النائبة اليهودية – جورج حداد
لا يزال بعضنا يعتقد ان “الديانة!” اليهودية هي ديانة سماوية، كالديانتين الشرقيتين الاخريين: المسيحية والاسلام، وان الخلاف مع اليهودية يدخل تحت عنوان الخلافات الدينية بصورة عامة. ولكن هذا خطأ شائع يجب اعادة النظر فيه، اولا لأن اليهودية ليست ديانة سماوية، بالمعنى “الالهي ـ العلوي” الذي للمسيحية والاسلام، وثانيا، وهو الاهم: قوميا، اجتماعيا وتاريخيا، ان المسيحية والاسلام ظهرتا كطفرتين ايجابيتين او كثورتين اجتماعيتين، في صالح تكوين وتطوير الامة العربية؛ وفي صالح التقدم الحضاري الانساني؛ اما اليهودية، فعلى النقيض من ذلك تماما، ظهرت واستمرت ولا زالت كلعنة، وكمصيبة تاريخية، وكعدو دائم للامة العربية، ومن ثم للانسانية جمعاء.
وهناك مقولة شهيرة يعرفها اي مواطن عادي، وغالبا ما تستخدم في اجهزة الاعلام، وهي مقولة “اعرف عدوك!”.
ولقد مضى ستون سنة على اغتصاب فلسطين وقيام اسرائيل على انقاضها، واكثر من قرن على تأسيس الحركة الصهيونية العالمية. ومع ذلك يبقى السؤال: هل نعرف عدونا حق المعرفة؟؛ ام اننا لا زلنا ندور في الحلقة المفرغة لـ”دائرة المعرفة” عن العدو، التي يريد العدو ذاته الا نخرج منها، والتي تتردد بين حدي الفهم السياسي ـ القومي السطحي، والفهم السياسي ـ الديني السطحي للصراع، وهو ما يجعل مفهومنا للصراع مع اسرائيل والصهيونية واليهودية، اشبه شيء بمفهوم الصراع ضد استعمار استيطاني تقليدي، كما كان في الجزائر او افريقيا الجنوبية، او مفهوم صراع ديني ـ مذهبي، كما كان في الهند وباكستان او الهوتو والتوتسي، او حتى العراق ولبنان وجنوب السودان الخ.؟
ان صراعنا مع اليهودية هو اعمق من ذلك بكثير، وهو يرتبط بأساس تركيبة المجتمع البشري والنظام الاجتماعي العالمي. فالظاهرة الوبائية اليهودية كانت ولا زالت وبالا على الامة العربية خاصة، وعلى الجنس البشري عامة، بما في ذلك على غالبية اليهود العاديين، الذين لا ذنب لهم في انهم ولدوا يهودا، والذين تحملوا الويلات كردود فعل على مسلكية وممارسة الطغمة اليهودية العليا، المالية ـ الكهانية، التي تتجسد فيها اليهودية “دينا ودنيا”. ويكفي ان نتوقف عند المحطات التالية لظهور وتطور اليهودية:
1 ـ يرتبط نشوء اليهودية بتشييء المرأة، واستخدامها كـ”اداة للذة” فقط ووسيلة تجارية لجمع الثروة، بعد ان كانت المرأة، في العهد الامومي (المطريركية) العضو الاهم في التركيبة الاجتماعية انطلاقا من كونها رأس “العائلة” الانسانية الصغيرة، ومن ثم هي المحور الاول في الاجتماع البشري. والتوراة اليهودية ذاتها هي التي تفيدنا عن هذا “الانجاز” اليهودي، حيث تخبرنا التوراة (في سفر التكوين) ان ابرام عندما ارتحل الى مصر استخدم امرأته ساراي لمعاشرة ومضاجعة المصريين والفرعون من اجل الحصول على ثروة؛ وكان ذلك بداية “اول مهنة في التاريخ” التي تطورت لاحقا الى مهنة تجارة الرقيق الابيض التي كان اليهود ايضا اسيادها، خصوصا في مرحلة الدولة العربية ـ الاسلامية.
2 ـ ان اليهود (يوسف وجماعته ـ راجع التوراة، سفر التكوين ايضا) هم الذين دمروا انسانية الشعب المصري، واستخدموا الخزعبلات الشامانية والالاعيب التجارية واحتكار الحنطة، لتجويع المصريين واجبارهم على تسليم كل ما يملكون من فضة وذهب ونقود، ومن ثم تسليم كل ما يملكون من حيوانات استخدام وماشية، ومن ثم تسليم ارضهم وتسليم انفسهم كعبيد لفرعون، بحجة “انقاذهم” من الموت جوعا.
3 ـ طعنوا في الصميم تقاليد الاخاء الانساني والجيرة والوفاء والمروءة والذمة، حينما (بالاتفاق مع الفرعون وبـ”وحي” من الههم) نصبوا على المصريين ونهبوهم حيث اقترض كل منهم، رجالا ونساء، من جيرانهم الاواني والحلي والنقود ثم فروا الى سيناء بقيادة موسى (راجع سفر الخروج)، حاملين معهم ثروة كبيرة، مدعين انهم فروا من العبودية، في حين انهم هم الذين كانوا الى جانب الكهنة جزءا من الادارة الفرعونية لاستعباد المصريين.
4 ـ كذبوا باسم الله عز وجل، وادعوا انه “يهوه”، وانهم “شعب الله المختار!!”، وانه اعطاهم “ارض الميعاد!!” من الفرات الى النيل، وانه دعاهم لابادة العرب عن بكرة ابيهم (راجع ايضا سفر الخروج).
5 ـ غزوا فلسطين ونهبوا وسلبوا وقتلوا وسبوا، ولكنهم اخيرا عجزوا عن ان “يبلعوا البحر”، فاضطروا للتكيف مع المجتمع العربي (الزراعي، الحرفي، التجاري) الارقى من قبيلتهم البدوية التجارية الهامشية. الا انهم كرسوا مبدأ التمييز الديني والاتني والعنصري، ومبدأ الانتهازية والخيانة والسير في ركاب الملوك والاباطرة والاكاسرة ضد الشعوب التي تكونت منها الامة العربية التي كانوا يعيشون في ظهرانيها. وعلى مر التاريخ العربي، كانوا مع السلطات الاستبدادية ومع الغزاة الاجانب، ضد الشعوب العربية.
6 ـ ساروا في اعقاب الفينيقيين الصوريين حينما هاجروا الى شمال افريقيا وبنوا قرطاجة العظيمة، وذهبوا الى اسبانيا في اعقاب هملقار برقة (والد هنيبعل)؛ وعاشوا في افريقيا الشمالية واوروبا، في ظلال قرطاجة وروما واغريقيا، بين الفينيقيين والامازيغ والرومان والاغريق والقوطيين والغاليين، كجماعة تجارية هامشية لا هم لها سوى التكسب والربح “مع الجميع ضد الجميع”. وحينما سقطت قرطاجة تحت حوافر الرومان وبيع اهلها كعبيد، تحول اليهود الى تجارة العبيد، وحينما سقطت نوميديا الامازيغية (البربرية) على يد الرومان ايضا، وحينما سقطت شرقي اوروبا الاغريقية ـ السلافية بيد الرومان كذلك، فصارت اكثرية العبيد من الامازيغ (البربر) ومن الاوروبيين الشرقيين وصارت كلمة “بربري” تعني “همجيا” وكلمة “سلافي” تعني “عبدا”، تحول اليهود الى اهم فئة تجار عبيد في العالم القديم.
7 ـ ساروا في ظلال روما في غزو مصر وفلسطين وسوريا والاراضي العربية؛ وكانوا عونا للرومان على الشعوب الشرقية التي يتحدرون منها.
8 ـ حينما بدأت الثورة المسيحية العظيمة ضد روما، وهي الثورة التي قامت على كاهل الشعوب الشرقية التي تكونت منها الامة العربية، وشارك فيها ـ اي الثورة ـ غالبية الفقراء اليهود ايضا، وقفت الطغمة المالية التجارية اليهودية واعوانها من الكهان ومن الطغام ضد الثورة المسيحية، وتعاونوا مع الاباطرة والحكام الرومان لسحقها، بدءا من قطع رأس يوحنا المعمدان، ثم قتل الاطفال حين ولادة المسيح، ثم صلب السيد المسيح، ومطاردة وقتل المسيحيين الاوائل طوال مئات السنين. وفي عمليات مطاردة وابادة المسيحيين، التي استمرت مئات السنين، كان الجلاد روماني واليوضاس (الخائن والجاسوس والواشي) يهودي.
9 ـ كان اليهود وراء تكوين مملكة الخزر اليهودية، التي قامت على الغزو والسلب والنهب والسبي، بالتعاون مع “ابناء عمومتهم” القبائل الطورانية التي كانت ايضا تعيش على الغزو والسلب والنهب، ضد البلغار القدماء والروس القدماء.
10 ـ حينما وصل طارق بن زياد الى اسبانيا كان اليهود موجودين هناك من ايام الزعيم القرطاجي هملقار برقة، فأستغلوا “شرقيتهم” وانتشارهم ليمسكوا بأعنة التجارة، وخصوصا تجارة الحريم والغلمان والخصيان والعبيد، في الدولة العربية ـ الاسلامية، وهو ما اتاح لهم ان يعملوا على نخرها وتفكيكها من الداخل، ويساعدوا على تقويضها وانهيارها.
11 ـ تعاون اليهود الخزر (بعد ان قضى الروس على مملكتهم على بحر قزوين) واليهود العبرانيون على قيام وصعود السلطنة العثمانية والسيطرة على القسطنطينية (لمنع الروس من الاتحاد معها او ضمها) ومن ثم “فتح” البلاد العربية الاسلامية (باسم “الاسلام!”) وسحق العرب واذلالهم وافقارهم وجعلهم في الدرك الاسفل في سلم الرقي الاجتماعي بعد ان كانوا في الطليعة.
12 ـ بعد “اكتشاف” اميركا، لعبت الطغمة اليهودية العليا دورا مركزيا في تشجيع الهجرة (لا سيما هجرة الرساميل والمجرمين والعصابات الاجرامية) الى “اميركا” وابادة سكانها الاصليين واستعمارها. وبسبب من تعاونها الاوسع والاقرب مع البروتستانتية الانكلو ـ ساكسونية، كان النجاح في استعمار اميركا الشمالية اكبر منه في اميركا الجنوبية، التي غلب عليها الطابع الكاثوليكي اللاتيني، حيث طغت عملية التمازج مع السكان الاصليين مع سيادة العنصر اللاتيني، في حين ان “التنظيف” او الابادة التامة للسكان الاصليين هي التي طغت في الشمال.
13 ـ بسبب ابادة السكان الاصليين في اميركا الشمالية نشأت الحاجة الى اليد العاملة الرخيصة، خصوصا في الزراعة واستصلاح الاراضي “المملوكة” حديثا من قبل المستعمرين الجدد. فكانت الطغمة اليهودية، ذات التجربة العريقة بتجارة الرقيق، هي المحرك الاساسي لعملية صيد البشر واستعبادهم في افريقيا، وبيعهم ونقلهم للعمل كعبيد في “العالم الجديد”. وقد مات عشرات الملايين من هؤلاء البائسين في الطريق، قبل ان يصلوا الى “جنة العالم الجديد”، فكانت جثثهم ترمى في البحر، كنفايات او قاذورات، بدون اي طقوس دينية او غير دينية، وبدون اي اعتبار لقيمة الكائن البشري.
14 ـ عشية وبعد الثورة الفرنسية بدأ ينتشر الفكر الثوري والتقدمي والاشتراكي، ضد بقايا الانظمة الاقنانية والاقطاعية والرأسمالية، ويشمل قطاعا واسعا من العمال والفقراء والانتلجنتسيا اليهود (الذين يعانون تبعات ارتكابات الطغمة العليا المالية والكهانية اليهودية). وفي القرن التاسع عشر ظهرت الاشتراكية العلمية (او الشيوعية) على يد مفكر من اصل يهودي هو كارل ماركس، وهو ما تستغله الاوساط الامبريالية والرجعية المتعاونة معها للادعاء بأن الشيوعية والصهيونية هما صنوان لمجرد ان ماركس هو يهودي. والواقع ان “يهودية” ماركس هي على قاعدة “لكل شيء ضده من جنسه، حتى الحديد سطا عليه المبرد”؛ اي تماما كما جرى في عهد المسيحية الاولى، حينما ظهر يوحنا المعمدان والسيد المسيح وتلامذته من اوساط اليهود انفسهم. وقد جن جنون الطغمة المالية والكهانية العليا اليهودية، بظهور الماركسية والحركة الشيوعية، فعمدت الى اختراع “الصهيونية” والادعاء بأن اليهود هم “قومية”، بهدف اولي واساسي هو الوقوف ضد انتشار الشيوعية، خصوصا بين اليهود. وبعد العداء للعرب وللروس، وللمسيحية والاسلام، تحول العداء للشيوعية الى حافز و”مكوّن فكري” اساسي لليهودية والصهيونية. واذا جاز لنا ان نشبه الاضلاع الثلاثة المزدوجة لنجمة داود، فإن المثلث الاول (العبري) يرمز الى العداء لـ: المسيحية ـ الاسلام ـ الشيوعية؛ والمثلث الثاني (الخزري) يرمز الى العداء لـ: الروس ـ العرب ـ الشيوعية. وهكذا، وفي انسجام تام مع نشأتها الطبقية، فإن الشعار الاساسي motto الجامع لليهودية والصهيونية اصبح: العداء للفكر الاشتراكي العلمي والشيوعية.
