د. عبد الرزاق عيد : سجن فداء حوراني خط وطني أحمر
يقوم تحديد مفهوم الوطنية اليوم في سوريا –كما في العالم العربي- على حماية البنية المجتمعية الداخلية من التصدع فالتآكل فالتفكك فالحرب الأهلية. وكل كلام عن وطنية تقوم على حدّ ومفهوم التعارض مع الأخر (الامبريالي – الصهيوني)، دون أن تتأسس هذه الوطنية على بنية مجتمعية مدنية تعاقدية (مواطنوية) هو نوع من هذر المقال الذي أصبح متقادما تقادم الاستبداد الذي صنع هذه الوطنية الخارجية على مقاسات بقائه القائم على الشوكة والغلبة، من خلال جعل هذه الوطنية دريئة ايديولوجية رسمية للنظام الديكتاتوري، تنطلق من تصور للمجتمع يقوم على مبدأ وحدة الهوية المنسجمة والمتناغمة والتي لا يعكر صفو تناغمها وانسجامها سوى الخارج الاستعماري الامبريالي الصهيوني…. ولكي تقترب خطوة أكبر باتجاه المتعيّن والملموس الذي يتشخص به المجرد، نأخذ المثال الفسطيني، هذا المثال الذي يشكل المرجعية الميثاقية العقدية لكل مفاهيمنا الوطنية والقومية، حيث لولا القضية الفلسطينية لربما كان تغير مسار الفكر العربي بمجمله في شكل فهمه وقراءته للمسألة الوطنية والقومية، حيث أن النواة الابستمية (الابستيم) كما يقول الابستمولجيون، أو (الصويتم) كما يقول الأسلوبيون عند تحليل بنية نظام الخطاب، نقول: ان النواة الابستمية-الصوتيمية لنظام الخطاب المعرفي لعربي تمحورت حول الخارج الاسرائيلي- الغربي الانكليزي- ثم الامريكي، بوصفه المحدد لمعنى الوطنية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم.
ولذا فإن كل تجاربنا الفكرية –ما بعد المرحلة الليبرالية الموؤدة عربيا- (القومية والاشتراكية) ظلت محكومة في فهمها للمسألة الوطنية بوظيفتها الاجرائية المتمثلة بكيفية مواجهة المشروع الصهيوني-الأمريكي سياسيا دون بذل الجهود الفكرية الضرورية لفهمها بوصفها تجليا لمفهوم (المواطنة) بكل ما يترتب على هذا المفهوم من منظومات حقوقية وثقافية ومؤسساتية ديموقراطية وتمثيلية قادرة على الانتقال بالأمة من مجرد سديم بشري هائم وغائم وعائم إلى مستوى كتلة تاريخية منسجمة مندمجة وموحدة الرؤية في وعيها لذاتها ودورها الحضاري. وبسبب انعدام هذا المنظور المدني الديموقراطي للمسألة الوطنية الذي أطاحت به موجة الشعبويات الفلاحية الانقلابية العسكرية القوموية واليساروية، فقد اختزلت إلى مقولات سياسوية-سطحية بزركشة بيانية وفيهقة بلاغية وترنم غنائي وفحولة شعرية تنتشي بالثناء، وتترنم بالفخر، وتثأر بالهجاء، وتهيج بالمديح فتخرج عن طورها طربا لمديحها: (الستم خير من ركب المطايا). ومنذ أن خرج الخليفة الأموي الممدوح عن طوره ممتشقا سيفه قائلا: أي والله نحن لها… وسيوف الحكام العرب عبرالتاريخ تمتشق سيوفها طربا لهذا المديح، متمثلة موقف الخليفة الأموي، لكن دون سيفه الأمبراطوري، بل سيوف ذبح شعوبهم لتفتديهم بالروح والدم…!
وسيظل هذا العقل الغريزي يتحكم بمواقفنا وسلوكنا واستجاباتنا، وينزلق على السطح الخارجي لمفهوم الهوية الوطينة، دون التغلغل في مكونات هذا مفهوم الذي هو في جوهره ثقافي تاريخي وتعاقدي سوسيولوجيا وسياسيا.
