ربحان رمضان – في عشية يوم الطفل العالمي سأحدثكم عن جنكو ..
في الأول من حزيران من كل عام يحتفل الأطفال بعيد الطفل العالمي .. وفي الثالث منه بعيد الأب ..
في الرابع من حزيران مات سليمان كعرّكة ابن حي الأكراد الذي تنبأ بخسارة الأنظمة العربية في موته حيث كان يقول : ” ياويل العرب بعدك ياسليمان” .. وفعلا وفي اليوم التالي خسر العرب حرب النكسة ..
ومن أجل الخامس كتب الدكتور محمد أيوب قصته الكوابيس تأتي في حزيران .. وكتب الدرويش وكتـّاب كثر معاتبين أنظمة الهزيمة ..
في الخامس من حزيران ولد ابني جنكو .
سأدع عيد الطفل والأب العالميان ، وسأدع وفاة “المتنبئ الكردي” سليمان كعرّكة وخسارة العرب في يوم النكسة وكل ما كتبه الشعراء والكتاب عنها جانبا …
وأحدثكم عن ابني جنكو .
لن أقص عليكم مأساتي في الغربة ، ولا ظلم ذوي القربى ، ولا عن مضايقات أجهزة الأمن بفروعها المختلفة وعلى رأسها ما أسماها مختلقها المضروب في عقله بالأمن (الوقائي) الحاقدة التي تعدّت علي في رسائلها الألكترونية الكاذبة والتافهة وباسلوب جبان .. ، ولا عن كل المعاناة التي لم أذق مثلها قبل نفيي من وطن لا أحلى منه ولا أجمل .
سأحدثكم عن جنكو ..
تزوجت منذ تسعة عشر عاما تقريبا ، أي منذ أن وليت هاربا من بلدي ،
فقد بات السجن والاعتقال هو المكان النهائي لمن يقول كلمة حق ، فقصدت بلدا ً اشتراكي اعتقاداً مني أن أجهزة الأمن والمخابرات ستنساني مع مرور الوقت ، وربما يتسنى لي أن أدرس في جامعاتها إحدى الدراسات الأكاديمية . ..
كان اسمه (بلغاريا)
وبلغاريا كبلد يشبه بلدنا من حيث الشمس والهواء والماء .. يشبه بلدنا من حيث طيبة أهله ، ورحابة صدرهم ، وعداءهم للتعصب بأشكاله ، وترحيبهم بالغريب ، فرزقنا الله بولد بعد فترة طويلة جدا من زواجنا .
زوجتي تصغرني كثيرا .. كانت تناديني باسم ابني “جنكو” لأنه من الصعب على أوربيين أن ينطقوا كلمة أبو جنكو بسهولة ، وأصبح جميع معارفنا البلغار ينادوني بنفس الاسم حتى ولد جنكو .
كانت زوجتي عاقر ، لذلك لم نترك مشفى أو طبيب وطبيبة في النمسا أو بلغاريا إلا أن راجعناهما من أجل أن يرزقنا الله بولد ..
وعقب العفو العام الذي أعقب وصول ابن الرئيس الراحل إلى سدة الحكم كخلف لأبيه سافرت إلى الوطن لأرى أمي ، وأقاربي ، وأصدقائي ، وأحبابي .. لأنعم باستنشاق هواءه الطيب وبشرب ماءه العذب وأحس بترابه المقدس ..
نصحتنا أختي الكبيرة أن نزور الأماكن الأثرية والدينية في دمشق .. وفعلا ً ذهبت معنا لنزور يومها مسجد بني أمية ، وقبر السلطان صلاح الدين الأيوبي ، وقصر العظم وجامع الشيخ محي الدين ابن عربي ، والمتحف الحربي ، وضريح السيدة زينب ، والكنيسة المريمية في سوق مدحت باشا ، وكنيسة الزيتون في باب شرقي ، ثم اتفقنا مع صاحب سيارة نقل صغيرة فاستأجرناها وقصدنا قرية صيدنايا القريبة من مدينتي دمشق ، فزرنا كنيسة السيدة العذراء ،ثم توجهنا إلى معلولا حيث تقبع أقدم كاتدرائية في كل أنحاء العالم ..
اقتربت أختي من الراهبة القيمة على ضريح القديسة أو الولية الصالحة (مارتقلا) وطلبت منها أن تدعوا الله شفاعة بمارتقلا أن يرزق أخيها بولد ، فقرأت الراهبة بعض أدعية ، وبخرّت زوجتي ، ثم لفـّت خيط حول بطنها وقالت لها ستعودي إلى هذا البلد في السنة القادمة وأنت حامل إن شاء الله .
ثم وبعد أيام عدنا إلى النمسا حيث نقيم .. ونسينا ما جرى ، وانشغلنا برزق يومنا ، والعمل ، والحياة الرتيبة في الغرب .
ولم تتوانى زوجتي على مراجعة المشافي بحثا ً عن دواء ، عل ّ الله يرزقها بطفل دون جدوى ..