15 ـ في 2 تشرين الثاني 1917، اي قبل 5 ايام فقط من الثورة الروسية، اطلقت الامبريالية البريطانية ما يسمى “وعد بلفور”، بقصد استدراج اليهود العنصريين لاقامة دولة يهودية تحمي المصالح الامبريالية، وخصوصا منابع وممرات النفط المستخرج حديثا، في المنطقة، والذي كان له ـ اي للنفط ـ دور رئيسي في هزيمة المحور الالماني في الحرب العالمية الاولى. وكانت اليهودية العليا والتنظيمات الصهيونية التابعة لها تتصور ان اليهود سيتهافتون على تلبية ندائها “القومي” المزيف. ولكن مع قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا في 7 تشرين الثاني 1917، اصيبت الحركة “القومية” الصهيونية والطغمة المالية اليهودية العليا ومعها الامبريالية العالمية بأسرها، ـ اصيبت بـ”فجيعة” مزدوجة هي: ان قلة تافهة جدا من اليهود الاوروبيين لبت “نداء” الذهاب الى فلسطين، وأن الغالبية الساحقة من الجماهير الشعبية بما فيها الانتلجنتسيا اليهودية اختارت التوجه في الاتجاه الاخر، اي الخيار الاشتراكي، ان في روسيا حيث كانت المشاركة الشعبية اليهودية في الثورة الاشتراكية مشاركة كبيرة جدا، وان في اوروبا الغربية حيث كانت مشاركة الجماهير العمالية والانتلجنتسيا اليهودية في الاحزاب الشيوعية والاشتراكية ـ الدمقراطية مشاركة كبيرة جدا ايضا؛ وهذه “الفجيعة” لعبت دورا مركزيا في تقرير المصير الفاجع لاحقا لشعوب اوروبا والعالم، بما في ذلك للجماهير العمالية والشعبية اليهودية في اوروبا.
16 ـ مدفوعة بـ”الفجيعة” آنفة الذكر، عمدت الطغمة اليهودية العالمية والحركة الصهيونية، الى التآمر مع البيروقراطية الحزبية ـ الدولوية السوفياتية بقيادة الخائن ستالين، لحرف السلطة السوفياتية الجديدة عن طريقها الصحيح، ولسحق الحركة الشيوعية في روسيا، وخاصة الانتقام من الحركة الشيوعية في صفوف الجماهير اليهودية، وهذه المؤامرة هي الاساس السياسي للارهاب الستاليني المعادي للشيوعية، الذي بدأ بمحاولة اغتيال لينين في 1918، ثم شله فقتله بواسطة العلاج الخاطئ، ثم التصفية الجسدية لاغلبية اعضاء الحزب البلشفي الذين شاركوا في الثورة، واعدام عشرات الملايين من ابناء الشعب الروسي وعشرات الالوف من ضباط الجيش الروسي، الذي كانوا يعملون على بناء الاشتراكية وحمايتها.
17 ـ ومدفوعة بـ”الفجيعة” ذاتها، عملت الطغمة اليهودية العالمية والحركة الصهيونية على التآمر مع الحركة الاشتراكية ـ القومية (النازية) بقيادة ادولف هتلر، ومع الاممية الاشتراكية ـ الدمقراطية بقيادة كاوتسكي الموالية للامبريالية، لمواجهة وسحق الحركة الشيوعية في اوروبا الغربية، وخصوصا في صفوف الجماهير العمالية والانتلجنتسيا اليهودية؛ وبدأت هذه المؤامرة باغتيال وتصفية القائدين الشيوعيين روزا لوكسمبورغ (اليهودية الاصل) وكارل ليبنخت و15 الف عامل شيوعي في برلين في 1919، وكانت ـ اي هذه المؤامرة ـ في اساس ما سمي فيما بعد الهولوكست، اي عملية الابادة الموجهة ضد الجماهير اليهودية المؤيدة للشيوعية والاشتراكية والمعارضة للصهيونية، بشكل خاص، وضد الشيوعية بشكل عام.
18 ـ وقد كانت هذه السياسة التآمرية العدوانية والوحشية للطغمة اليهودية العليا والصهيونية العالمية احد الاسباب الرئيسية لاندلاع الحرب العالمية الثانية، ومهاجمة هتلر للاتحاد السوفياتي، وهو ما ادى الى هلاك حوالى 60 مليون انسان، منهم 30 مليون سوفياتي.
19 ـ وقد انتهت هذه التراجيديا الكابوسية للانسانية بأسرها بالاتفاق بين العميل السري الصهيوني ستالين وبين روزفلت وتشرشل على حل “الكومنترن” (الاممية الشيوعية) لمصلحة الامبريالية العالمية، وعلى الموافقة على تقسيم فلسطين واقامة اسرائيل، لمصلحة الصهيونية العالمية، واخيرا على اجبار قيادات الاحزاب الشيوعية في منطقة النفوذ السوفياتية (في اوروبا الشرقية) على اصدار قرارات حزبية تقضي بارسال يهود اوروبا الشرقية الى اسرائيل، بصرف النظر عن معارضة قسم كبير منهم لتلك القرارات. وقد شذ عن ذلك فقط قيادة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي، بقيادة تيتو، التي كانت على نزاع مع ستالين، الخائن الاكبر للشيوعية، والتي كانت تؤيد اقامة دولة فلسطينية واحدة.
20 ـ وما نشهده اليوم، فيما يسمى “العولمة” الاميركية، هو قمة “تهويد” المجتمع، حيث تنفصل “اللعبة المالية” اليهودية انفصالا متزايدا عن عملية الانتاج والتجارة الكلاسيكية، بحيث ان قلة من كبار المليارديرية والادارة التكنوقراطية المرتبطة بهم تتجمع خلف المحيط، وتتحكم بعملية الانتاج والتوزيع والاستهلاك في العالم بأسره، بواسطة وسائل الاتصال الحديثة، فتحكم على مصائر بلدان وقارات كاملة بالموت او الحياة، وعلى قطاعات انتاج كاملة بالاستمرار او التوقف، وتشن الحروب اينما تشاء، وتطلق الاوبئة هنا وهناك وتتحكم بالادوية والاغذية كما تشاء؛ دون ان تحتاج ـ هذه القلة – الى الاقتصاد الوطني في بلدها ذاته، اذ انها تصبح متحكمة، في كل لحظة بلحظتها، بالعملية الانتاجية والوجود الانساني بأسره في الكرة الارضية بكاملها. وللاسف ان بعض “المثقفين” الماركسيين المزيفين والستالينيين الحقيقيين، مثل فؤاد النمري، يستدلون من ذلك على ما يسمونه “زوال الرأسمالية والامبريالية” في اميركا، حيث ان العملية الانتاجية “الرأسمالية الكلاسيكية” لم تعد تتعدى 17% من الاقتصاد الاميركي، ويقول هؤلاء ان اميركا دخلت في عصر “الاستهلاكية”؛ ولكن هذه العين الستالينية العوراء لا ترى ان شعوب العالم بأسره تتحول الى “عبيد” حقيقيين لدى “اميركا الاستهلاكية”، وان هذه “الاميركا الاستهلاكية” تصبح عالة طفيلية على العالم بأسره، وليس فقط على “الطبقة العاملة الاميركية”، وبالتالي ان القضاء على النظام القائم في “اميركا الاستهلاكية” وعلى رأسه “المتمولون اليهود والانكلو ساكسون” الاصدقاء القدماء ـ الجدد لستالين والستالينيين والنيوستالينيين، يصبح مهمة آنية شديدة الالحاح امام الانسانية بأسرها وعلى رأسها الامة العربية المظلومة، المنكوبة باسرائيل والاحتلال الاميركي ـ اليهودي.
XXX
وبناء على مقولة “اعرف عدوك” من الضروري معرفة “الديانة اليهودية” ذاتها، وليس فقط الصهيونية وما نادت به من “قومية يهودية!!”. لقد نشأت الصهيونية في ظروف المد الاستعماري ضد الشرق، من جهة، والاضطهاد الذي كان يوجه الى اليهود في اوروبا، ولا سيما على يد النازية عشية وخلال الحرب العالمية الثانية، من جهة ثانية، والذي هو اضطهاد لا يد للعرب فيه، لا من قريب ولا من بعيد. ولكن الصهيونية لم توجد في “فراغ يهودي”، بل هي فرع على اصل، اي هي استمرار للنزعة “اليهودية” المعادية للعرب، التي تدخل في صلب “الديانة!!” اليهودية، التي هي تعبير وتأطير “ديني المظهر” لظاهرة طبقية استغلالية ـ عنصرية تضرب بجذورها في عمق التاريخ، وقد عملت الصهيونية على المزيد من توريتها عبر اعطائها طابعا “قومي المظهر”، بمواجهة الحركة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية.
وان غالبية الابحاث العربية لمعرفة “اليهود” و”اليهودية”، لا تكاد تخرج عن نطاق “الوصف” و”التعرّف”، اي وصف “تاريخ” نشوء “الديانة!!” اليهودية و”تاريخ” اليهود ومظاهر العداء اليهودي للعرب. وبمقدار ما ان هذا ضروري، فإن من الضروري اكثر هو معرفة المحتوى الاجتماعي العدواني لـ”الديانة!!” اليهودية، اي: ما هي الطبيعة الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ السياسية، والاسباب والظروف التي ادت الى ظهور هذه العصابة المتسترة بالدين، المعادية للعرب وللانسانية جمعاء.
وهذا واجب يقع على كاهل كل الباحثين الجادين العرب والانسانيين، بمن فيهم اليهود الانسانيين انفسهم. وهي مسألة تتجاوز الجانب الديني البحت؛ لأن المشكلة بين اليهود والعرب ليست مشكلة خلاف ايماني ـ غيبي حول “الطبيعة الالهية” او “الذات الالهية” او “جنس الملائكة” او “الجنة والجهنم” او الانبياء والرسل وما اشبه، بل هي مشكلة انسانية تتعلق بطبيعة الممارسات اليهودية المعادية للعرب وللمجتمع العربي قديما وحديثا. والجانب الديني البحت، هو جانب ايديولوجي ـ تعبيري عن الواقع والممارسة العمليين. ومن ثم فإن المشكلة السببية في العداء اليهودي للعرب هي ليست في ان اليهودي يدّعي ان “الهه!” افضل من اله المسيحيين والمسلمين العرب، وانه هو نفسه “شعب مميز الهيا!” او “شعب الله المختار!” حيال الشعب العربي “الدون” بالنسبة اليه، بل المشكلة هو ان اليهودي يعتدي على العربي، و”الديانة!!” اليهودية تدخل كتعبير وكتبرير لهذا الاعتداء، قديما وحديثا. ولهذا، ولكي “نعرف عدونا”، علينا ان نعرف كيف ولماذا ظهرت “الديانة!!” اليهودية كـ”ديانة!!” معادية للانسان كانسان، ومن ثم معادية للعرب وشعوب العالم اجمعين.
XXX
ان اليهودية كـ”ديانة!!” لم تظهر في “فراغ ديني”. فقبل ظهور “الديانة السماوية!!” ـ التجريدية ـ اليهودية، كانت توجد الديانات الوضعية ـ الملموسية، الوثنية. وكانت تلك الديانات ترتبط، بهذا الشكل او ذاك، وبحسب اجتهاد هذا الكاهن او الشامان او ذاك، بالعناصر الطبيعية والاجتماعية لـ”وجود” الانسان، المرتبطة بدورها بعوامل الولادة والحياة والموت، والخوف والجهل وتفتـّح وتدرّج الوعي. و”الموضوعات” التي تمحورت حولها تلك “الديانات” كانت تنقسم الى عدة اقسام، اهمها:
1 ـ العملية الجنسية، المرتبطة باستمرار النوع، بما فيها من:
أ ـ لذة النشوة، التي هي لذة لحظوية مرتبطة بالحواس الا انها “شعورية”، “معنوية”، “فوقية”، “سماوية” (اي: لذة فوق ـ حواسية، فوق ـ لمسية، فوق ـ مذاقية، فوق ـ سمعية الخ)؛
ب ـ “خلق” (ولادة)؛
ج ـ مسؤولية اجتماعية (تربوية ـ معيشية ـ اقتصادية)؛
د ـ “علاقة” دموية؛
هـ ـ “قيادة” (زعامة عائلية، عشائرية الخ).
2 ـ الحيوانات المفترسة او القاتلة او “الحكيمة” او “الصبورة” او “المفيدة” الخ الخ.
3 ـ العناصر الطبيعية “العاتية” “الجبارة” و”المخيفة” التي تحمل احيانا الموت: البرق، الريح، النار، الماء، الخ الخ.
4 ـ العناصر الزراعية والغذائية.
5 ـ عناصر السلطة الاجتماعية، واهبة الحياة، والتي يعود لها قدرة و”حق” الحكم بالموت: الاب، شيخ القبيلة، البعل، الزعيم، الملك، الامبراطور، الخ الخ.
وكل الديانات “الوثنية” و”الارواحية” القديمة تتمحور حول هذه “الموضوعات”، اي انها كانت تتمحور حول عبادة مختلف عناصر الطبيعة، بدءا من الجسم البشري، الذي هو اقرب “شيء” الى الانسان نفسه.
وكتعبير “ديني”، مثلا، عن العملية الجنسية المعقدة والمتشعبة، ظهرت الديانات القائمة على تقديس العضو الذكوري، او العضو الانثوي، او الاشخاص والاجساد الخ الخ. (اليوغا تربط الرياضتين الروحية والجسدية (التسامي) بالممارسة الجنسية؛ “الدعارة المقدسة” كانت موجودة في المجتمعات القديمة، وبقيت موجودة في المعابد الهندية حتى مجيء الانكليز الذين منعوها. كما نجد “انعكاس” او “استمرار” تلك الديانات وما يرتبط بها من مفاهيم، في مفاهيم جنسية “مصفـّاة” مثل: “العائلة المقدسة”، الترهب و”نذر العفة”، تقديس الوالدين، التحبيب بالنكاح وتقديس رابطة الزواج، مكافأة المؤمنين بالحور العين في الجنة، الخ الخ). وقد أوجد الانسان مروحة كبرى من “الآلهة” الجنسية، المتشابهة او غير المتشابهة، في مختلف الاماكن والازمان القديمة (ادونيس وعشتروت، ايزيس واوزيريس، الخ الخ).