المثال الفلسطيني كثيف الدلالة في سياق موضوعنا، إذ أن انهماكه عبر أكثر من نصف قرن في خوض الصراع مع الآخر بوصفه عدوا مضادا كيانيا (انتولوجيا) وليس تاريخيا، حرم الفعل الفلسطيني من فرصة اغناء ذاته بما لدى ذات الآخر من عوامل التفوق التي أتاحت له الانتصار، في مواجهة عناصر الخصوصية الذاتية العروبية المؤمثلة والمنوهة بذاتها ومآثرها لدرجة التوثين التي لم تتح لهذه الذات القومية المتورمة بامجاد الماضي سوى الهزيمة، بل وسلسلة الهزائم الوطنية التي قادت إلى التصدع الذاتي فالتآكل التكويني فالتفكك الكياني فالحرب الاهلية، وليس مثال غزة-الضفة آخر الامثلة عن هذه الايديولجيا الوطنية الغثة والركيكة خلال نصف قرن.
إن التجربة الفلسطينية تكثف في سيرورتها كل الارهاصات والمخاضات الفكرية والايديولوجية (قوموية-يسارية)، واخيرا اسلاموية، وهي الترسيمة ذاتها التي آلت اليها الايديولوجيات الوطنية العربية استطرادا،تحيث تعرّف وطنيتها بالضد من (الآخر) العدو الخارجي، دون أن تنتبه إلى أن العدو الرئيسي قابع في الداخل وهو الاستبداد والجهل والفساد، وفي داخل الداخل بدءا من طريقة الفهم المنحطة لـ (أنانا) القومية والتاريخية والثقافية والحضارية والتراثية والدينية… الخ.
إن سيناريو الترسيمة الفلسطينية عن المسألة الوطنية حاضر في كل حاضرات العالم العربي وبواديها ومفازاتها وصحاريها وسهولها وجبالها ووديانها، وإن كانت بشكل أبطأ بسبب لجم الحراك الاجتماعي والسياسي قمعيا في المحيط العربي، لكنها عندما ستنفجر في المحيط العربي ستكون بشكل أفجع وأشرس مما هي عليه في التجربة الفلسطينية، التي ستبدو هي الأقل -على كل حال- وراثة لحمولات ثقافة الكراهية والحرب الأهلية التي تحكم الملل والنحل والمذاهب والاثنيات باعتبار تعدد الملل هي الاقل في فلسطين منها في المحيط العربي.
إن تأكل المشروع الوطني المدني البرلماني في سوريا منذ الخمسينات، كان ينتج تآكلا موازيا ومناظرا على مستوى البنية الاجتماعية: حيث بروز الحضور الكثيف للفلاحين والعسكر، فالفلاحون هم قاعدة الشعبوية التي ريفّت المدن والتهمت كل مظاهر نويات الحداثات المدينية، والعسكرهم قاعدة الارادوية الاستبدادية، حيث اكراه المجتمع على التكيف مع الايديولوجيا الأوامرية العسكرية التي راحت تتضخم لتغدو حالة انكشارية، ومن ثم التدمير التدريجي للحراك المجتمعي المتوازن وتهميشه وتذريره مقابل تمركزأمني على الذات يختصر الآخرالوطني بمدى انصياعه للتمركز الذاتي الأمني، حيث الأمن- والامر كذلك- يغدو (ذات الوطن) وكل أشكال تعيّن الوطن في صيغة مؤسسات وادارات وانظمة مدنية وتعليمية وقضائية ليست إلا صفات لهذه الذات الأمنية، ومن ثم فإن تعدد صفات الوطنية ستغدو –والأمر كذلك- ليست سوى تشخيصا وتجسيدا لتعدد الذات الامنية في عشرات الفروع.