في الصيف التالي رتبنا أمورنا لنعود نزور الوطن حيث كانت أمي رحمها الله تنتظرنا مشتاقة لنا ، وكنت مشتاق لها .
وما أن مضى على وجودنا في دمشق بضعة أيام إلا وألمت ّ بزوجتي عوارض حمل كانت تلم بها قبل ذلك وتكون النتيجة دائما حملا ً كاذب ، فطلبت مني بالسر أن أذهب للصيدلية وأشتري مايسمى ب “التيست ” أي التجربة للتأكد من تلك الأعراض ، فظهرت النتيجة أنها حامل .
لم تصدق ، رجتني أن لا أذيع الخبر ، وذهبت لأشتري (تستا ً” آخر من غير نوعية .
أيضا ً كانت النتيجة : (حامل) ..
اتصلت بابنة أخي وصديقي أبو بسام (الدكتورة رزان) الأخصائية بطب الأطفال ، فكانت النتيجة ذاتها .. حامل .
زوجتي لم تصدق ذلك ..
حال عودتنا إلى النمسا َذهبت زوجتي لمراجعة الأطباء .. فظهرت النتيجة ذاتها … حامل .
ولشدة حبها وولعها بطفل فقد قدمت طلبا في عملها ليعطوها فترة استراحة تسمى فترة رعاية الطفل تبدأ عادة في الشهر الثامن من الحمل وتمتد لفترة ثلاث سنوات ، لكن زوجتي حصلت عليها منذ الشهر الأول .
بدأت تعد له الاستقبال منذ ذلك اليوم ..
اشترت مطبخا ً جديدا ً ، وقمنا بتبليط الحمام بلاطا جديدا ، واشترت له عربة ، وسماعات إذا بكي في غرفة نومه نسمع صراخه في الغرفة الأخرى ، وبذلك تراكمت علينا الديون ، وصعبت الحالة بالرغم أننا نعمل كلانا ، ونقبض راتبا مغريا في تلك الأيام .
وكنت أقول لها انتظري إلى فيما بعد .. الطفل لن يشعر بهذا كله ..
اشترت له ألبسة ، وألعاب ، وحمام سباحة ، وفوَط .. وأشياء كثيرة سيما بعد أن أخبرنا الأطباء بأنه ولد ..
بدأنا نتجادل حول تسميته ، كنت موقنا ً أن اسمه سيكون جنكو ، لكن أحد الأصدقاء كان وزوجته في زيارة لنا علقَّ على الاسم قائلا إنه اسم عدواني ، ويعني حربا ً باللغة الكردية .!
أقامت الدنيا ولم تقعدها وحلفت أنها لن تسميه بهذا الاسم .
ماذا ستسميه إذا ً؟
– طوني .
وهل من المعقول و بعد ثلاثين عاما ً من إطلاق اسم أبو جنكو أن يناديني الرفاق : ” أبو طوني ؟!!” .
كبري عقلك يا امرأة ..!!
– طيب ماريو .
ياعزيزتي ، الرفاق لن يفهموا مايدور بخلدك ، من المستحيل أن أغير لقبي ، أو اسم ابننا ، دعيه جنكو ، والتالي سنسميه على كيفك …!!
– لا ، لن أسميه جنكو .
ويدور جدال ، يطول حتى تصيح الديكة أيام الجمع والسبت والآحاد ، ولكن في النهاية قبلت زوجتي أن يكون اسمه جنكو ، رغم أن حلما ً أوحى فيه وحي لها أن تسميه اسماعيل على اسم اسماعيل بن ابراهيم ( الكردي) عليهما السلام .
ولد جنكو في الثالثة صباحا ًفي مشفى التوليد بمدينة لينز ، تماما ً في نفس الساعة التي ولدت فيها في إحدى غرف بيت كان يقع مقابل بيت مفتي سوريا السابق (أحمد كفتارو) على ضفة نهر يزيد الذي يمرّ بحي الأكراد ، وكان بيني وبين والدي رحمه الله خمسين عام ..
كذلك ولد جنكو وبيني وبينه خمسون عام !!
سبحان الله ..!!
لا أعتقد أنه شعر بتحديث الأثاث في البيت .. كان طفلا ً حركا ً ، لايبكي ، ولا يشكي ، وإذا لم تجبره أمه على الرضاع ، لا يرضع .
مشى جنكو خطواته الأولى في نهاية العام الأول .. لم يزحف كباقي الأطفال أبداً .. تعلم الركض في البداية ثم المشي ، وكان يتقن الركض أفضل .. علمناه السباحة حتى أنه يسترق الوقت الذي نغفل به عنه ليرمي نفسه في أية بقعة ماء .