وحينما تطور علم الفلك، واصبحت نظرة الانسان الكونية اوسع، جاء فرعون مصري هو اخناتون بثورته الدينية، ورفع “العبادة” (ومصر ـ ام الدنيا ـ هي ايضا “ام العبودية”، حيث نشأ فيها اول نظام “عبودي ـ وطني” واسع، اذ (وبـ”فضل” اليهود ايضا، الذين “غمرونا بأفضالهم” منذ القديم ولا يزالون) تحولت الرعية المصرية كلها الى عبيد للفرعون. وتعبير “العبادة”، بمدلولات اللغة العربية العبقرية، انما هو مشتق مباشرة من “العبودية”. وما زال اسم “عبد الله” من اكثر الاسماء انتشارا في العربية؛ ولا نجد مرادفا له في اللغات الاجنبية، التي نجد فيها مثلا مرادفات لاسم “عطالله” او “حبيب الله” او ما اشبه)؛ ـ قلنا: رفع اخناتون “العبادة” الى “فوق”، ولكنه ـ اي اخناتون ـ وقف على عتبة او باب التجريد ولم يلجه، فوضع الالوهة في احد مصادر النار والنور، اي الشمس. ولذلك، فمع ان ديانته الجديدة سميت “توحيدية”، لانه ألغى جميع الآلهة “الارضية” الاخرى، باستثناء “الاله الواحد” الذي رمز اليه بقرص الشمس، فقد ظلت تعتبر ديانة وثنية لانها ديانة غير تجريدية ومرتبطة بـ”اله” وضعي (= شيئي، ملموس، محسوس، مرئي) هو الشمس.
ولكن اخناتون، او الاصح الاخناتونية، قدمت خدمة “ذهنية” كبرى لليهودية بفكرة “التوحيد” (وقد استفاد موسى لاحقا من هذه الفكرة الفرعونية، علما انه هو نفسه ربيب القصر الفرعوني). وهنا يوجد خيط دقيق جدا يميز “التوحيد” اليهودي عن التوحيد المسيحي والاسلامي. فاذا اردنا “التعميم”، بعبارة “توحيد”، بأنها تعني إلغاء جميع الآلهة باستثناء “اله علوي واحد”، فحينذاك يجب القول ان الديانات “التوحيدية” هي اربع، بإضافة “اولاها”: اي الاخناتونية. ولكن المسيحية والاسلام لا تعتبران الاخناتونية ديانة “سماوية” (=اللـّهية)، بل ديانة وثنية (=شيئية). وعلينا ان نضيف ان الديانة اليهودية ايضا هي ديانة “توحيدية” (ولكنها ليست الاولى كما رأينا، لانها تأتي بعد الاخناتونية)، الا انها غير “سماوية” (= “اللـّهية”)، بل هي “الهية ـ وثنية”. ولكن “الوثن” فيها ليس “صنما” (= شيئا، رجلا، مادة الخ) ملموسا، بل “فكرة” (= “قيمة”) تجريدية، لا تدرك بالحواس الخمس، بل تدرك بالعقل التجريدي، كفكرة الحب والحقد، الربح والخسارة، والحياة والموت الخ. فهذه المفاهيم هي مفاهيم “تجريدية” “فكرية” “ذهنية”، نرى ونلمس نتائجها الواقعية، ولكننا لا نستطيع ان “نراها” او “نلمسها” هي بحد ذاتها. ولكن هذه المفاهيم “التجريدية” تبقى مفاهيم “انسانية” غير “الهية”. و”اليهوه” اليهودي هو كذلك مفهوم وثني ـ “تجريدي”، الا انه مفهوم انساني (كمفهوم: زعيم، رئيس، وضيع، خسيس الخ)، وليس مفهوما “الهيا” علويا فوق ـ بشري. وهو ما سنبحثه فيما يأتي.
وقد طرحت هذه “الفكرة” “الالهية” “اليهوهية” (الوثنية اساسا) في وقت بدأ فيه الانسان الشرقي القديم يخطو بسرعة في عالم “التجريد”: اكتشاف الابجدية (اي العدد القليل جدا من التقطيعات الصوتية لطريقة النطق والترميز اليها بأحرف معدودة)؛ اكتشاف الارقام؛ اكتشاف الدرجات “الصوتية” الموسيقية؛ والاهم: بداية التجريد في اللغة (قبلا كانت اللغات القديمة اكثر بدائية وملموسية ومباشرة، اذ كانت تعبر عن الكتلة والحركة معا في حالة معينة، مثلا: “رجل ينام” (في كلمة واحدة)، “رجل يمشي”، “رجل يجلس”، “رجل يركض”، و”كان رجل ينام”، “كان رجل يمشي”، الخ؛ “حصان ينام”، “حصان يمشي”، “حصان يركض” الخ (كل من هذه العبارات في كلمة واحدة)؛ فيما بعد اصبح يوجد في اللغة اسماء محددة اكثر “تجريدا”، مثل: “رجل” او “حصان” الخ مجردة عن اي فعل؛ وافعال محددة مثل “ينام” “يمشي” “يركض” الخ مجردة عمن يقوم بالفعل وعن زمن الفعل؛ ثم ارتفع التجريد في المكان والزمان (ماض، حاضر، مستقبل، هنا، هناك، قريب، بعيد) الخ الخ.
اي: ان الاخناتونية يعود لها الفضل في “توحيد” العبادة الوثنية في “اله واحد”.
اما اليهودية، فيعود لها الفضل في “تجريد” الاله الوثني عن جسمه الحسي؛ مثل تجريد مفهوم “الحب” عن “العضو الذكوري” و”العضو الانوثي” او “الرجل” و”الانثى”.
فاذا كانت الاخناتونية، كي تخطو خطوتها نحو “التوحيد”، قد ارتكزت الى تطور علم الفلك لدى الانسان، واتساع نظرته الكونية (وهو ما نجده في بناء الاهرامات الضخمة التي ترتبط بالدورة الشمسية للارض، وبالقبة الكونية، والتي ربما اعتقد المصريون القدماء، او ما يسمى الفراعنة، انها ـ اي الاهرامات ـ قد تكون، او قد تستخدم كـ مركز للكون)، فعلامَ ارتكزت، او ممَّ انطلقت “اليهودية” في “تجريديتها الالهية”، بعد ان عرفنا انها ـ اي هذه “التجريدية” ـ تأتي في سياق التجريدية التي اخذت تطبع الوعي الانساني بصورة عامة في تلك المرحلة؟.
XXX
ليس في اليهودية، او بالاصح في الكتب “السماوية” اليهودية المعروفة، ارهاصات “كونية”، كما في الاخناتونية؛ وليس فيها ارهاصات “ماورائية” (الدينونة والثواب والعقاب في المسيحية والاسلام) و(الجنة والجهنم وبموازاتهما “مساحة” انتقالية هي المطهر) كما في المسيحية، او (الجنة والجهنم فقط) كما في الاسلام. بعد طرح الفكرة العامة حول خلق العالم، فإن كل الحكاية اليهودية “التوراتية” هي حكاية بشرية من الفها الى يائها: ولادة، مضاجعة، تناسل، حريم، حروب، ترحال، تجارة، ربا، قتل، موت، سلب ونهب، غيرة، حب، غزل، اكل، شرب، بناء، خراب، الخ الخ. وفوق كل هذا السرد البشري يقف: “اليهوه”، الذي لم يكن احد يدري كنهه، اصله وفصله.
وحتى نكون واقعيين ومنطقيين، ولا نكون “يهودا اكثر من اليهود”، من الخطأ المبين ان نقوم بالتعميم (كالقول مثلا ان الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والاسلام، هي ديانات توحيدية ـ الهية) او ان نسقط على اليهودية مفاهيم غير يهودية ملتبسة (كالتفسير الذي يعطيه البعض مثلا للقول ان “الدين عند الله الاسلام”، بالقول ان اليهودية هي ديانة “كتابية”، وبأن اليهودي “يعبد الله” ذاته الذي يعبده “المسيحي” و”المسلم”، او انه “مسلم” مثله مثل “المسيحي” و”المحمدي”)، حيث اننا حينذاك لا نعود نستطيع ان نكتشف الفروقات الجوهرية بين اليهودية، من جهة، وبين المسيحية والاسلام، من جهة ثانية، ولا نعود نستطيع ان نفهم كنه “اليهوه” و”اليهوهية” و”اليهودية” ( ليس في ما تقوله عنها المسيحية او الاسلام، بل…) في الحكاية اليهودية ذاتها عن ذاتها خصوصا، وفي الحكاية الانسانية عموما.
XXX
فاذا اخذنا التوراة ذاتها، لا التأويل المسيحي او الاسلامي لها، نجد انها ـ اي التوراة اليهودية بحد ذاتها التي يعترف بها اليهود انفسهم، والتي تعترف بها المسيحية كما هي معترف بها من قبل اليهود ـ هي عبارة عن حكاية سرد “تاريخي” (نستعمل هذا التعبير مجازا وقسرا) عن نشأة العبرانيين، حياتهم فيما بينهم، وفي محيطهم، وظهور الديانة اليهودية في وسطهم، وتحولهم الى يهود. اي ان التوراة اليهودية تعكس “التجربة التاريخية” الانسانية لليهود.
وبطبيعة الحال ان هذه “التجربة الانسانية” اليهودية الخاصة، هي جزء لا يتجزأ من “التجربة الانسانية” التاريخية العامة. وهذا ما يسمح لنا باستخدام وسيلتي “التحليل”: “الاستنتاج” و”الاستقراء” (بالانطلاق من الخاص الى العام، او بالانطلاق من العام الى الخاص) معا، في دراسة ظهور ظاهرة “اليهودية”.
XXX
لقد ربطت “التجربة” التاريخية الانسانية العامة اليهود بالمال والتجارة والشح والربا والاستغلال والاحتكار. وان اي انسان في اي زاوية من زوايا الكرة الارضية، حينما يذكر امامه تعبير “يهودي” يتذكر فورا “التجارة” و”الربا” و”الاحتكار” و”المضاربة”، وحينما يذكر امامه تعبير “تاجر” او “مراب” او “مضارب” او “نصّاب” او “محتال” او “غشاش” او “شحيح”، يتذكر فورا الصورة النمطية السلبية لـ”اليهودي”.
وتفيدنا “التجربة” الانسانية المعاصرة كيف ان الرسامين او النحاتين او الخطاطين، الفنانين، يرسمون الايقونات او التماثيل الدينية (الصليب المقدس وغيره) او يخطون الآيات والعبارات الدينية المأثورة، التي توضع في دور العبادة او في صدر البيوت، ويأتي الكهنة او رجال الدين ليبخروا ويصلوا امامها وحولها، ويأتي المؤمنون للركوع والخشوع امامها. وبهذا الركوع والخشوع فإن المؤمن المتعبد لا يخشع لا امام الفنان ولا امام الايقونة ولا امام اللوحة بحد ذاتها، كرسم او خشبة منحوتة او مخطوطات جميلة الخ، بل امام “المعنى” او “الفكرة التجريدية” الدينية التي ترمز اليها هذه الاشياء.
وعلى القياس نفسه فإن النظرة “التجريدية”، الدينية ـ التأليهية (الايجابية)، او الدينية ـ التنميطية (السلبية)، لمفاهيم مثل “يهودي”، “يهوه”، “شعب الله المختار!!” الخ، لا تخرج عن هذا الفهم “التجريدي” لـ”موجودات” (ايقونة، صنم، لوحة آية دينية) او “كائنات” (هنا بشر هم: اليهود) وممارساتهم.
ومن ثم فلكي نفهم “اليهوه”، علينا ان نفهم “اليهوهي” او “اليهودي”؛ ولكي نفهم “شعب الله المختار!!” علينا ان نفهم “اليهود” = البشر.
النقود واليهود
ولاجل التحليل علينا ان نأخذ “نقطة انطلاق” معينة: فاذا كانت “الصورة النمطية” لليهود هي “التاجر” و”المرابي” الخ، فإن الاساس الذي يقوم عليه “فعله” او “عمله” هو “المال” ومن ثم “الرأسمال”؛ والاساس الذي يقوم عليه المال والرأسمال هو: النقود. ولذلك فإن افضل نقطة انطلاق واقعية للبحث في الصورة النمطية لليهودي هي: النقود. وهذه النقطة انطلاق البسيطة قمينة بأن تقودنا لان نفهم اليهودي وديانته “اليهوهية” (= النقودية = المالية = الرأسمالية = الربائية = الاحتكارية) و”عبوديته” و”تعبده” (= “تدينه”) لها.
في موسوعته “اليهود، اليهودية والصهيونية” يتحدث الدكتور عبدالوهاب المسيري عن “الحوسلة التجارية لليهود” (“الحوسلة” هي اشتقاق لغوي يعني “التحول او التحويل الى وسيلة”، والمقصود من الحوسلة التجارية لليهود: تحول او تحويل اليهود الى فئة وظيفية تجارية ـ ربائية في المجتمع). ولكن الدكتور المسيري يأخذ “الحالة اليهودية” كحالة قائمة ـ ناجزة، لفئة انسانية تحوسلت تجاريا وربائيا هم اليهود. اي انه يعطينا الحالة كحالة “منتهية”، دون النظر في كيفية ومسار ظهورها. وبالتالي فهو لا ينظر في العلاقة العضوية المتبادلة بين تطور العملية التجارية وظهور النقود والمال والرأسمال وبين ظاهرة نشوء وتبلور “الجماعة اليهودية” المحوسلة تجاريا التي اعطتنا “الاله!!” اليهودي و”الديانة!!” اليهودية.
وعلى قياس السؤال الفلسفي القديم: ايهما اولا: البيضة ام الدجاجة؟ علينا ان نسأل: أيهما اولا: العملية التجارية او “الديانة!” اليهودية؟ والجواب الصحيح هو: انه توجد علاقة عضوية متبادلة لنشوء البيضة والدجاجة. فلا البيضة هي اولا، ولا الدجاجة هي اولا، بل الاثنتان تطورتا تدريجيا ومرحليا احداهما من الاخرى حتى اتخذتا شكلهما الحالي، المنفصل، ولكن بطريقة ان تخرج احداهما من الاخرى، فتكون البيضة اولا بالنسبة للدجاجة، وبالعكس. وهذه هي بالضبط حالة نشوء “الديانة!” اليهودية من العملية التجارية، وبالعكس.
والسيد المسيح حينما ثار على التجار اليهود في الهيكل صرخ فيهم “لا تجعلوا بيت ابي بيت تجارة”. وهو يقول “اعط ما لله لله، واعط ما لقيصر لقيصر”؛ كما يقول: “لا تعبد لك ربين: الله والمال”. وتأسيسا على هذه المقولة المسيحية، فاذا كان رب المسيحية (والاسلام) هو: الله؛ فإننا نفترض جدلا (استنادا الى تحذير المسيح حول “الربين”) ان الرب الفعلي لليهودية هو: المال (+ القيصر).