ما علاقة هذه المقدمة باعتقال د. فداء الحوراني؟ ونحن هنا اذ نتحدث عن د. فداء انما نعني كل ضحايا الهجمة الأخيرة التي شنتها إحدى الجهات الأمنية التي يراد لها أن تحتكر الصيت الأسوأ للممارسات المخابراتية في سوريا، من خلال احتكارها –في الآونة الاخيرة- لملفات منع السفر، ومن ثم الاستدعاءات الأمنية، بل والخطف من الشوارع وارسال رسائل التهديد بالتصفية الجسدية.ونحن نتمنى أن يكون هذا الفريق هو الوحيد –من بين الأجهزة الأمنية- الذي يتميز باللاعقلانية واللامسؤولية الوطنية والأدمغة الحامية في إعلانه الحرب على مجتمعه وأهله، وأن لا يكون ذلك في الأمر ثمة توزيع للأدوار… أي أننا نقصد بمقدمتنا هذه أيضا السبعة الأفاضل: الأستاذ جبر الشوفي، الأستاذ علي العبد الله، د. وليد البني، د. أكرم البني، د. احمد طعمة، د. ياسر العيتي،، وعلى رأس هذه القائمة تتأتى الدلالة الرمزية لاعتقال الدكتورة فداء الحوراني، ولهذا سنتوقف عند هذه الدلالة بمستوييها: ليس خصوص السبب فحسب، بل وعموم المعنى الذي يومئ إلى الجميع بما فيهم رموز المعتقلين السابقين: د. عارف دليلة، انور البني، فائق المير، ميشيل كيلو، ورياض درار والشاب عمرعبد الله وزملائه.
ففي المعنى العام: إن اعتقال السياسة في المجتمع، هو بمثابة اعتقال لمجتمعيته، أي للاجتماع الانساني الذي يتميز عن المجتمعات القطيعية الطبيعية، بكونه يحتكم إلى السياسة في إدارة شؤونه، ولهذا فقد عرف أرسطو الكائن الانساني بانه حيوان سياسي، أي أن نزع السياسة من حياة الجماعة الانسانية تعني تحويلها واختزالها إلى قطعان قطيعية، أي اختزال الانسان إلى حيوان.
يترتب على هذا المفهوم ويتناسل من منظومته الوراثية، مبدأ أن الغاء الحياة السياسية من المجتمع (العلاقات الأفقية السوسيولوجية)، تعني اعادته إلى الحياة الأهلية العضوية (العلاقات العمودية العصبوية القرابية الدموية)، وهذا يعني الافتقار إلى مفهوم (الوطنية) بوصفها مجلى الوحدة الارادية للعيش المشترك على أرض مشتركة وفق عقد اجتماعي مشترك، حيث تلغي تشظيات المجتمع الأهلي (القبيلة- العشيرة- الطائفة- العائلة)، وتخابطها الاجتماعي الأغبر التفتيتي لتتحول إلى سديم كتل بشرية تفتقر حدّا ومنطقا لمفهوم الهوية السوسيولوجية، وتحمل دائما في داخلها قابلية فنائها (التاناتوس) من خلال تصدعاتها وانهداماتها وتكسراتها، أي الانتهاء إلى مآلات التآكل فالتفكك فالحرب الأهلية وثقافة الغزو، وهذا الاستقراء ليس تجريدا نظريا، بل ها هو المثال العراقي بأبهى صور بشاعة عبادة الموت التي تعززالنزوع الغريزي للتدمير الذاتي والانتحار الجماعي.
ونحن نؤكد في هذا السياق على النموذج العراقي المماثل بنيويا في المستوى الايديولوجي والسياسي للنظام السوري، بالاضافة إلى المماثلة في بنية المجتمعين من حيث التعدد الاثني والطائفي، أي أن الايديولوجيا الوطنية والقومية، ايديولوجيا البعث العراقي ونظامه الشمولي القائم على الانثناء نحو الخارج (العدو الخارجي)، كان على حساب التكور على الداخلي: اي على حساب الصراع الاجتماعي والسياسي على حد الصياغة النقدي لتجربة البعث من خلال صياغات واضع منطلقاته (ياسين الحافظ)، مما حال موضوعيا دون عقلنة وتحديث ودمقرطة الوطنية العربية والايديولوجيا العربية.
