الياس خوري : تحية الي سجناء دمشق
لا نملك ايها الصديقات والاصدقاء سوي الكلمات، نكتبها ونحاول من خلالها ان نشد علي اياديكم المكبلة، نخترق القضبان، نهزّها، كي نصل اليكم لنقول لكم، وللشام الجميلة، بأن ياسمينة الحرية سوف تزرع في بلد الانهر السبعة، وان دمشق سوف تلبس قميصها المشغول بزهر الخوخ، مثلما كتب شاعرها نزار قباني.
تتساءلون ونتساءل معكم عن معني الكلمات. لكنكم تعرفون ونعرف معكم انكم في غياهب السجون لأنكم كتبتم اعلان دمشق، ولأن هذا الاعلان كان صرخة في وادي الظلمات العربي من اجل الحرية والكرامة الانسانية. من اجل رفع حال الطوارئ عن بلادكم، واستعادة الانسان حقه في التنفس والتعبير والشعور بانسانيته.
هذه المطالب التي تبدو بديهية، قادتكم الي السجون، ومطالب تشبهها قادت رفيقيكم سمير قصير وجورج حاوي الي الموت اغتيالا في بيروت. كأن الديكتاتور يريد ان يثبت ان ثمن الحياة هو الموت، بينما تناضلون انتم من اجل ان تثبتوا ان الحياة قيمة عليا لا ثمن لها.
اعرف كم تشعرون بالعزلة وسط خيانة الثقافة العربية، وعجزها عن متابعة مسار الفكر النهضوي الذي اسس لثقافتنا الحديثة، عبر الاصرار علي ربط النضال ضد قوي الاحتلال الخارجية بالنضال ضد الاستبداد الداخلي.
لكن ارجوكم حاولوا ان تتفهموا الأزمة العميقة التي تعيشها الثقافة العربية اليوم. فلقد ضاعت البوصلة التي تحدد الاتجاه الصحيح ايها الرفيقات والرفاق، كما ضاعت جهود اجيال النهضويين العرب، عندما اقتنص الانقلاب العسكري الشعارات الوطنية، وحوّل حلم الحرية كابوسا، واعلن هزيمته امام اسرائيل، ونجح في الانتصار علي شعبه الاعزل.
اذكر انني التقيت المفكر السوري الكبير الياس مرقص في احدي ذري الحرب الأهلية اللبنانية. كان ذلك في حي رمل الظريف في بيروت، في منزل الكاتب الفرنسي ميشال سورا، الذي سيخطف ويقتل في مدينة الحرب الأهلية بعد ذلك بأعوام قليلة.
كان الياس مرقص حزينا، روي حكايات عن وحشية جنكيز خان ثم صمت. من النادر ان يصمت مؤلف كتاب الماركسية والشرق . كان مرقص يملأ اللقاءات بالكلام المفيد، يخبر عن تاريخ الاحزاب الشيوعية العربية، الذي كتب اهم دراسة عربية عنه، او يتحدث عن اخطاء المقاومة الفلسطينية، وينتقد الحرب الأهلية اللبنانية. لكنه في تلك الليلة البيروتية الباردة كان صامتا، وكان في عينيه مسحة من الأسي.
وعندما سألته مَ به، نظر الرجل الي البعيد، احسسته يعبر غابة الصمت التي احتلت عينيه قبل ان يروي لنا، كيف اجبروه علي الركوع. قال انه كان يحتسي القهوة في احد مقاهي اللاذقية عندما دخلت مجموعة من رجال المخابرات الي المكان، واجبرت جميع رواده علي الركوع.
كان ذلك ابان الاحداث الدموية التي عصفت بالمدن السورية، من حماه الي حلب. لم اسأل الرجل الذي كان يرتجف ماذا شعر، لأن المهانة والغصة احتلتا عينيه. تركته يعيد الرواية مرة ثانية، قبل ان يصمت.
في تلك اللحظة احسست ان المشروع الحقيقي للديكتاتورية هو انهاء الكلام. يجب ان يخلص الحكي كي يبدأ القمع، يجب ان تموت الكلمات علي الاقلام والافواه كي يسود الاستبداد.
حين اقول لكم ايها الصديقات والأصدقاء اننا لا نملك شيئا سوي الكلمات، فهذا يعني اننا لا نزال نملك الحرية، حتي حين نكون في السجون او مهددين بالقتل. فالصراع مع الاستبداد يبدأ بتصويب اللغة، عبر استعادة الكلمات لمعانيها. وانتم في السجن المظلم تدفعون ثمن الكلمة التي استطاعت ان تسمي الأشياء بأسمائها، ووقفت شامخة في وجه حفل التهريج الفكري الذي اندفع اليه كثير من المثقفين العرب وهم يتنازلون عن علمانيتهم ويتناسون حقهم في الديموقراطية، امام ديكتاتورية لا تعني لها الممانعة سوي تأبيد سلطتها وتفكيك مجتمعاتها.
انتم في دمشق ـ الشام ورفاقكم في فلسطين تعانون القمع نفسه، حتي وان لبس مسوحا مختلفة. نضال مروان البرغوثي ورفاقه ضد الاحتلال الاسرائيلي لا يشبه سوي نضال رياض الترك وميشال كيلو و فداء الحوراني ورفاقهم ضد الاستبداد.
المعركة واحدة في بيروت والقدس ودمشق، فالبلاد الشامية التي تئن تحت وطأة العسف الاسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة، تئن ايضا من الاستبداد الداخلي الذي يزور تاريخ نضالها، ويضع شعوبها امام حافة الحرب الأهلية.
لكم ايها الصديقات والاصدقاء حبنا وتضامننا واصرارنا علي ان يتحقق حلم الحرية مهما كانت التضحيات.
اما الثقافة العربية النائمة والغافلة عن مأساتكم، فانها بصمتها تخون نفسها وقضيتها، لذا يجب ان ينكسر الصمت اليوم قبل الغد، وتعود لغة العرب سلاحا في مواجهة هذا التصّحر الانحطاطي الزاحف.