وحينما يتكلم شيخ علم الاجتماع الحديث كارل ماركس (اليهودي الاصل) في كتيبه “المسألة اليهودية” عن “التهويد” العام للمجتمع في النظام الرأسمالي، وأن تحرير اليهود يكون بتحرير المجتمع من “اليهودية”، فهو لا يقصد ان المجتمع الغربي (المسيحي) تخلى عن “المسيحية” كديانة وتبنى بدلا عنها الديانة!” اليهودية كدين بديل، وان التحرير الاجتماعي يعني التحرير من “الديانة!” اليهودية بمعناها الديني ـ الغيبي، بل يقصد ان المجتمع “المسيحي” اصبح “يهوديا” من حيث سيادة “قيم” المال والرأسمال. وهي القيم التي نشأت كظاهرة اقتصادية ـ اجتماعية ـ فكروية اتخذت ايديولوجيا (= “دينيا”) الصفة او الصبغة اليهودية، وان تحرير المجتمع من “اليهودية” يعني التحرير من الرأسمالية، الاساس الاجتماعي لليهودية. ومن ثم فإن “اليهودية” هي التعبير الايديولوجي ـ الديني عن الرأسمالية. وهذا ما يجب ان ننظر فيه عن قرب اكثر، لنرى كيف تحولت فئة من الناس (هي العبرانيين) الى “يهود” اي الى فئة وظيفية تجارية تعبد المال، وتستبيح الغير من اجل المال، وتؤسس لنشوء المجتمع الطبقي القائم على استغلال الانسان للانسان، الذي بدأ بالمجتمع العبودي (او مجتمع الرق)، وصولا الى “تعبيره” “الاصفى” و”الارقى” = الرأسمالية ومرحلتها الاعلى: الامبريالية.
XXX
لقد ظهر الذهب تاريخيا بوصفه السلعة الاكثر استخداما كنقود. ولا تزال العملات الورقية (البنكنوت) الى اليوم تقاس بما يسمى التغطية الذهبية للوحدة النقدية. ولكن الذهب بحد ذاته ليس نقودا، بل هو سلعة كباقي السلع؛ الا ان العلاقة التجارية (التبادل) فيما بين المنتجين والتجار هي التي جعلت من الذهب “نقودا”، لقياس “قيمة” او “ثمن” او “سعر” مختلف السلع التي يتم تبادلها. ومن ثم فإن “النقود” بذاتها، هي غير الذهب بذاته. فالذهب في نهاية المطاف هو سلعة ملموسة، كأي سلعة اخرى. اما “النقود” فهي مفهوم “ذهني”، “فكروي”، “تجريدي” غير ملموس. ولكنه “موجود” بمقدار ما هو مقبول ومتعارف عليه ومعترف به، كتعبير عن “قيمة” او “سعر” السلعة المعينة، الذي هو تعبير او قياس لمقدار العمل الاجتماعي الضروري لانتاج هذ السلعة. وقد اتخذت “النقود” شكل “العلامات النقدية” الورقية (كالبنكنوت، والشيك والسند والسهم) التي ربما حملت واحدتها ارقاما عالية جدا قد تساوي اطنانا من الذهب، ومع ذلك فهي تقبل ويتم تداولها بين اناس لا يعرفون بعضهم بعضا، علما ان قصاصة الورق التي كتبت عليها تلك الارقام لا تساوي قيمتها شيئا (مثلا: يبيع احد الاشخاص قصرا يساوي الملايين، و”يقبض” عوضا عنه شيكا، اي قصاصة ورقية لا تساوي شيئا بحد ذاتها. فـ”القيمة” التي “قبضها” بائع القصر (اي “الرقم واسم العملة المذكورين في الشيك”) هي قيمة “تجريدية” متعارف عليها ومقبولة، وهو اذن قادر على “شراء” باخرة من شخص ثالث، ومن قارة اخرى، مقابل قصاصة الورق (الشيك) “عديمة القيمة” بحد ذاتها التي يحملها). وحينما نتحدث في تحليلنا عن النقود، فيجب ان يكون واضحا اننا لا نتحدث عن الذهب او الفضة او ما اشبه من السلع التي سبق ان استخدمت او لا تزال تستخدم كنقود، بل نتحدث عن النقود بوصفها مفهوما “تجريديا” لا جسم له كما هو الذهب، ويقوم على “الثقة” و”المتعارف عليه” و”المعترف به” بين الناس. فالشيك (وليس اطنان الذهب) الذي قبضه الكونت بائع القصر، ثم استلمه صاحب الباخرة الذي باع باخرته للكونت، هو بمثابة “تعهّد” بأن الحامل الاخير للشيك يمكنه نظريا ان يبادل الشيك باطنان الذهب المساوية للرقم المذكور في الشيك. وحتى اذا لم يكن في البنك كمية الذهب المطلوبة في اللحظة المعينة، فإن البنك “يتعهد” لصاحب الشيك، بصيغة ما لمنحه “حقه” المذكور في الشيك. اي ان اساس “النقود” ليس الذهب بحد ذاته، الذي يصبح مقياسا لا غير، بل “التعهد” او “العهد” القائم بين المتداولين، المنتجين والتجار، البائعين والشارين.
وتقول بعض المصادر التاريخية ان الفينيقيين هم الذين اكتشفوا او اخترعوا “الاوراق المالية” التي تطورت لاحقا كي تصبح “نقودا”؛ وسواء كان ذلك صحيحا ام لا، فإن اليهود هم اول من “قدسوا” “النقود” و”عبدوها” و”تدينوا” لها. والبحث عن نشوء وتطور “الديانة!!” اليهودية، ينبغي ان يتوجه الى البحث في نشوء وتطور العملية التجارية، وصولا الى ظهور “النقود”، “المال”، “الرأسمال”، و”سيادتها” على “العالم البضاعي” او “السلعي” الذي هو في نهاية المطاف عالم المنتجين ـ المستهلكين، اي العالم الانساني الذي يعتبر اليهود جزءا لا يتجزا منه، وان كانوا هم انفسهم يعتبرون انفسهم “مميزين عن بقية العالم” و”شعب الله المختار!!”، تماما كما يتميز “المال” و”الرأسمال” عن مجمل السلع والمنتوجات.
وعلينا ان نشير هنا الى ان اليهود لم يولدوا يهودا، بل ـ وككل البشر العاديين ـ ولدوا اولا كقبيلة بدوية ـ رعوية مثل غيرهم كثير من القبائل، هي القبيلة العبرانية. ومثلما يولد كل الناس عراة، ثم يكتسبون “ثيابهم” التمييزية في مجرى الحياة، فيلبس احدهم لباس الراعي، وآخر لباس الكاهن، او يلبس احدهم لباس اللص، وآخر لباس الشرطي، وثالث لباس القاضي؛ اي ان الحياة الاجتماعية تجعل احدهم لصا، والاخر شرطيا والثالث قاضيا؛ فإن العبرانيين لبسوا لاحقا “لبوسهم اليهودي”، اي انهم “صاروا” يهودا وان الحياة الاجتماعية هي التي جعلتهم “يهودا”.
والعملية التاريخية التي قادت القبيلة البدوية والرعوية العبرانية لأن تصبح “يهودية” انما تمت بفضل اكتشافها “خصوصية”، و”علوية”، ولنقل “ألوهية!!” النقود او المال، حيال جمهرة السلع الاخرى. ومثلما ان الفارس يصبح فارسا مبرزا بالحصان المؤصل او الجيد الذي يمتطيه، والمقاتل الصنديد يصبح كذلك بالسيف البتار الذي يمتشقه؛ فتأسيسا على “علوية” النقود نشأت بالضرورة، وبالتالي، “علوية” مالكي النقود، تجاه جمهرة المستهلكين الذين هم في الوقت نفسه جمهرة منتجي ومالكي السلع الاخرى. ولفهم هذه العملية علينا، اولا، ان ننظر في ظهور “الحاجة” الى التجارة والتجار، وصولا الى “الحاجة” الى الماليين والمرابين، ومن ضمنها عملية ظهور النقود؛ ومن ثم ان ننظر، ثانيا، في كيفية تحول “العبرانيين” الى “فئة وظيفية تجارية” اي الى “يهود”.
XXX
ان النقود (ومن ثم الرأسمال النقدي، التجاري، فالربوي والاحتكاري) نشأت (قبل زمن طويل من نشوء وسيادة النظام الرأسمالي) في احضان المجتمع القبلي البدائي خلال تحوله الى مجتمع عبودي. وقد ظهرت النقود بعد مرحلة طويلة من عملية الانتاج، الضرورية لوجود الانسان، وظهور عملية مبادلة المنتوجات بين المنتجين ـ المستهلكين المختلفين. وقد مرت هذه العملية بعدة مراحل، كانت لكل مرحلة منها ظروفها و”عاداتها” و”اخلاقها” و”وجدانياتها”، ومن ثم الشكل الارقى:”دياناتها”؛ الى ان وصلت الى مرحلة التجارة المتطورة وظهور النقود، كـ”سلعة” خاصة او مميزة، ولها “ديانتها!!” الخاصة التي تمثلت بـ”اليهودية”:
1 ـ المرحلة الدنيا ـ شبه الحيوانية: في المرحلة المبكرة من الوجود الانساني، مرحلة بداية انفصال الانسان البدائي عن الحيوان (بواسطة “العمل” البدائي البسيط جدا، كاستعمال حجر لضرب رأس حيوان بري وقتله للاقتيات به)، لم يكن مسلك الانسان، في علاقته مع الطبيعة المحيطة به، ومع بعضه البعض، يختلف عن الحيوان ذاته الذي كان يدخل في علاقة مع الطبيعة، ومع بعضه البعض، بشكل “حسي” ـ جسدي وحسب، وانفعالي وحسب؛ إذ كان يتكيف مع بيئته، وبيئته تتكيف به، بطريقة ميكانيكية انفعالية بحت. فالحيوان العاشب كان يأكل العشب اذا وجد، دون ان “يفكر” في ان حياته مرتبطة باستمرار وجود هذا العشب، ومن ثم انه لا يتوجب عليه ان يأكل العشب كله، اي ان يقضي عليه كله، والا لما بقي ما يعيش هو منه، وبالتالي لقضي عليه هو نفسه. وبكلمات اخرى، فإن الانسان الاولي، كما الحيوان، لم يكن “منتجا”، بل “مستهلكا” فقط لما “تنتجه” او تقدمه الطبيعة. وهذا ينطبق على “مملكة الحيوان” بأسرها، بما فيها بعض الحيوانات التي تقوم بـ”عمل انتاجي” ما، كالنحلة مثلا، التي “تنتج” و”تخزن” العسل، او النملة التي “تنقل” و”تخزن” الحنطة. فحياة هاتين الحشرتين “العاملتين” و”المنتجتين” هي مرتبطة بوجود الازهار والحنطة الساقطة على الارض؛ فاذا لم يوجد من الازهار او الحنطة ما يكفي لكمية النحل او النمل الموجودة، مات حكما “الفائض النسبي” من النحل او النمل. وبناء على هذه القاعدة “الطبيعية” لوجود الكائنات، وضع رجل الدين المسيحي والعالم الاقتصادي الانجليزي المشهور توماس مالتوس (1766 – 1834) نظريته الشهيرة عن “حتمية النقص في المواد الغذائية بالنسبة لزيادة السكان. إذ يعتبر أن عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية بينما يزيد الإِنتاج الزراعي وفق متوالية حسابية مما سيؤدي حتماً إلى نقص الغذاء والسكان”. وظلت نظرية مالتوس للسكان معتمـَدة لفترة طويلة بين الاقتصاديين الرأسماليين، و”اتخذت مبررًا للإبادة الجماعية لكثير من الشعوب، وأجبر أبناء بعض العرقيات المضطهدة كالسود والهنود في أمريكا على إجراء التعقيم القسري، وإن اتخذ صورة تعقيم اختياري في ظاهر الأمر. ويقول آلان تشيس في كتابه (تركة مالتوس) إن 63678 شخصا قد جرى تعقيمهم قسراً فيما بين عامي 1907 و1964 في أمريكا في الولايات الثلاثين. ولكنه كان هناك في الحقيقة مئات الآلاف من عمليات التعقيم الأخرى التي كانت طوعية في الظاهر غير انها قسرية جرت عنوة في واقع الحال. وأقتبس آلان تشيس من القاضي الفيدرالي جيرهارد جيل قوله في عام 1974 في خضم قضية ترافعت فيها المحاكم لمصلحة ضحايا التعقيم القسري للفقراء: “على مدى السنوات القليلة الماضية قامت الدولة والهيئات والوكالات الفيدرالية بتعقيم ما بين مائة إلى مائة وخمسين الف شخص سنويا من الفقراء ذوي الدخل المتدني”.” (موسوعة ويكيبيديا).
في تلك المرحلة الانسانية “ما قبل الانتاجية” كان الانسان، في استهلاكه المعيشي وفي حياته كلها، تحت رحمة الطبيعة بشكل كامل. فانعكس ذلك في ذهنيته بظهور الديانات “الطبيعية” العامة، التي تعكس “الحاجة” و”الخوف” و”الجهل” الخ، حسب الظروف المناخية والبيئوية، فظهرت عبادات مثل: عبادة الريح، الماء، النار، الافعى، الحيوانات الضارية، الخ.
2 ـ مرحلة الانتاج البدائي: ولكن اذا عدنا من “الجنة الرأسمالية المالتوسية”، الاميركية وغير الاميركية، الى العالم القديم وظهور الانسان الاول، فلن يفاجئنا طبعا ان نكتشف ان هذا الانسان لم يكن قد تلوث بعد بالطبيعة الحيوانية الجشعة لعلم الاقتصاد الرأسمالي الذي يعبر عنه امثال توماس مالتوس، وانه كان يفكر بشكل “طبيعي” ينسجم مع “الطبيعة” الفطرية للانسان. وبتراكم الملاحظة والتجربة، اكتشف هذا الانسان البدائي ان له من القدرات الذاتية ما يجعله يستطيع ان “يساعد” الطبيعة في اعادة انتاج خيراتها، برعاية الاشجار، او زراعة الخضار، او حماية وتربية الماشية، اي بـ”الانتاج”، وانه بزيادة هذا “الانتاج” يمكنه ان يوازن زيادة عدد السكان الطبيعي. بل ان زيادة عدد السكان (زيادة عدد الاولاد) صارت هدفا بحد ذاته لزيادة الايدي العاملة، ومن ثم لزيادة الانتاج الذي كان يعتمد على العمل اليدوي البسيط تبعا لتطور المستوى الذهني والتجربة الانتاجية للانسان البدائي، وقد ترسخت فكرة “عدم الخوف” من زيادة عدد السكان بحيث انه اعطي لها تعبير ديني، وحتى اليوم، لا تزال الاوساط الشعبية تردد المثل القائل “بيخلق الولد، وبيخلق رزقه معه”. وقد جسدت الاديان السماوية مفهوم “الرزق على الله”.