هذا الحطام المجتمعي ما كان له أن يصمد لأيام امام الاحتلال الأمريكي لبغداد، وذلك لأن النظام الشمولي كان قد وفر للمجتمع الداخلي كل عوامل التآكل والتفكك للانهيار ومن ثم قيام الحرب الأهلية، والمدخل الرئيسي لاشاعة هذا الحطام، هو تحكم ثقافة الكراهية من قبل النظام الحاكم نحو مجتمعه وشعبه، وتعبير ذلك في خوض حروبه الباردة والساخنة ضده، مجازر جماعية وفردية، معتقلات وسجون تبعث شهوة الموت للخلاص من هكذا حياة، لكن ما يميز طغيان النظام العراقي عن طغيان النظام السوري، هو معرفة الأول لنظام مجتمعه الأهلي التقليدي، إن معرفته لأهله ومجتمعه ونخبه الاجتماعية والثقافية جنبت التاريخ الدموي لبعث العراق سجن مثقفين ورجالات فكر ونساء حرائر من بنات الأصول والشرف وفق معايير المجتمع الأهلي الذي ضاعت قيمه التقليدية مع هيمنة طغم من رعاع الجنرالات الصغار الجدد القادمين من الريف، أو المتحدرين من حثالات المدن، الأمر الذي انتبه له المؤسسون الأباء للنظام الشمولي في سوريا، بينما راح يتجاهله بل ويجهله جيل الأبناء الذين لا يعرفون للقيمة من معنى سوى “القيمة الزائدة” أو “القيمة المضافة”، ولهذا فهم لا يعرفون من هي فداء الحوراني، ولا يعرفون أن اعتقال فداء هو اعتقال لقيمة أصلية وليس لقيمة زائدة، لا يعرفون أن أباها هو أشبه بسبارتكوس سوريا الذي خاض معركة آبائهم الفلاحين الأقنان ضد سادة الاقطاع في مدينته حماة، ليكافئه اليوم الأبناء بسجن ابنته فداء.
ذلك هو الحفر الأعمى الذي يقوم به الجاهل في التربة، حيث تكسير التنضيد المجتمعي المتراصف طائفيا والمتجاور وطنيا الذي عجز البعث عن دمجه، ويأتي الأبناء الأحفاد لتكسير هذا الخزف الذي نضده جيل البعث الأوائل الذي كان يراد له ان يتمظهر على شكل وحدة وطنية ليست هي –في المآل- سوى مظهر من مظاهر التعايش الطائفي القسري القابل للتداعي أمام اي خلل في هذا الموزاييك المصنوع في سبعينيات القرن الماضي العشرين، والمفروض بالارهاب منذ الثمانينات حتى اليوم، ليأتي الأحفاد أصحاب الرؤوس الحامية الذين يتحدون العالم بسياساتهم الخرقاء، بدرجة تحديهم لمجتمعهم وشعبهم وأهلهم، وكأنهم غرباء ليسوا من هذا البلد، ولا تربطهم به المواطنة ولا المعاشرة ولا المعايشة ولا صلات القربى والرحم، وكأنهم ليس لهم أخوة او اخوات، أباء وأمهات، لقد نبهنا من قبل إلى خطورة تشكل هذا اللاشعور الثقافي تجاه مجتمعاتهم وأهلهم، وذلك عند حملة اعتقالاتهم غبّ اعلان بيروت-دمشق، عندما وثبوا وثبة رجل واحد على المستوى الاعلامي والثقافي والسياسي، ليردوا على الاستنكار العالمي لسلوكهم القمعي الشائن، باتهام العالم بأنه يحابي اسرائيل ويسكت على جرائمها ضد حقوق الانسان، بينما لا يسكت على جرائمنا (العربية) ضد حقوق الانسان، ليخلصوا إلى اتهام الغرب بازدواجية المعايير: السكوت على جرائم الاسرائيليين وفضح الجرائم العربية!