لا ينام بسرعة ، كأنه أبوه ، لاينام حتى يستعرض أعمال يومه وإذا مرّت مشكلة في ذلك اليوم فإنه من الصعب عليه أن ينام بسرعة ..لذلك اضطررنا (أمه وأنا) أن نمّشيه معنا ، نراكضه ، ونلعب معه قبل الخلود إلى النوم .. تعمّدنا أن نصعد سلم العمارة (الدَرج) دون مصعد كهربائي كي يصل البيت وهو في (الطابق الخامس) تعباً، وفعلاً هكذا حدث في الأسبوع الأول والثاني غير أنه أصبح يسابقنا فيما بعد فنصل تعبين ونخلد إلى النوم قبله .
تأخر في الكلام لأننا كنا نتكلم معه بأكثر من خمسة لغات ، ولكننا أخيراً قررنا أن نكلمه بلغتين فقط ، لغة أمه ، ولغة أهل البلد الذي نعيش حالياً فيه وهي الالمانية .. (فــَبلش) يتكلم والحمد لله بعض الكلمات .
ذات يوم كنـّا في حديقة عامة يرتادها الأجانب أمثالنا ، وكانت صبية تداعب كلبها الذي لم يبلغ من العمر سوى ثلاثة أسابيع .. رآه جنكو فركض وراءه يداعبه ، فداعبه الكلب بالمثل … هرب جنكو فلحقه الكلب حتى أصبح جنكو بجانبي والكلب في جهة أخرى من الساقية الصغيرة التي تتوسط الحديقة .. قلده جنكو في نباحه ، فقفز الكلب وابتل في الماء .
في المساء أخبر أمه بالحادثة فقال : ” .. ماما ماما : باوباو بوم واوا ” أي وقع الكلب في الماء ، وتألم …
إنه ذكي .. .. محب للناس .. وكثير الحركة والكلام (تماما كما كتب عني الأستاذ سليم أيوبي رحمه الله عني عندما كنت تلميذا ً في الابتدائية) وبالمناسبة فقد استأجر المرحوم ياسر عرفات بيته لمدة أربعة أشهر في الستينات من القرن المنصرم ..
منذ أيام دعى فرع لينز لحزب الخضر أصدقاءه من الأطفال وأولياء أمورهم إلى رحلة في محافظة المدينة ، شـــاركنا (جنكو ، أمه وأنا) فيها .
أقلتنا حافلة تتسع للستين شخص ، لكن لم يكن فيها أكثر من عشرة أطفال مع أولياء أمورهم ، نقلتنا الحافلة إلى قرية جبلية قريبة من مدينة لينز عاصمة النمسا العليا ..
وما أن وصلنا حتى وجدنا عدة نساء في انتظارنا (كلهن من الحزب المذكور) إحداهن المشرفة على أعمال المزرعة ..
رحبن بنا ، ثم راحت السيدة المشرفة تشرح للأطفال ، وأولياء أمورهم طبيعة عملها كمزارعة ، واسترسلت تحكي عن فوائد أكل المنتجات الطبيعية كالحليب واللبن والجبن بعيدا ً عن المأكولات التي تدخلها عناصر كيميائية وسكر مصنوع ، ولحوم وشحوم ودهون …
صرحت السيد المشرفة عن عدد الموظفين في المزرعة ، حيث أنه يوجد فلاحون ، ونجارون ، ومختصون بتربية الحيوان .
يوجد في المزرعة عشرون بقرة حلابة ، وثلاثة عجول ، منحلة تحتوي على ستة صنايق فيها خمسة ملكات موزعة بين تلك الصناديق ، ويوجد في الحظيرة خنزير صغير ، وحمارة اسمها (فلورا) ستلد قريبا ..
بعد أيام سنحتفل بعيد ميلاده السادس ، وقد استأجرت لهذه المناسبة صالة من صالات البلدية والتي تسمى ب (فولكس هاوس) أي بيت الشعب ، وقد خبئت له كل رسومه التي رسمها على الورق في دار حضانته منذ سنتين حتى الآن ، وبعض الصور التي أخذتها له في احتفالات الشعبين الكردي والبلغاري ، فهو يحضر معي أعياد النوروز ، وجميع مناسبات البلغار ، كما أنه تلميذ مجتهد لدى السيدة آني معلمة اللغة البلغارية في جمعية الدانوب الثقافية البلغارية – النمساوية .
وفي بداية أيلول سيلتحق بالمدرسة الابتدائية التي تقع خلف غابة ال (فاسر فالد) ..
لم تقبل أمه بتجنيسه بالجنسية السورية خوفا عليه فيما بعد من غضب السلطة وأجهزة الأمن .
حاولت إقناعها .. لم تقتنع ، في كل مرّة تذكرني بما ذكرته لها ذات مرّة عن تعميم وزير داخلية بلدي ذو الرقم/122 تاريخ تشرين الأول 1998 القاضي بمنع تسمية المواليد الجدد بأسماء كردية ..
تقول لي : ” لا يوجد أمان في بلدكم ، ربما يعتقلوه إذا زار الوطن فيما بعد ، وعرفوه أنه من أصل سوري ..!!” .