وفي مرحلة المستوى المتدني للانتاج، كانت كل قبيلة او عشيرة (جماعة انسانية قائمة على الرابطة الدموية) تعيش منفصلة عن القبائل الاخرى، ولها “اقتصاد طبيعي مغلق”، اي انها كانت تنتج ما تنتجه بذاتها ولذاتها وتستهلك ما تنتجه بذاتها، بشكل “مشاعي”، بدون تبادل بين افراد القبيلة، حيث ان كل ما تملكه القبيلة او العشيرة يكون لجميع افرادها بدون تمييز، حيث يأخذ كل واحد حصته او حاجته بدون طمع لا لزوم له. وكانت كل جماعة تكيـّف نفسها على استهلاك (او العيش على) ما تنتجه فقط. ولهذا كان التوجه الاساسي للانتاج هو نحو ما يؤكل، من اجل الاستمرار في الحياة. فالجماعة الزراعية كانت تعيش على ما تزرع وتحصد او تجني. والجماعة الرعوية كانت تعتمد على تربية الحيوانات الاليفة التي تعيش عليها. والجماعة التي تعيش على الصيد كذلك. وكان انتاج كل جماعة، في البداية، بالكاد يكفيها هي نفسها. ولهذا لم يكن يوجد حاجة الى التبادل، لان الجماعة المعينة لم يكن لديها ما يفيض عن حاجتها لكي تتبادله مع المجموعات الاخرى. وهذه المرحلة استمرت مدة طويلة جدا، بعد ظهور الانسان، بحيث ان الاستهلاك طويل الامد لانواع محددة بعينها من المواد الغذائية دون غيرها، التي كانت تعيش عليها مختلف الجماعات، بالاضافة الى عوامل بيئوية اخرى، تركت تأثيرها على التكوين الجسدي للانسان (من حيث اللون والشكل والقامة وغيرها من الخصائص الجسدية، وبعض الخصائص الذهنية)، نظرا لارتباط المادة الغذائية بالتكوين الجسدي والذهني، للانسان، وهو ما يثبته العلم الحديث.
وفي هذه المرحلة ظهرت الديانات البدائية، المرتبطة ارتباطا وثيقا وشبه ميكانيكي بـ”موضوعات” الغذاء بشكل خاص.
وينبغي لنا ان نتساءل: هل كانت تلك “الديانات” البدائية (= الشيئية، الوثنية) ضرورية؟ او ما هي الفائدة منها، طالما انها اديان غير سماوية وغير الهية؟
والجواب طبعا هو: نعم! لقد كانت تلك الاديان ضرورية!
والا، لما كانت وجدت.
ذلك ان الانسان هو على درجة كافية من “الانانية” انه لا “ينتج” شيئا (كي يستهلكه او يستعمله)، الا اذا كان بحاجة مادية او معنوية الى هذا الشيء، حتى لو كان شعورا بحاجة “زائفة” لشيء “زائف”. كشعور المدمن بالحاجة الى المخدر. وبالتالي فإن ظهور “الديانات” الوثنية المعينة هو تعبير عن “حاجة” انسانية معينة، اي تعبير عن “ضرورة” معينة. (وهنا بالضبط يدخل الشعور بالحاجة “الزائفة” الى “شعب الله المختار!!” الزائف. وبكلمات اخرى فان ظهور “الديانة اليهودية!!” كان “ضرورة” انسانية، حتى وهو “ضرورة” معادية للانسان والانسانية كـ”ضرورة” المخدرات، او “ضرورة” العبودية، او “ضرورة” الرأسمالية، او “ضرورة” الاستعمار، او “ضرورة” التمييز العنصري، او “ضرورة” الهتلرية، او “ضرورة” الصهيونية).
فقد اخذ الانسان يتميز عن الحيوان ليس فقط بوعيه “الحسي” الذي يدفعه الى اكتشاف واستعمال ما يبقي له حياته الخاصة، من الاشياء والكائنات المحيطة به، بل واخذ يتميز ايضا بوعيه التجريدي، الذي يدفعه الى “التفكير” في ان “وجوده” مرتبط بـ”وجود” هذا النبات او ذاك، هذا الحيوان او ذاك، الذي يقتات منه ويعيش بسببه. ومن ثم فقد أخذ ينظر نظرة “احترام خاص” و”تقديس” لهذا النبات او هذا الحيوان، ولعدم التفريط به والمحافظة عليه ورعايته. وطبعا انه ليس كل افراد الجماعة الانسانية المعينة هم ـ ذاتيا ـ ذوو مستوى “فكري” واحد. فهناك الشيوخ، وهناك الشباب والفتيان، وهناك “الاكثر حكمة” او “الاكثر طيشا” او “الاكثر لامبالاة”. ولكن بنتيجة المصلحة المشتركة والمعايشة المشتركة، فإن الجماعة الانسانية ـ بقيادة “شيوخها” و”حكمائها” ـ اخذت تتوصل الى قناعات “مشتركة” يتبناها الجميع ويلتزم بها الجميع. وبالتدريج يصبح هذا الالتزام “قناعة مشتركة” الزامية. وقد “تركزت” او “تمركزت” هذه “القناعات المشتركة” في “عادات” و”تقاليد” و”اخلاق”، واخيرا في “ديانات وثنية” او “طوطمية”، تقوم على اقامة “بعد ثالث” (“بعد تجريدي”) في العلاقة بين الانسان وبين النبات (او الحيوان) الذي يستهلكه ويحيى بسببه. اي ان العلاقة لم تعد علاقة ثنائية، مثلا: انسان ـ حنطة؛ بل اصبحت ثلاثية: انسان ـ طوطم ـ حنطة. واصبح حصول الانسان على الحنطة مرتبطا “باسترضاء” (اي بالحصول على “رضى”) الطوطم الرامز للحنطة، من خلال “الصلوات” و”القرابين” التي تقدم الى الطوطم بواسطة “الكاهن” او الشامان الذي يمثل الطوطم ويتوسط العلاقة بينه وبين الانسان العادي، اي مجموع افراد الجماعة المعينة.
وهذا “البعد الثالث” (التجريدي) يتمثل في تحويل هذا النبات (او الحيوان) او ما يرمز اليهما الى… “معبود”، او شيء مقدس؛ ومن ثم ان يلتزم كل افراد الجماعة بالنظر الى “المعبود” بخشوع، ومن خلاله بالنظر الى النبات او الحيوان موضوع الاستهلاك، باحترام، وعدم التفريط به، ورعايته والعناية به، ويصبح استهلاكه “شرعيا” او خاضعا لطقوس “دينية” وشروط مسبقة الخ الخ. وكانت اهم “الموضوعات” التي جرى تقديسها: الحنطة والخبز، الزيتون وزيته، الكرمة والخمرة، والماشية والطيور. وكان يتم مباركة المواسم، ومباركة الحقول، ومباركة الاهراءات، ومباركة جرار الزيت والخمرة، ومباركة القطعان، ومن ثم عدم السماح باستعمالها واستهلاكها والتعامل معها كيفما كان، الخ الخ. واننا نجد سنابل القمح في الكثير من التماثيل القديمة. وفيما بعد عكست الديانات “السماوية” ذاتها هذه المعتقدات القديمة، حيث ان السيد المسيح شُـبّه بأنه “حَمَـل الرب الوديع”، كما انه ـ اي السيد المسيح ـ شَـبّه في “العشاء السري” الخبز والخمر بجسده ودمه. و”الروح القدس” يشبه في بعض الايقونات المسيحية بحمامة مرفرفة تحيط بها اشعة النور. وبعد الطوفان جاءت الحمامة تحمل في منقادها غصن زيتون (علامة الطمأنينة والسلام). ولا يزال القربان المقدس لدى الطوائف الارثوذكسية يتألف من الخبز والخمر، ولدى الطوائف الكاثوليكية من البرشام (رقائق عجين مخبوز). كما لا تزال “آثار” هذا التقديس سارية الى اليوم في شكل النظرة التقديسية الى الزيت، كما في “الذبح الحلال” او “الذبح الشرعي” لدى المسلمين وخاصة تقديم الاضاحي في الحج، وفي مختلف المناسبات (حتى المناسبات السياسية حينما يقوم زعيم ما بأي زيارة عامة يجري نحر الاضاحي امامه ليس لانه جائع وينبغي علفه او “توليمه”، بل لاجل اضفاء الطابع “المقدس” على “الزيارة الميمونة” للزعيم). ومن خلال هذه الطقوس، التي هي استمرار للديانات القديمة، يمكننا ان نستدل على الاصل الزراعي الغالب للجماعات المسيحية الاولى، والاصل الرعوي الغالب للجماعات الاسلامية الاولى.
3 ـ مرحلة التبادل البدائي: ومع تحسين ادوات الانتاج وزيادة الخبرة البشرية، ومن ثم زيادة كمية الانتاج واتساع التقسيم الاجتماعي للعمل، داخل كل جماعة انسانية، ومن ثم بين مختلف الجماعات والعشائر والقبائل والمناطق، تبعا للاوضاع الجغرافية والمناخية، بدأت تزداد “التخصصات” الانتاجية، كما بدأ يظهر “فائض” نسبي من “الانتاج التخصصي” داخل كل جماعة، ومن ثم “امكانية” و”ضرورة” التبادل بين مختلف الفئات المنتجة داخل الجماعة المعينة، وفيما بين مختلف الجماعات.
واخذت كل جماعة انسانية (عائلة، عشيرة، قبيلة، منطقة) تتميز بانتاج حيواني او زراعي او حرفي معين، وكانت كل هذه الجماعات “تتساوى” في الحاجة الى بعضها بعضا، او الى “منتوجات” بعضها بعضا. اي ان مختلف الجماعات الانسانية اصبحت بحاجة اكثر فأكثر الى بعضها البعض؛ واصبح الاختلاط والاتصال والتواصل بين مختلف الجماعات ضرورة انسانية عامة، مثلما هو ضرورة لكل جماعة على حدة.
ولـ”تبرير” الحاجة الى تبادل هذا “المنتوج” مع الاغيار، اي لاعطاء “قيمة” علوية (معنوية، وغير “شيئية”) اي قيمة “مقدسة” لهذا المنتوج، الذي ترتبط به حياة الانسان (امثلة: تقديس الخبز والخمر، تقبيل كسرة الخبز اذا وجدها شخص على الارض ووضعها في مكان عال كي لا تداس، عبارة “الخير في نواصي الخيل”، وضع حدوة الحصان فوق عتبة الباب لجلب الحظ، تقديس غصن الزيتون والنخيل وحملهما في المناسبات الدينية، المسح التقديسي بزيت الزيتون، وغير ذلك من العادات الشعبية والدينية “الطوطمية” الدارجة الى اليوم)، فقد نشأت الحاجة الى وجود الاديان الوثنية (الصنمية)، التي تقوم على تقديس العلاقة بين الانسان و”الشيء”، والتقديس يعني نزع الصفة “الشيئية” عن الشيء، وإعطاءه صفة “علوية” = “الهية!!”، ترتبط ارتباطا وثيقا بكون هذا “الشيء” تعود اليه او تصدر عنه “حياة” الانسان، التي هي “لغز” غير مفهوم بالنسبة له. وقد شمل هذا التقديس الشجر والحيوان والخضرة والماء، كما شمل الانسان نفسه او اعضاء منه. فكانت بعض “الالهة!!” تصور بصورة انسان (رجل او امرأة) او انسان برأس حيوان، او حيوان برأس انسان، وقد عبدت بعض الاديان الوثنية “العضو الذكوري” و”العضو النسوي”، بوصف كل منهما مصدرا لـ”الخصب” و”الحياة”. ووجدت لدى اديان اخرى “الدعارة المقدسة” بوصفها ممارسة طقسية دينية. وحتى الان لا يزال بعض المشعوذين يستخدمون مزيجا من السحر والتمتمات والتعاويذ والصلوات “الدينية!!” لاستلاب ارادة بعض النسوة البسيطات “العاقرات” وممارسة الجنس معهن وهن في حالة شبه غيبوبة من اجل شفائهن من العقم مثلا. فاذا حملت المرأة المسكينة (اذ يكون سبب العقم زوجها)، يكبر المشعوذ في عينها وتنظر اليه كـ”ولي” و”صاحب كرامة”، وتشكر “الله” على نعمته!
وهكذا وجدت مختلف الاصنام لمختلف القبائل والاقوام. وكان كل صنم هو “الاله الاعلى!!” بالنسبة لقبيلته وقومه، وكانت القبائل والاقوام تتبادل “الحاجة” الى الاصنام الاخرى، وضرورة “التقرب” منها (من هنا نشأة مفهوم “القربان”، الذي ـ بهذه التسمية ـ تعبر عنه اللغة العربية بشكل رائع) بمقدار حاجتها الى “المنتوجات” الاخرى. وضمن هذه الحاجة “المتساوية”، العامة او الشاملة، للتبادل، لم يكن من افضلية لمنتـَج على منتـَج، ولمنتـِج على منتـِج، ولجماعة على جماعة، ومن ثم لاله طوطمي على اله طوطمي آخر. وحتى حينما كانت مختلف الجماعات تتقاتل فيما بينها، لنزاع على ماء او ارض او كلأ او فرس او امرأة، كانت تواصل الحاجة الى بعضها البعض، مما يجد انعكاسه في احترام آلهة بعضها البعض. وكانت دورة الحياة تفرض قوانينها على الجميع: مثال الاشهر الحرم، التي كان يحرم فيها القتال، وكانت القبائل تستفيد منها لمواسم ولادة الماشية وللتجارة واقامة الاسواق التجارية والادبية (كسوق عكاظ)؛ وكانت مكة المكرمة (قبل الاسلام) تضم جميع آلهة القبائل، وكانت محجة للجميع، للتعبد والتعارف والتجارة (التبادل).
وفي هذه المرحلة، ومع اتساع التجربة الانسانية والاكتشاف المتزايد للطبيعة وللقدرات الانتاجية للانسان، بدأت تتزايد وتتوسع مختلف الحرف، ومختلف الزراعات والمواشي المدجنة، وطرق الحفظ والتجفيف والتخزين، وما يتبع ذلك كله من زيادة التبادل (= المقايضات). وقد ادى ذلك الى نشوء الحواضر (النوى الاولى للمدن) ومن ثم المدن، الموزعة الى احياء عائلية ـ حرفية، وخانات ومستودعات واسواق للتبادل. وحول هذه الحواضر ومن ثم المدن نشأت مناطق وقرى ريفية تعنى بالزراعة وتربية الماشية، واصبحت كل مدينة همزة وصل بين مختلف اجزاء منطقة معينة لاجراء عمليات التبادل (= المقايضات) الضرورية. ولما كانت كل جماعة زراعية او حرفية لها “استقلالها” الانتاجي ـ الديني، فقد نشأت الحاجة لوجود دار خاصة لها في المدينة للبيات بمنتوجاتها التي تريد مبادلتها (= مقايضتها) ولممارسة عبادتها. ولما كانت هذه الحاجة التسويقية ـ الدينية شاملة، فقد تطورت الى حاجة عامة لايجاد اسواق مشتركة، ودور عبادة مشتركة توضع فيها “طواطم” مختلف الجماعات، بحيث تتعبد كل جماعة لـ”طوطمها” وتسهر على تبادل (= مقايضة) منتوجها.
4 ـ مرحلة التبادل النقدي: وقبل ظهور النقد، كوسيلة عامة للتبادل، كان يتم التبادل، كما اسلفنا، بصيغة المقايضة، التي تعني حاجة كل من الطرفين المتبادلين الى بضاعة الطرف الآخر، وفي الوقت نفسه؛ مثلا: حاجة صاحب شاة الى شوال حنطة (في حال كانت “قيمة” (=الحاجة الى…) الشاة تساوي “قيمة” (=الحاجة الى…) شوال الحنطة). ولكن اذا كان صاحب الشاة لا يحتاج (في الوقت عينه) الى الحنطة، او بالعكس: صاحب الحنطة لا يحتاج (في الوقت عينه) الى الشاة، بل ان احدهما يحتاج الى حذاء، والآخر يحتاج الى قدر نحاس، فإن عملية التبادل (= المقايضة) كانت تتعطل. الا اذا وافق، مثلا، صاحب الشاة على مبادلة شاته بشوال الحنطة الذي لا يحتاجه حاليا، واحتفظ به الى ان يصادف صاحب (صانع) حذاء يريد مبادلته (= مقايضته) بشوال حنطة، فتتم حينذاك المبادلة (= المقايضة) الثانية. وفي هذه الحالة فإن صاحب الشاة يكون قد بادل شاته بشوال الحنطة ليس لحاجته الى الحنطة بذاتها، بل لاستعمالها كوسيلة مبادلة (= مقايضة) ثانية بالحذاء الذي يحتاجه.
ولكن هنا نشأت مشكلة معينة، وهي ان صاحب الشاة الذي استبدل شاته بشوال حنطة لم يكن يريده، انتظر ثلاثة اشهر حتى صادف صاحب (صانع) حذاء يريده، وكاد صاحب الحذاء ان يرفض المبادلة لانه وجد ان شوال الحنطة قد نقص حجمه بسبب الجفاف بمرور الوقت، ولكن حاجته القصوى الى الحنطة جعلته يقبل المبادلة على مضض. وبالتدريج اخذ الناس (المنتجون المختلفون) يشعرون بالحاجة الى وجود سلعة صغيرة الحجم كبيرة القيمة (= الثمن، او الرغبة فيها والحاجة اليها) وفي الوقت نفسه جميلة المظهر ولا تبلى ولا ينقص وزنها مع الوقت وتحتفظ بكامل مواصفاتها، ولا تحتاج الى عناية خاصة لحفظها، من اجل استعمالها كوسيلة تبادل (= مقايضة) متعددة. ومع الوقت اخذ الناس (المنتجون الراغبون في المبادلة) يكتشفون ان المعادن الثمينة (الفضة او الذهب) يمكن ان تضطلع بامتياز بدور هذه السلعة (التبادلية) المطلوبة، التي استمرت في ان تضطلع بدورها كسلعة استعمالية (للحلي والزينة)، ولكن دورها كوسيلة تبادل اخذ يفوق دورها كسلعة استعمالية. لا ندري من هو الانسان الاول، او الجماعة الانسانية الاولى التي اكتشفت المعادن الثمينة بوصفها “سلعة ذات قيمة تبادلية”، ولكننا نعلم ان مختلف المجتمعات البشرية قد اخذت من بعضها البعض استعمال هذه “السلعة”. وعلى اساسها ظهرت ما يسمى “النقود”، لا بوصفها سلعة “استعمالية” اي “شيئية”، بل بوصفها “قيمة” معنوية = قيمة تبادلية. وبظهور النقود بوصفها “منتوجا” او الاصح “مفهوما” غير شيئي، متميزا عن كل المنتوجات “الشيئية” الاخرى، اكتسب هذا “المنتوج” صفة خاصة تضعه، في آن واحد في بعدين:
الاول ـ بعد مواز (= مساو) للمنتوجات الاخرى؛ لان “قيمته” يمكن مقارنتها بـ”قيمة” كل منتوج آخر؛
والثاني ـ بعد “متميز” (= متعال)، فوق جميع المنتوجات الاخرى، لانه يمكن مبادلته بأي منتوج آخر دون الحاجة اليه ذاته في اللحظة ذاتها.
5 ـ تميز “النقود، او البعد “العلوي” للنقود و”صاحبها”
وبذلك، فإذا كان الانتاج وعملية تقسيم العمل الاجتماعي قد اوجدت او فرضت وجود التبادل (= المقايضة الثنائية)، فإن تعميم التبادل (= تسلسل وتشابك المقايضات) قد اوجد او فرض وجود النقود التي هي (بأصلها “الذهبي” او “المعدني” الثمين) سلعة كباقي السلع، ولكنها في الوقت ذاته ليست سلعة (للاستهلاك)، بل “سلعة” ذات “قيمة خاصة”، غير ملموسة، تجعلها قابلة للتبادل مع جميع السلع الاخرى في اي زمان واي مكان، ويتم الحصول عليها (ببيع المنتوج الخاص) ليس لاستعمالها بحد ذاتها كسلعة ذهبية، بل لاستعمالها كـ”قيمة تبادلية” للحصول لاحقا على سلعة اخرى يريدها المنتج ـ المستهلك المعين لاستهلاكه الشخصي او الانتاجي.
ولا نزال الى اليوم نجد انعكاس هذه النظرة “العلوية” التقديسية الى النقود، في عادة تقبيل النقود الاولى التي يقبضها صاحب الدكان الشعبي مقابل اول بيعة (والتي يسميها “استفتاحا”، فيقبل النقود التي تلقاها ويمسح بها ذقنه ويضع يده على رأسه قائلا: “استفتاح مبارك، من ابن حلال”)؛ كما لا نزال نجدها في العديد من القرى حيث يتم وضع قطعة نقود في اساس بناء بيت جديد.
ومثلما ان اي “سلعة” اخرى، او “منتوج” آخر لأي جماعة انسانية، وجد انعكاسه في وجود “اله” مختلف، فإن هذه الصفة “غير الشيئية”، و”العلوية”، لهذه “السلعة الخاصة” المسماة “النقود”، كان من الطبيعي ان تجد لها هي ايضا صنما او “الها!” علويا غير شيئي.
وهكذا ـ كانعكاس للنقود في “عالم المنتوجات” ـ ظهر “في عالم المنتجين”: “اليهوه”، اله الآلهة، الاله “الاوحد”، “المكنون” غير “الكائن”، “المُدرَك” غير “الملموس”، “الهُوَ”، “الجوهر” عديم المظهر، “الهوية” بلا “جسم”، “ذات الشيء” وليس “الشيء بذاته”، “الموجود واجب الوجود” في كل شيء وكل زمان ومكان؛ ان هذا “اليهوه” يمتلك كل “الخصائص العجائبية” للنقود، وبالتالي فهو انعكاس او تعبير تجريدي فكراني عن النقود، “المال”، “الرأسمال”، اي عن “السلعة اللاشيئية”، “السلعة اللاسلعة”، “السلعة فوق كل السلع”، “السلعة الحقة”، “اللاجسم، اللامكان، واللازمان لها”، “السحرية”، “المقدسة”، “غير المفعول بها” ولكن “سارية المفعول” في كل شيء وكل زمان ومكان.
وتفيدنا رواية التوراة اليهودية (راجع قصة موسى في سفر الخروج، العهد القديم) ان اليهود لم ينتقلوا مرة واحدة الى فكرة التجريد، بل اجتازوا ايضا ما يمكن تسميته “خطوة انتقالية” وهو “تقديس النقود” بشكل كينوني ـ جسدي قبل تقديسها بشكل مكنوني ـ روحي. اذ ان هارون، شقيق موسى، خلال غياب الاخير في الجبل للتكلم مع “يهواه”، عمد الى جمع القطع الذهبية من افراد “الشعب” وذوبها وسكبها وصنع منها تمثالا لعجل ذهبي، كتأكيد للرمزية “النقودية” للذهب، وطلب من “الشعب” التعبد له. اي ان هارون اعطى للدور النقودي للذهب شكلا طوطميا ـ صنميا، على طريقة الديانات الوثنية القديمة. ولكنه بهذه “الحركة” لم يدر انه حرّف “جوهر” النقود بـ”تجسيمه” لها، وحدّ من دور النقود وحصره في الذهب. وكان ذلك يعني ان الذي يمتلك الذهب او ثروة المعادن الثمينة هو الذي يستطيع ان يتحكم بالعملية التجارية والمالية والاقتصادية. وهذا ما يخالف حقيقة النقود وجوهرها، الذي لا يمكن وضع حدود جسدية له. (ولا يزال العجل الذهبي لهارون يجد استمراره في التقليد الشائع بصنع تماثيل ذهبية “تكريمية” في مختلف المناسبات، ولا سيما الدولية منها، في السينما والرياضة وغيرها، حتى بعض لاعبي كرة القدم المشاهير يتم اهداؤهم مجسما لـ”قدم ذهبية”). وحينما نزل موسى من الجبل، غضب أشد الغضب، وحطم العجل الذهبي وذوبه من جديد حتى اصبح تبرا ناعما ونثره فوق الماء، واجبر بني اسرائيل على شرب هذا الماء الممزوج بالذهب. ثم أمر اعوانه من سبط اللاويين (المكرسين للكهانة) بأن يمتشق كل منهم سيفه ويدخلوا البيوت ويقتلوا عبدة العجل، فقتل في ذلك اليوم (حسب التوراة اليهودية) ثلاثة آلاف رجل. وبدلا من العجل الذهبي والنقد بشكله الذهبي، وضع لهم موسى التجريد الكامل، في ما سمي “العهد”، الذي يبقى سرا مكنونا لا يدري كنهه وماهيته سوى اصحابه بدءا من “الكهنة” و”الشيوخ”. فـ”العهد” هو “النقد”. وفي ايامنا الراهنة نجد ان مليارديرا مضاربا مثل جورج سوروس او غيره، يمكنه وهو جالس في نيويورك ان يفتح بواسطة الانترنت او غيره رقما حسابيا معينا، وان يحول في ثوان “قيمة” بضعة مليارات من الدولارات (بقيمة قناطير مقنطرة من الذهب) من اقصى الارض الى اقصاها، وذلك بكبسة على بضعة ازرار، او بمخابرة هاتفية لاحد الاشخاص مع ذكر “كلمة سر” معينة، دون ان يتم نقل اي غرام ذهب من مكانه. انه “العهد” او “التعهد” = هذا هو “النقد”. فـ”الكلمة” = “العهد” او “التعهد”، وليس الذهب كذهب، هو “النقد”. ولكن هذا “العهد” التجريدي ليس بدون انياب واظافر؛ بل هو ولد، منذ ما ولد، مقرونا بالارهاب ومحاطا بكل مهابة وجبروت السلطة المطلقة، وقرار الحياة والموت. فبقيام موسى بتحريك الكهان اللاويين ليقتلوا ثلاثة الاف من العبرانيين الذين سجدوا للعجل الذهبي، كي يكرس عبادة “العهد” المجرد من اي جسد ذهبي او غير ذهبي، فهو اضفى على الهه (“عهده”) قوة البطش التي لا ترحم اي كان، في اي زمان واي مكان. والى اليوم نجد جميع المجتمعات الطبقية، القائمة على التمييز الانساني، وخصوصا النظام الرأسمالي، تقرن بشكل لصيق بين “المال والسلطة”، كتوأمين سياميين لا انفصال لهما. ونجد استمرار “الطقس الموسوي” في ما يشاع عن الحركة الماسونية انها تنتقم من كل من يفضح اسرارها، وكذلك المافيا التي تطبق ما يسمى “قانون الصمت” الذي يقضي بتصفية كل شاهد يمكن ان يشهد ضد المافيا، من اجل ارهاب الجميع واجبارهم على التزام “الصمت”. كما نجده “قانونيا” في القوانين سارية المفعول، التي تقضي بالاعتقال الفوري والسجن لكل من يسحب شيكا بدون رصيد، وبالتالي يخالف “العهد” او “التعهد”. والارهاب الصهيوني لا يخرج عن هذا المنطق الموسوي “اليهوهي” “العهدوي”، الذي يسعى الى اجبار “الاخرين” على الرضوخ للقرارات العليا للامبريالية ـ الصهيونية ـ اليهودية، وفرض الصمت، مثلا، على الفلسطينيين والعرب والاذعان للقيادة اليهودية ـ الصهيونية في كل مخططاتها التوسعية والسيادية. والشيء ذاته يقال عن الامبريالية الاميركية التي تنادي بـ”الدمقراطية”، وتقتل الملايين باسم هذه “الدمقراطية”.
وبعد تكريس “الوهية” النقود بصيغتها التجريدية “العهدوية”، تم تكريس “ممثلها” او “حاملها” او “صاحبها” او “مالكها”، التاجر والمرابي، بصيغة “شعب الله المختار!!”؛ الذي هو “منتِج غير منتِج”، “المنتِج المتفرد”، “المنتِج فوق كل المنتجين”، الذي يحتاجه جميع المنتجين ولا يحتاج هو لأي منهم الا بما يحتاج كل منهم اليه، هو “البنك” مقابل جميع المنتجين، جميع المخلوقات والمؤسسات، هو “المختار”، هو “شعب خاص” = “شعب (اليهوه = العهد = المال) المختار”، هو “شعب الله المختار!!”.
6 ـ مرحلة التجارة العادية: ومع اكتشاف النقود، انتقل المجتمع من مرحلة المقايضة المتساوية (الشكل الادنى للتبادل التجاري) بين مختلف المنتجين، مرحلة: (بضاعة = بضاعة)؛ الى مرحلة اعلى هي مرحلة التجارة التبادلية البسيطة: اي مرحلة (بضاعة = نقود = بضاعة). فكان المنتج المعين يذهب الى “السوق”، حيث يعرض “بضاعته”، وبعد ان يتم له بيعها، يشتري حاجياته الاستهلاكية والاستعمالية، ويعود ادراجه لكي ينتج من جديد. وفي هذه المرحلة كان المنتج يدخل الى السوق بصفة “بائع”، ثم بصفة “شار”. والنقود بالنسبة له لم تكن سوى “وسيلة” تبادل بسيطة، اي انه لم يكن يربح منها شيئا، هي بحد ذاتها. اي لم يكن هدفه “الربح” من النقود. كما انه كان من مصلحته حينما يدخل الى السوق ان يبيع بضاعته باسرع وقت ممكن، كي يعود الى الانتاج باسرع وقت ممكن ايضا. اي انه لم يكن من مصلحته “احتكار” بضاعته، اي البضاعة التي سبق له هو نفسه ان انتجها. ولكن لما كان هذا المنتج ليس وحده الذي ينتج بضاعة مشابهة، فقد كان لديه “مزاحمون” اخرون يبيعون من الصنف ذاته الذي ينتجه هو ايضا. ولما كان من مصلحته ان يبيع بأسرع وقت ممكن، فإن “المزاحمة” بينه وبين المنتجين الآخرين كانت تقتصر على ان الذي يقدم سلعة اجود او اجمل او ارخص هو الذي يبيع اسرع من غيره. وهذه هي مرحلة التجارة العادية، والمزاحمة العادية والحرة بين المنتجين (البائعين ـ الشارين). وحتى حينما كانت هذه “المزاحمة الحرة” تثير في نفوس المنتجين الذين تأخر بيعهم قليلا نوعا من الحسد حيال المنتج الذي باع قبلهم، فلم يكن هذا الحسد يخرج عن نطاق الايجابية، حيث كان كل منهم يحاول في المرة التالية ان يكون منتوجه ايضا اجمل وارخص.
7 ـ مرحلة التجارة العليا: ولكن في هذه المرحلة التجارية البسيطة، التي كان فيها هدف كل منتج ان يبيع منتوجه، ليحصل على المال ليس من اجل الربح، بل من اجل الحصول على “منتوج آخر” يحتاجه، دخل المال (اي دخل “يهوه” و”اصحابه”) ليقدم خدماته الالزامية كوسيط ضروري بين جميع المنتجين. فبدلا من ان يذهب المنتج الى “السوق” وينتظر كي يبيع بضاعته لمن يحتاجها من المنتجين الآخرين، وهو ما كان يكلفه وقتا ومصاريف اضافية بانتظار بيع بضاعته، اخذ يذهب الى تاجر يعرفه او لا يعرفه، ويبيعه بضاعته مرة واحدة، ويقبض ثمنها (قبل ان يبيعها التاجر الى شارين آخرين)، ويذهب ـ اي المنتج الاول ـ الى السوق ويشتري البضائع الاستهلاكية والاستعمالية التي يريدها ويعود الى بيته في اليوم نفسه. وهكذا بالنسبة لجميع المنتجين الآخرين.
وبذلك انتقلنا من مرحلة التجارة العادية القائمة على معادلة (بضاعة = نقود = بضاعة)، الى مرحلة التجارة العليا القائمة على معادلة (نقود = بضاعة = نقود)؛ فالمعادلة الاولى كان محورها المنتج ذاته (اي مجموع المنتجين) الذين كان كل منهم يبيع بضاعته لمن يحتاجها، ليشتري هو ما يحتاجه، دون ان يستفيد اي منهم من النقود الا كوسيلة تداول للبضائع.
اما في مرحلة التجارة العليا، فإن محورها هو التاجر (مالك النقود) الذي يشتري، بنقوده، مختلف البضائع ليبيعها الى محتاجيها (اي محتاجي البضائع) مقابل نقود. اي ان هذا التاجر اصبح متخصصا في التجارة، كما اي منتج هو متخصص بانتاج سلعة ما او بضاعة. ومثلما ان المنتج “يعتاش” من انتاجه، فإن التاجر ايضا يجب ان يعتاش من “هذه المهنة”. وهنا كان من المحتم ان تنكسر معادلة (بضاعة = نقود = بضاعة)، التي لا يوجد فيها ربح، او اضافة على “سعر” البضاعة الاولى. فحينما يشتري التاجر بنقوده بضاعة ما، ثم يبيعها فهو ينبغي ان يحصل على “ربح” ما لتغطية مصاريفه وتغطية نفقات معيشته، اي ان المعادلة التجارية العليا لم تعد “نسخة مقلوبة” عن معادلة (بضاعة = نقود = بضاعة)، اي لم تعد (نقود = بضاعة = نقود) بل اصبحت (نقود ـ بضاعة ـ نقود+) اي كمية اكبر من النقود. اي انه من خلال هذه الخدمة “التجارية” الالزامية انتقل المجتمع الى مرحلة التجارة التبادلية الاعلى او مرحلة التجارة الصرف، اي ان التاجر (غير المنتِج، ولكن صاحب النقود) اصبح هو الذي يدير العملية، بحيث يستبدل نقوده مقابل كمية معينة (مساوية لها) من البضاعة، التي يبيعها لمنتِج اخر يحتاجها مقابل كمية من النقود اكبر من الكمية التي اشترى بها التاجر تلك البضاعة، وهو ما يسمى “الربح”. وهنا دخل احتمال (ثم واقع) انتفاء عنصر المزاحمة الشريفة والحرة بين المنتجين، واحتمال (ثم واقع) عنصر الاحتكار. حيث اصبح بامكان تاجر او بضعة تجار متفقين فيما بينهم او شركة تجارية، ان يشتروا كل منتوج سلعة معينة بسعرها العادي، ويبيعون قسما صغيرا منها، ثم يخفونها من السوق ويبدأون يرفعون سعرها بشكل مصطنع ويفرضون لاحقا بيعها بسعر مرتفع يحقق لهم اضعافا من “الربح” من تلك السلعة.
8 ـ مرحلة الربا: واخيرا حلت المرحلة الاعلى، مرحلة الربا (اي مرحلة: نقود = نقود اكثر)، بحيث ان ما يسمى المرابي يقدم كمية من النقود لمن يحتاجها (منتِج يحتاج الى بعض المال لاستكمال صناعة منتوجه، او مستهلك لم يكفه محصوله السابق فيستدين مال او سلعا لتغطية استهلاكه على حساب منتوجه اللاحق) مقابل كمية اكبر من النقود. وهكذا يصبح التاجر والمرابي شريكين لجميع المنتجين، بدون ان يكونا هما من المنتجين. وهنا تبرز الفئة الوظيفية التي تسمى التجار والماليين (المقرضين والمرابين). وبالتدريج اخذت هذه الفئة تتحول الى الحلقة المركزية في ادارة عمليات الانتاج داخل الجماعة الانسانية الواحدة، وداخل المنطقة او البلد الواحد، واخيرا خارجيا في التجارة (وبالتالي تحقيق وتسويق الانتاج) فيما بين مختلف المجتمعات والمناطق والبلدان والقارات. وفي عصر الرأسمالية تأخذ البورصات والبنوك هذا الدور. اما المضاربات فتدخل ضمن نطاق التلاعب بالاسعار (اسعار البضائع، واسعار “النقود”، عبر لعبة الاحتكار) من اجل تخريب الانتاج لصالح التجار والمرابين “غير المنتجين”. وبهذا التمييز لاصحاب المال، و”إلههم!” الخاص، و”ديانتهم!!” الخاصة، يصبح “اليهوه” و”شعب الله المختار!!” و”اليهود” من غير اليهود اسياد المجتمع بأسره، او المجتمعات بأسرها.
XXX
ان تقديس النقود من قبل اليهود، او الحوسلة التجارية لليهود حول النقود، لا يعني ابدا اقتصار استعماله على اليهود؛ تماما مثلما ان تقديس الخبز (= الحنطة) لدى جماعة، وتقديس البقرة لدى جماعة اخرى لم يكن يعني اقتصار استخدام الخبز والحليب ولحم العجل على الجماعة المعنية دون غيرها. وقد ادى اكتشاف النقود وانتشار استعمالها الى تسريع وتوسيع وتكثيف عمليات التبادل بشكل لا سابق له، وادى بالتالي الى التقارب بين المدن والمناطق والحاجة الى نشوء المدن الكبرى التي تعد مئات الالوف والملايين، ومن ثم الدول والامبراطوريات الكبرى. وهكذا نشأ العمران الضخم، كقصور هائلة للحكام، والاغنياء وملاعب ومسارح ودور عبادة وحتى قبور، كلها تمتاز بالضخامة (اهم واشهر تلك القبور: الاهرامات الفرعونية المصرية). ومن هنا نشأت الحاجة لنشوء معابد وآلهة “عمرانية” ضخمة (مثل معبد جوبيتير = هياكل بعلبك، في لبنان، وابو الهول في مصر). وعلى اساس هذه العملية نشأت الضرورة الى تجميع الآلهة في معابد واحدة ضخمة (كالاكروبول في أثينا باليونان) او آلهة (عمرانية = حجرية) ضخمة كأبي الهول. ومع تجميع، ودمج، وتكبير الآلهة، توصلا الى “التوحيد” الشمسي الاخناتوني، ظلت كل تلك الاديان (والآلهة) وثنية، شيئية، ملموسة. وكانت كل تلك الاديان تعتمد على التظاهر، والمزيد من التظاهر، والمبالغة في التظاهر (وهو ما يمكن تسميته: المشهدية)، تماما مثلما يعمد المنتج الى الترويج والعرض الاحتفالي والتزويقي والتفخيمي للسلعة التي ينتجها ويريد تبادلها (وهو ما يسمى: الاعلان او الدعاية).
XXX
ومثلما ان التقسيم الاجتماعي للعمل اعطى (او خصص) مختلف الجماعات الانسانية بمختلف المهن والحرف والصناعات، بحيث انعكس هذا التقسيم في ظهور مختلف الديانات الوثنية، فإن العملية ذاتها حولت القبيلة العبرانية الى “يهود” اي الى قبيلة تجار ومرابين. وهنا يجري الحديث عن “الصفة العامة” الرئيسية؛ اي انه مثلما ان قبيلة رعاة ابل ليس بالضرورة ان يكون جميع افرادها رعاة ابل، فإنه ليس بالضرورة ان يكون كل افراد القبيلة العبرانية اصبحوا تجارا ومرابين، وبالتالي ليس بالضرورة ان يكون كل من يولد يهوديا “تاجرا” او “مرابيا”. وبالعكس: يمكن ان يكون غير المولودين “يهوديا” بالمعنى الاتني ـ الديني، “يهودا” بالمعنى الاجتماعي ـ التجاري الخ. ولكن اذا كان التعامل بالنقود (لاجل التسوق والتسويق) اصبح جزءا تكميليا للجماعات الانسانية الاخرى، التي احتفظت بصفتها الاساسية كجماعات منتجة، وبالتالي احتفظت بـ”دياناتها” الوثنية، الشيئية، القديمة؛ او انتقلت الى ديانة توحيدية ـ الهية، انسانية شاملة، فإن الجماعة العبرانية التي “تخصصت” بالتجارة وتمحورت حياتها حول النقود، تحولت الى “جماعة محوسلة تجاريا” اي الى: يهود؛ اي جماعة الهها “يهوه” الذي هو صورة فكرانية ـ دينية عن النقود.
وبذلك فإن اليهودية، كديانة “توحيدية” ـ وثنية ـ اتنية ـ فئوية (تؤله النقود في صورة “الهية” قسرية مزعومة) تقف في منزلة بين منزلتين: منزلة الديانات الوثنية ـ الشيئية المتفرقة؛ ومنزلة الديانات الالهية ـ الانسانية الشاملة.
وخلافا للديانات الوثنية (ومن ثم “الالهية”) الاخرى، التي تعتمد على “التظاهر” والدعوة لدينها، كانعكاس للتعبير عن العرض والدعاية التسويقيين، فإننا نستطيع ان نكتشف “نقودية” او “مالية” ما يسمى “الدين التوحيدي والالهي” اليهودي في خاصيتين “يهوديتين” لا نجدهما ابدا، بل نجد نقيضهما تماما في الاديان السماوية الاخرى، وحتى في الاديان الوثنية، وهما:
الخاصية الاولى ـ السرية والتخفي والتمسكن. وهذه كلها صفات مأخوذة من صاحب المال، ومعكوسة “دينيا”. فـ”اليهودي” العادي يكون منغلقا على غير اليهود، والطغمة العليا المالية ـ الكهانية اليهودية تكون منغلقة على اليهود العاديين. وقد انتجت اليهودية في المجتمع المعاصر ما يسمى “الماسونية”، وهي ايضا حركة سرية مافياوية ـ سياسية ـ اقتصادية ـ ذات مظهر ديني، تديرها القيادة اليهودية العليا. وهذه السرية المصطنعة ما هي سوى انعكاس للسلوكية “التآمرية” لـ”صاحب المال”. ففي حين ان اي منتج او مالك شرعي لا يستطيع، بل وليس من مصلحته، ان يخفي سلعته او ملكيته: صاحب بناء، او صاحب مصنع، او قبيلة تملك قطعان ماشية الخ، فهم جميعا يتباهون و”يتظاهرون” بما يملكون؛ بل ويدعون احيانا انهم يملكون اكثر مما يملكون فعلا؛ اما صاحب المال ـ التاجر والمرابي، فإنه يحاول ما استطاع ان يتستر على ما يملك، من جهة خوفا من السرقة، ومن جهة ثانية حتى يستطيع هو نفسه ان “يسرق” بحريته الاخرين، عبر الربا وعبر شراء سلعة ما واحتكارها ومضاعفة سعرها وعبر المضاربة، حينما يجد ذلك مناسبا، دون ان يستطيع احد ان “يتنبأ” مسبقا بامكانياته وبخطواته.