ولقد نبهناهم من قبل إلى أنهم يضعون أنفسهم دون وعي بموقع واحد مع الاسرائيليين من حيث العلاقة مع بلادعم وأوطانهم، وذلك ربما بسبب لا شعورهم الثقافي الذي يغربهم عن شعبهم ووطنهم، فلا يجدون فرقا بين علاقة الحاكم الاسرائيلي المستوطن بمستعمريه، وعلاقة الحاكم العربي بشعبه، على اعتبار أن الاثنين كأنهما مستوطنان وفق استبطان داخلي لا واعي لعلاقة الحاكم والمحكوم، لكن المماثلة والمقارنة تذهب –مع ذلك- لصالح القمع الاسرائيلي الذي لا يقمع مستوطنيه اليهود على الأقل، بل يقمع أعداءه العرب!!
هذا اللاشعور الثقافي المستلب المتحكم بوعي النخبة المتسلطة المتغربة عن شعبها يضيع عليهم الفروق والمميزات بين فداء حوراني الذي يمثل والدها الفاعل الأكبر في تاريخ سوريا السياسي الحديث، وذلك باعتراف صديقهم الانكليزي باتريك سيل، وبين رئيسة الاتحاد العام النسائي من الرفيقات الهتافات بالروح والدم!
فداء حوراني ليست رفيقة شبيبية أو حزبية أو اتحادية أو مظلية، فداء حوراني انتخبها الأشرف والأنبل والأطهر من رجال سوريا ونسائها من المشاركين في المجلس الوطني لاعلان دمشق لتكون رئيسة له.
ليست تعابير الأشرف والاطهر والأنبل هي من نوع الانشاء الذي يستهلكه يوميا الاخوة اللبنانيون، بل هو دال تعبيري ينصب على دلالة مضمونه ومغزاه انصابا، وذلك لأن 165 ممثلا للشعب السوري يحضرون هذا الاجتماع وليس للأجهزة الأمنية اي ممثل فيها، لهو تجمع الأخيار الأطهار، الذين لم ينتخبوا رئيسة فحسب، بل توجوا قديسة اسمها فداء حوراني.
فداء ليست شبيبية ولا مظلية لتكون طبيبة شبيبية أو أستاذة جامعية مظلية، كما هم أساتذة جامعات البعث اليوم، وطب البعث، وقضاء البعث، بل هي طبيبة مجتمع، طبيبة مدينة (حماه) التي تعرف بطحاؤها وطأتها الانسانية النبيلة، إنها قبل أن تكون رئيسة المجلس الوطني لاعلان دمشق كانت أمينة سر الأمانة العامة السابقة: أمانة عامة تضم كبار سوريا: رياض الترك، رياض سيف، عبد الحميد درويش، عبد الغني عياش، حسن اسماعيل عبد العظيم،، ولقد أسعدني الحظ أن أتعرف إليها وهي تقود أحد اجتماعات الأمانة العامة التي لم يتح لي سوى حضور أحد اجتماعاتها كعضو فيها، كانت سعادتي وفرحتي كبيرة بفداء، لكون سوريا ولادة وفداء ولادة (طبيبة نسائية) لكون سوريا قادرة على كل هذا العطاء، هكذا كنت فخورا بوطني، وهكذا كانت وطنيتي تترقرق في أنسجة مشاعري، وانا أنظر الى فداء الحوراني وهي تقود هذا الاجتماع للكبار باقتدار تمتد ينابيعه وخصبه إلى زنوبيا بعد عملية تصحير للروح وتجفيف للينابيع امتدت على مدى أربعة عقود عجاف من تاريخ النظام الشمولي.
ذلك هو اختبار الوطنية الذي يضع اعلان دمشق أمام تحدياته أيها السادة بلغاء رطانة الشعارات القومية التي تسفح عند اقدام الطغاة، فلكم وطنيتكم ولنا وطنيتنا.
لكم وطنية شعارات الفحولة المخصية وأرباب السجون والمعتقلات، ولنا وطنية الحرية والديموقراطية، حقوق الانسان، وتمكين المرأة والشفافية وتعويل محي الدين بن عربي على الأنوثة بوصفها شعر الكون، لنا فداء حوراني، ولكم أصفادها.
