه التاريخية التي يسميها: كردستان. ومثلما فعل أباطرة الشيعة، كذلك فعل أغلبية قادة أحزاب وسياسيي الكرد. خاض حزب الـ pkk بقيادة عبدالله أوجلان قتالاً مريراً ضد القوات الحكومية التركية خلال ثمانينيات القرن العشرين ومعظم تسعينياته مدعوماً من حافظ الأسد ومخابراته، تحت غطاء أن للكرد «مظلومية» مع تركيا يجب منعها عنهم. وتحت هذه اليافطة تم اغتيال العديد من الشخصيات الكردية المناهضة لأوجلان، واعتقال العديد من معارضيه من قبل المخابرات السورية.

تحت الضغط التركي، إذ نشرت الحكومة التركية وحدات كثيرة من جيشها، يقدر بـ بمئة ألف جندي، على الحدود مع سوريا في أيلول 1998، لتدافع عن نفسها أمام «إرهاب الكرد« الذين يتخذون من سوريا ولبنان، الذي هو تحت سيطرة النظام السوري، منطلقاً لهجمات الـ pkk، فرضخ حافظ الأسد لضغوط تركيا وتخلى عن أوجلان إبنه، كما كان يطلق عليه. وعندما سجن أوجلان في سجون تركيا محكوماً بالمؤبد، حصلت بعض المفاوضات بينه وبين الجانب التركي حول الصراع الطويل بينهما. وسكتت القضية الكردية إلا عن التداول الشفوي الخفي في الأوساط السورية، إذ كان الحديث عن الكرد ممنوعاً. إلى أن برزت مجدداً في العام 2004 خلال احتجاجات الكرد ولقيت تعاطفاً، وإن شفوياً، إلى حد كبير من قبل غالبية السوريين، وهنا برزت مرة أخرى «ثقافة المظلومية« وطفا على السطح الحديث القومي الكردي الذي تنامى كثيراً بعد إنشاء إقليم كردستان في الشمال العراقي المحمي أميركيّاً، وبعد أن ظهر في العراق كواحة جميلة هادئة وسط الخراب العراقي العميم.

على نحو ما، سار السوريون في ركب هذه المظلومية، واقتنعوا، بطريقة أو بأخرى، أن هذه التيه الكردي التاريخي المرير يجب أن ينتهي، غير عابئين بأن الاعتداء على إقليم كردستان العراق هو اعتداء على الولايات المتحدة الأميركية! وعندما قامت الثورة السورية انخرط فيها الكرد بشكل فعلي، لكن ترتيبات النظام مع بعض المستفيدين من شعار «المظلومية» من الكرد قلب الوضع برمته. والجميع يعيش ويرى تطورات الأمور الكردية في سوريا، لذلك ما من داع لتكرارها.

مارس الفرع السوري للـ pkk الذي هو الـ pyd ما يشبه الإدارة الذاتية لـ «مناطق الكرد« في سوريا. وعندما توجهت داعش إلى مدينة عين العرب / كوباني وحققت فيها تقدماً سريعاً كعادتها في السيطرة على الأراضي «السورية والعراقية«، تخلت دول العالم عن مبادئها المعلنة تجاه سوريا، من عدم التدخل العسكري وعدم السماح للمقاتلين الأجانب بالتسلل إلى داخل سوريا… إلى النقيض تماماً من كل هذه الادعاءات. فأنشأت، بسرعة قياسية، حلفاً دولياً لمساعدة القوات الكردية ضد داعش، وحمتها بالطائرات، وألقت إليها السلاح والغذاء من الجو، وأوقفت، نسبياً، تقدم المنظمة الارهابية، واحتفت، إعلامياً، بدخول شباب من أميركا ذاتها للقتال إلى جانب المقاتلين الكرد، وغير ذلك مما بات معروفاً… الأمر الذي أدى إلى أن «مظلومية» الكرد ظهرت بأنها لا تستند على أساس واقعي، وأنها، هي الأخرى، سقطت تحت أزيز الرصاص في سوريا، وفاض عليها الدم السوري وأغرقها.

مفهوم «المظلومية» مفهوم لا ثقافي، ذو منشأ / أو مآل نفسي نكوصي، يحيل إلى الماضي. فيما أرى أن المفهوم المناسب لهذه القضايا هو مفهوم «الحقوق». مفهوم «الحقوق» ثقافي، يمكن أن يحمي دعوات «المظلومين التاريخيين« وينمّيها، ويضعها كمؤثر عملي في ثقافات البشر. مفهوم «الحقوق» هو الاختبار الحي لحقيقة «أوجاع« المظلومين. الثقافة الحية هي ثقافة النمو نحو المستقبل. الشعوب في طور مراهقتها تبني أحلاماً، وإن لم تحققها. فيما «المظلومية» تصيب الشعوب في طور ترهلها، إن لم يكن العمري، فهو الترهل النفسي.

  •  خضر الأغا : شاعر وصحافي سوري ، المقال عن المستقبل
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق