رزان زيتونة : أبو القعقاع…سوء الفهم المزمن
صناعة الفكر الديني العنفي، لا تقتضي فقط الدعوة المباشرة إلى «الجهاد » وتجييش المشاعر باتجاهه، هذا فقط بمنزلة عود الثقاب الذي يشعل الحريق، وسط كومة قش لا ينقصها اليباس.
« مقتل الجاسوس الكافر أبو القعقاع»، عنون بعض القراء «الجهاديين» مداخلاتهم عن خبر مقتل محمد قول آغاسي (أبو القعقاع) يوم الجمعة 28-9-2007. والسلطة بدورها تقول إن من أفرغ رصاصات مسدسه في جسده على باب الجامع في حلب، هو أحد التكفيريين. وأبو القعقاع هذا، كان من أكثر الشخصيات «الدينية» إثارة للجدل في سورية خلال السنوات الثلاث الماضية .
منذ سنوات عدة، وبعد أشهر من الاحتلال الأميركي للعراق، ثار الحديث عن مجموعة تضم أكثر من عشرين شاباً في مدينة حلب، جرى اعتقالهم على خلفية سلفية جهادية، وأنهم أحيلوا إلى محكمة استثنائية بينما أفرج عن «شيخهم» أبو القعقاع، بعد بضعة أيام من اعتقاله، وفي النتيجة فإن شكوكاً تدور حول هذا «الشيخ ».
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحولات جذرية طرأت لاحقاً على شخصية «الشيخ» أدت إلى مضاعفة الشكوك من حوله، بل حتى هدر دمه من بعض الجماعات الأصولية العنفية في العراق، وفي بعض المواقع «الجهادية» العامة. فقد زُعم أنه تسبب في اعتقال مئات الشبان الذين استجابوا لدعوته ثم أوقع بهم أمنياً، بعد أن نجح في إرسال مئات أخرى إلى العراق، وأنه كان يلعب دور «…المحرض على أميركا وعلى العمل ضد أميركا وعلى الحكام والعمل ضدهم ليصطادوا الناس المغفلين الذين يصدقونهم…» إضافة الى فساده المالي (نصب واحتيال تحت غطاء جمع التبرعات «للمجاهدين») الذي ساق عليه أعداؤه أمثلة كثيرة مدعمة بالأسماء والأرقام كما يقولون. والمقتبسات السابقة من بعض المنتديات والمواقع «الجهادية» التي كانت قد نشرت تحذيرات من أبي القعقاع إياه بعد اكتشاف أمره كما يقولون، وهي تعود إلى أواخر عام 2003. بل إن جهات سورية معارضة خارج سورية، ذهبت إلى القول أخيرا إن السلطات السورية هي التي تخلصت منه بعد أن انتهى الدور المنوط به !
استطاع «الشيخ» في البدايات -كما تقول التقارير الصحفية- اجتذاب آلاف المريدين الشبان الذين انساقوا وراء خطبه النارية الداعية إلى «الجهاد» ضد الأميركيين، يقول في إحدى خطبه «… نذبحهم كالماشية، نحرقهم، نعم إنهم الأميركيون». لكنه في ما بعد، عقب تشذيب لحيته الكثة وارتداء البذلة الرسمية بدلا من الجلابية، وتغيير هيئة موقعه الإلكتروني «غرباء الشام» تغييراً جذرياً في شكله ومضمونه، فضلا عن تسلمه منصبه الجديد مديرا لمدرسة شرعية كبيرة في حلب. أقول بعد ذلك كله، أعلن في لقاءات صحفية عدة معه، ولاءه المطلق للنظام من جهة، ومن جهة أخرى، أن الشباب «فهمه خطأ»، وأنه كان يدعو إلى «الجهاد» والحرق والذبح بطبيعة الحال، فقط إذا أتى الأميركيون إلى سورية! وهنا الكارثة كل الكارثة .
فـ«سوء الفهم» العميق هذا، أدى بشباب في عمر الزهور، إلى ترك مقاعد دراستهم وجامعاتهم للالتحاق بالدم والنار. ومن لم يرد له الوصول إلى أرض المعركة، تحول إلى غيبة السجون والمعتقلات. ومثل «سوء الفهم» هذا، حصل حين دعا مفتي الجمهورية السابق أحمد كفتارو، المسلمين في أنحاء العالم كلها إلى «استخدام كل الوسائل الممكنة في هزيمة العدوان بما في ذلك العمليات الاستشهادية ضد الغزاة المحاربين الأميركيين والبريطانيين الصهاينة» في العراق، وقد اعتبر هذا النداء، لا سيما في الأوساط الشبابية الشعبية، بمنزلة «فتوى» للجهاد في العراق. وفي ما بعد نفى أحد مساعدي كفتارو أن يكون «التصريح» بمنزلة فتوى ملزمة، وحصل «سوء فهم» مماثل في أكثر من دولة عربية .
« سوء الفهم»، كان يمكن أن يمر بهدوء وبغير نتائج كارثية، لو لم يصادف شباناً لديهم الأرضية الدينية والنفسية، اللازمة لتقبل مثل تلك الدعوات بتلهف. ولو لم يكونوا يعيشون في زمن البطالة والفقر والفراغ والقيود المحكمة على أي نشاط سياسي يمكن أن يعبروا من خلاله عن أنفسهم، ولو لم تكن الحياة الثقافية شبه معدومة، والخطاب الوحيد الجائز سماعه والتفاعل معه هو خطاب إمام الجامع أو الداعية الفلاني أو الشيخ الفلاني. ولو لم يصادف وجودهم زمن الاحتلال الأميركي الجديد بأبعاده الكثيرة التي تتجاوز مجرد الاحتلال، بعد أن كان الجيل الذي سبقهم كيَّف نفسه على جرح فلسطين وهزيمة 67 فقط. ببساطة، في الزمن الذي لا يعثرون فيه على هوية لهم باستثناء الموت وما يعتبرونه أنبل الطرق إليه .
لذلك كله، فإن مقولة «سوء الفهم» تلك، تبدو غاية في الفظاظة، وتبعث على الكثير من القهر والألم، ولا محل لها من الإعراب في مثل بلادنا .
ومن ثم فما يهم من قتل أبو القعقاع ولماذا؟ وكيف يغيب السؤال حول مئات الشبان المعتقلين لأنهم رغبوا في «الجهاد» في العراق؟ والأولى أن نسأل من مهد لهم الطريق عمداً أو عن غير عمد .
وأذكر في هذا الإطار هجوم د.سلمان العودة أخيراً على أسامة بن لادن، وهو ما أدهش الأصوليين العنفيين أنفسهم، وفي هذا دلالة كبيرة .
صناعة الفكر الديني العنفي، لا تقتضي فقط الدعوة المباشرة إلى «الجهاد» وتجييش المشاعر باتجاهه. هذا فقط بمنزلة عود الثقاب الذي يشعل الحريق، وسط كومة قش لا ينقصها اليباس .
أبو القعقاع مهما كانت حقيقته، ورغم أن دماء وأعمار كثير من الشباب في عنقه نتيجة «سوء الفهم» إياه! فهو ليس طفرة في زمانه، وتكراره وارد بشكل أو بآخر. أشياء أخرى هي ما يجب أن توضع تحت المجهر !
رزان زيتونة: محامية وناشطة بمجال حقوق الإنسان في سوريا