لنا وطنيتنا التي عبرنا عنها في بيان الـ 52 مثقفا، عندما كانت كرامة جيشنا الوطني تنتهك في حفر الباطن تحت قيادة قوات التحالف ودفعنا ضريبتها بالتهديد والوعيد والاعتقالات، وبومها لم يكن بيننا كل اولئك الذين ينسحبون من الاعلان أو يجمدون صلتهم به استرضاء واستقواء وتزلفا للوطنية الامنية التي لا ترى في أمن الوطن سوى امنها!
لا بد من وضع معايير دستورية واضحة وصريحة في تحديد معنى الوطنية واللاوطينة لنخلص من كل هذا (التهريج الوطني الامني) وملحقاته واشتقاقاته من المستوطنين السوريين في الغرب منذ عشرات السنين : يدافعون عن حقوق الانسان في كل أنحاء العالم ما عدا سوريا… لأن سوريا مهدددة بالدبابات الامريكية فهي ليست بحاجة إلى الحرية، وهم يتفردون بوطنية شديدة تميزهم عن كل أبناء وطنهم في المهجر، بأنهم يرفضون العودة على ظهور الدبابات أمريكية…!؟ هذا القول يستدعي حكما أن مئات الآلاف من المنفيين والمهجرين السوريين الآخرين ينتظرون الدبابات الأمريكية ليعودوا على صهواتها باستثناء صنديد واحد، يتفرغ لكل حقوق الناس، ما عدا مواطنه السوري الذي لا يستحقها لأن عليه أن يتفرغ لمقارعة الامبريالية، هذا وشركاؤه هم الذين يريدون أن يلقوا علينا مواعظ في الوطنية وينسحبون من اعلان دمشق وكأن أحدا شعر بدخولهم لكي يشعر بخروجهم، فهذا الأمر لا يعنينا نحن الذين نعيش داخل بطن وحش الاستبداد، ولذا فالأولى أن يقدموا طلب انسحابهم إلى الفرع الأمني المتولي شأن ملاحقة نشطاء اعلان دمشق…!
إننا ندعو إلى تفعيل دور المحكمة الدستورية العليا -هذا ان كانت موجودة-لكي تفعل القانون المتعلق بـ “الاتصال بعدو يكون الوطن في حرب معه”، فليس هناك من بين الـ 165 الذين حضروا احتماع المجلس الوطني لاعلان دمشق من شاركوا في اتخاذ قرار ارسال الجنود السوريين لقتال الجنود العراقيين تحت القيادة الأمريكية في حرب الخليج الأولى، وليس بينهم من شارك في أية مؤتمرات اقليمية أو دولية مع اسرائيل بحضور شامير، حتى ولو ساجلوا الاسرائيليين بطريقة كاريكاتورية ميلودرامية في تقديم صورة شامير كمجرم حرب، فجماعة اعلان دمشق أكثر جدية ومسؤولية في الموقف من العالم والعلاقات الدولية من هذا (التهريج النضالوي الممانع).
ليست فداء حوراني ولا أي ممثل في اعلان دمشق من صافح الرئيس الاسرائيلي، أو دعا الاسرائيليين لتجريب نواياه في السلام أو الممانعة، تأسيسا على فهم معنى الممانعة في مصدرها القرآني الأصلي “يتمنعن وهن الراغبات”.
ليست فداء حوراني ولا جبر الشوفي ولا علي العبد الله ولا أكرم البني ولا أحمد طعمة ولا وليد البني ولا ياسر العيتي من أعلن رضاه عن التجاوب الاسرائيلي نحو السلام وشكواه من امريكا بمثابتها هي العائق التي تمنع اسرائيل من التجاوب الاسرائيلي مع ” رغبة سوريا في السلام” كما عبر عن ذلك نائب الرئيس السوري للشؤون الخارجية.
لم يخطر على بال فداء الحوراني ولا على بال أبيها أكرم الحوراني منذ 1948 أن يأتي حين من الدهر على سوريا لا يكون لنظامها حليف في العالم سوى ايران أوصديق سوى اسرائيل، حيث لا يتردد ايديولوجيو النظام الوطني الممانع من الاعلان بصراحة وبدون خجل أنهم هم ضمان امن اسرائيل وإلا فإن البديل هو: الفوضى أو الحكم الاسلامي.
لن نسترسل في ايراد الوقائع حول زيف شعارات الصمود والتصدي والممانعة وثقتها المتبجحة بالنفس لتوزيع شهادات الوطنية على من هم ضمير ومخ الوطن، وذلك لكي لا نقدم خدمة لـ(حربجيي النظام الأمني) الذين يريدون منا أن نكون ستارة يساروية قوموية يخفون وراءها (ولائم التهريج الشعارية) من جهة، ولكي يقولوا للغرب أن المعارضة الديموقراطية هذه ترفض سياسات النظام المعتدلة… وأن هذه المعارضة بمجموعها تمثل أطيافا من اليساريين والقوميين الذين يرفضون الخيارات السلمية لنظامهم المعتدل..!
ولذلك نقول: إن كشفنا لأكاذيب الصمود والتصدي لا يعني أننا (حربويون)، وأننا سنقتلع مع أحمدي نجاد اسرائيل من خارطة العالم أو نرميها إلى أوربا أو في البحر، بل نريد نظاما مدنيا ديموقراطيا عقلانيا يحتكم إلى المنظومات الحقوقية والقانونية الدولية، وشرعة الأمم المتحدة، بدون (زعرنات وبلطجات شعارية) انحطت معها مكانة سوريا وسمعتها إلى الحضيض، حتى راحت تبدو عالميا وكأنها السفيه الذي يداري العالم سفاهته، إذ تهدد العالم دائما بأسر أبناء جلدتهم وأبناء وطنهم أو اعتقالهم أو تهديدهم او اغتيالهم اذا لم يتركهم (العالم أحرارا) في نهب البلاد واذلال العباد!
لا نظن أن عبدة وعبيد وعباد وثن العجل الذهبي للسلطة، ليس بينهم بعض العقلاء والحكماء الذين ينبهون اولئك المسعورين أنهم بكلبيتهم الجارحة هذه التي بلغ حد سعارها أن لا تعرف الدلالة الرمزية لاعتقال الدكتورة فداء الحوراني وما تنطوي هذه الدلالة على ايحاءات موغلة ومتوغلة في المخيال الثقافي الشعوري واللاشعوري المترعة بنزعات ثأرية وانتقامية تغذي الفضاءات المجتمعية المشحونة، بالتوتر الطائفي والمذهبي والجهوي وتنذر بالشر المستطير، وإنهم بـ (مرجلتهم وقبضاويتهم وقبضاتهم)، لا يعملون سوى على مزيد من تفكيك وتآكل البنية التكوينية السوسيولوجية للمجتمع السوري، ومن ثم تدمير الهوية الوطنية السورية التي أنهكها التفكك، مهما غلفت هذه الوطنية بالشعارات الصادحة والصائحة والصارخة التي لم يعد يصدقها حتى المتشدقون بها.
لازال لدينا ايمان وأمل أن ثمة عقلاء قادرون على فهم مغزى رسالتنا هذه، فلا بد من ايقاف تصارع الأجهزة الامنية على التسابق في اثبات الكفاءة بمدى القدرة على اهانة الشعب السوري، واذلاله وتدمير ذاتيته الوطنية، وتحطيم رموزه الذين صنعوا هويته الوطنية، إن هذه الممارسات لا تقود إلا إلى السير بخط مستقيم نحو الحرب الأهلية، ففداء الحوراني اليوم تكثيف لكل المعاني والرموز والايماءات والايحاءات والمجازات التي تصوغ لوحة سوريا، واعتقالها هو اعتقال لمعنى سوريا، فاحذروا غضب سوريا أيها العقلاء وأوقفوا جائحة العصاب الهذياني الهستيري الذي يعصف بين ظهرانيكم، والذي قد يؤدي لأن يعصف بالبلد، فلا يبقي ولا يذر!
mr_glory@hotmail.com