والثانية ـ التقوقع، واعتبار “اليهوه” (زورا: الله) هو “اله خاص” “ملك شعب اسرائيل” وانه “اله اسرائيل” وان اسرائيل هم “شعب الله المختار!!”. وليس ذلك سوى انعكاس “ديني” مكشوف للوراثة، او توريث المال. ذلك ان “الله” في مفهوم الاديان السماوية الحقيقية هو اله جميع ابشر، وبالتالي “الخلق كلهم عباد الله”، وليس له “شعب خاص”. اما “اليهوه” فهو غير مباح للجميع وهو “خاص” بفئة معينة، هي “شعب اسرائيل”، اي تماما مثل المال الموروث، الذي يبقى خاصا بالتاجر ـ المرابي المعين وعائلته، ولا ينبغي ان يخرج من نطاق العائلة او العشيرة. ولو كان الدين اليهودي دينا “الهيا” حقيقيا، لكان يجب ان يكون دينا “منفتحا” لجميع الناس، وان يدعو الى التآخي بين البشر، وان يضم مئات الملايين والمليارات من مختلف الامم والشعوب والاقوام، مثله مثل المسيحية والاسلام. ولكنه بعكسهما تماما، هو اله قبلي ـ وثني محصور؛ ولكن ما يفرقه عن الاوثان الاخرى انه وثني ـ تجريدي، كما سبق ورأينا في الفارق بين السلعة الملموسة، والسلعة التجريدية التي هي النقود.
XXX
في رأينا المتواضع: هذا هو الطريق الاجتماعي ـ الاقتصادي (الانتاجي ـ التبادلي ـ التجاري ـ الاحتكاري ـ الربوي)، الذي سلكته عملية ظهور “النقود” (المال)، و”إله” المال (اليهوه)، و”شعبه الخاص” “الشعب التجاري” (عبدة “اليهوه” = “العهد” = النقود، اي: اليهود).
وهنا يبرز امامنا، بالضرورة، السؤال المنطقي التالي: لقد كانت التجارة، ولا زالت، كعنصر مكمل وجزء لا يتجزأ من عملية الانتاج، ظاهرة عامة، غير خاصة بالعبرانيين؛ واذا كان العبرانيون لم “يتهودوا” “دينيا ـ الهيا” ولا “داروينيا ـ جينيا”؛
ـ فلماذا “تهود” العبرانيون، اي: لماذا ـ هم بالتحديد ـ تحوسلوا تجاريا ـ ربويا؟؟ واصبحوا ـ هم بالتحديد ـ يهودا؟؟
لقد عمل اليهود (العبرانيون المتهودون) فيما بعد على ادخال بعض القبائل والاتنيات الاخرى في الدين اليهودي: الخزر، الفالاشا، امازيغ، بعض القبائل العربية ولا سيما في اليمن. ولكن هذا بقي في نطاق ضيق تماما، وضمن المصالح التجارية ـ الربوية ـ المالية لليهود. ولكن هذا لم يمنع الاحتفاظ باحتكار “اليهوه” وتمييز “شعب اسرائيل” بوصفه “شعب الله المختار!!”. وحتى حينما كان يتم ادخال فئة معينة، غير عبرانية ـ غير اسرائيلية، الى “الدين اليهودي”، كان يتم اعتبارها من “شعب اسرائيل” = “شعب الله المختار!!”. وهذا طبعا كذب تاريخي، وكذب على النفس، وكذب على الناس، كل الناس، وكذب على “الله” لو كان “اليهوه” هو الله. ولكنه ليس كذبا على “الله”، لان “اليهوه” ليس الله عز وجل!
وبذلك فإننا نبقى ضمن اطار السؤال الاساسي: لماذا “تهوّد” اليهود؟ اي لماذا تحولوا الى مافيا تجارية ـ ربوية ـ احتكارية ذات ايديولوجية دينية خاصة؟
بالاساس ان كل منتج، حينما يذهب لتحقيق سلعته، اي بيعها، يدخل في “اللعبة” او “العملية” التجارية. ولكن تبقى صفته الاساسية انه “منتج”، لان هدفه هو تسويق (بيع) سلعته، من اجل الحصول على المال بقصد الحصول على سلع اخرى يحتاجها، ومن ثم يعود الى انتاج السلعة ذاتها من جديد، اي انه في الحساب الاخير يبيع سلعته الخاصة من اجل ان يعيد انتاج نفسه كانسان وان يجدد انتاج السلعة التي يعيش منها. ولهذا فهو يمكن ان يكون “منتجا” ناجحا، من حيث صناعته الجيدة، ولكنه في الوقت نفسه يمكن ان يكون “تاجرا” فاشلا، لانه قد “يبيع” سلعته بأقل مما تستحق، حيث انه ـ لانشغاله الاساسي بالانتاج ـ لا يستطيع الانتظار طويلا لبيع منتوجاته الجاهزة، لأن ذلك يعني التوقف عن الانتاج خلال هذه المدة، وهو ليس لديه الامكانية والوقت الكافي للاطلاع على احوال السوق ومتطلباته وخصوصياته قبل التوجه لبيع منتوجاته. ومن هنا نشأت الحاجة لوجود “تاجر” متخصص، اي متفرغ تماما للتجارة، مثلما يكون المنتج، او المبدع، متفرغا للانتاج والابداع (لنتذكر الان بكل مرارة انسانية ان الكثير من المبدعين والفنانين العظام، عاشوا بضنك ومات بعضهم دون ان يملك الواحد منهم ثمن قميص جديد، او ثمن دواء، او حتى ثمن رغيف ـ اما ابداعاتهم ولوحاتهم فتباع الآن بعشرات ملايين الدولارات).
وحينما تكرست مهنة التجارة، كوظيفة اجتماعية ضرورية، كان من المحتم ان يصمد ويستمر “التاجر الناجح”. وفي بحثنا عن “اسرار” نجاح “التاجر الناجح” ينكشف امامنا “سر” تهوّد العبرانيين، وفي المحصلة “سر” ظهور الاستغلاليين والمرابين والاحتكاريين والمضاربين وشتى اشكال مصاصي الدماء الامبرياليين والاستعماريين.
فمن هو التاجر الناجح؟
انه “اليهودي”، الذي لا يعرف له “قيمة” او “علو” (= “ربا”) الا المال، كواسطة وكهدف.
ولنحاول ان نتعرف عن قرب، وبالممارسة، من هو التاجر “الناجح”. لنأخذ المثل البسيط التالي:
ـ لدينا 3 منتجين لديهم 3 سلع متشابهة، يريد كل منهم ثمن سلعته 10 دراهم؛
ـ يقابلهم: 3 تجار لدى كل منهم 10 دراهم؛
1 ـ التاجر الاول يكون مستعجلا لامر ما، فيشتري صباحا احدى السلع بـ10 دراهم، وتضطره عجلته الناشئة عن ظروف عائلية سيئة، او سوء تقديره، لان يبيعها بسرعة بـ10 دراهم. ولما كانت نفقاته الخاصة، خلال يومه التجاري هذا، هي 10% او 1 درهم. فهو يكون قد خسر 1 درهما من رأسماله. وفي صفقة تالية في اليوم التالي سيدخل الى السوق ليس برأسمال 10 دراهم، بل برأسمال اقل قدره 9 دراهم. واذا استمر على هذه الحال 10 ايام اخرى فهو سيفلس حتما وسيضطر ان يبيع دكانه او بيته. ولنسم هذا التاجر “تاجرا” فاشلا، لاسباب ذاتية او موضوعية.
2 ـ التاجر الثاني هو تاجر منصف وصاحب اخلاق ومتدين، يشتري السلعة بثمنها الحقيقي اي 10 دراهم، ويحسب حساب مصاريفه التي هي ايضا 10% اي درهم، ويبيع السلعة بـ11 درهما. وفي يوم ثان يصادف شاريا غنيا فيبيعه السلعة بـ11،5 درهما، وفي يوم ثالث يصاف شاريا فقيرا هو قريبه او جاره، فيبيعه السلعة بـ10،5 دراهم؛ اي ان متوسط بيعه يبقى 11 درهما (مما يساوي تماما “ثمن” راسمال السلعة + مصاريفه الخاصة). هذا التاجر الآدمي ـ المتدين سيعود الى التجارة لاحقا برأسمال 10 دراهم، اي انه تاجر “عادي” “يعيش” بكرامة ولكنه يجتر نفسه ويراوح مكانه.
3 ـ اما التاجر الثالث، الذي كان تاجرا لوذعيا، فقد كان يعلم ان المنتج صاحب السلعة الاخيرة التي بقيت في السوق لديه عائلة، وهو لا يستطيع الانتظار الى الغد لبيع سلعته، لانه ينبغي ان يعود الى عائلته بعد ان يشتري لهم بعض الضروريات؛ فيتظاهر التاجر، وقد اصبح وحده في السوق، وليس من شار غيره، انه لا يريد اليوم ان يشتري شيئا، فيأخذ المنتج الثالث في التوسل اليه ليشتري منه سلعته، وهو يتمنع الى ان “يحن عليه” اخيرا ويقبل بشراء السلعة، ولكن بشرط تخفيض سعرها الى 9 دراهم؛ ويضطر المنتج “المزنوق” ان يوافق ويبيع سلعته بأقل من “قيمتها” الحقيقية؛ وفي اليوم الثاني ينتظر التاجر الشاطر حتى آخر اليوم، ويرفض ان يبيع السلعة التي اصبحت بحوزته الا بـ12 درهما، بل ويقسم امام الشاري بـ”الهه” يمينا معظمة انه يبيع بخسارة، وانه لولا حاجته وحاجة عياله لما باع السلعة. وفي الوقت نفسه يكون هذا التاجر اللوذعي قد عاش يومه في ضنك وتقتير وبخل وشح، وانفق لمصاريفه الخاصة 0،5 نصف درهم فقط. وهكذا فإن هذا التاجر يكون قد اشترى “السلعة ذاتها” بـ 9 دراهم وباعها بـ 12 درهما، وأنفق لمصروفه الخاص 0،5 درهم، فيكون ربحه الصافي 2،5 درهمين ونصف الدرهم (زيادة عن رأسماله). ويصبح رأسماله، للصفقة الثانية، 12،5 درهما، اي بزيادة 25% على رأسماله الاول.
ـ وحتى لو افترضنا ان “حالة السوق” كانت غير ملائمة كثيرا بالنسبة لهذا التاجر اللوذعي، واضطر لان يشتري السلعة، مثل التاجر العادي، بـ10 دراهم، ويبيعها، مثله ايضا، بـ11 درهما، فلكونه عاش في بخل وتقتير وضنك ووفر 0،5 درهم من مصروفه، فإنه سيدخل في الصفقة الثانية برأسمال قدره 10،5 عشرة دراهم ونصف الدرهم، اي انه مع الوقت سيتقدم بالتدريج ويسيطر على السوق، حتى لو اشترى وباع بالاسعار المتوسطة التي يشتري ويبيع بها التاجر العادي.
هذا هو “التاجر” الناجح، حتى في الحساب الأرتماتيكي البسيط. ومن ثم فإن “الحوسلة” الوظيفية الاجتماعية لليهود كما يراها الدكتور عبدالوهاب المسيري، ليست شيئا آخر سوى “الحوسلة” الوظيفية الاجتماعية لـ”مهنة” التجارة، كما يمارسها هذا التاجر “الناجح”، وليس اي تاجر كان. اذ انه لكل مهنة “اصولها” و”اسرارها”. وكل من لا يتقن ويمارس “اصول” و”اسرار” مهنة التجارة سيفشل لا محالة.
فإذا اضفنا، انسانيا، عامل “الوراثة” والروابط العائلية والعشائرية الخ، نستطيع ان نستنتج انه، مثلما تخصصت هذه العائلة وتلك بهذه المهنة وتلك (وهو ما ينعكس في تسمية العائلات الى اليوم: حداد، نجار، حايك، سواس، غنام، حكيم، مؤذن، ميقاتي، مزرعاني، فاكهاني الخ الخ) فقد تخصصت عائلات اخرى بالمهن التجارية (ونجده في التسميات كذلك: تاجر، صراف، بقـّال الخ). وضمن هذه العملية “تهود” العبرانيون، اي برّزوا كتجار ناجحين، وتخصصوا (تحوسلوا) في التجارة وقمته الإقراض والربا، ليس كأفراد فقط، بل كجماعة انسانية.
ولكن لماذا العبرانيون بالتحديد هم الذين “تحوسلوا” في التجارة والربا؟
ان طرح هذا السؤال لا يعني انه لم يكن يوجد تجار ومرابون من جماعات انسانية اخرى، بل يعني انه، من بين كل الجماعات الانسانية في المجتمع العربي القديم، فإن التحوسل التجاري بقي فرديا او ضيق النطاق او كنشاط جانبي في صفوف بقية الجماعات، الا الجماعة العبرية فهي التي تحوسلت كجماعة.
ـ لماذا؟
هنا ايضا لا يمكن ايجاد الجواب لا في “السماء” ولا في الجينات الخلقية للعبرانيين، بل ان الجواب يوجد ايضا على وجه التحديد في العملية التاريخية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية التي مر بها العبرانيون ـ اليهود. ولننظر في ذلك عن قرب.
XXX
في مثالنا عن التجار الثلاثة، علينا ان نسقط من الحساب منذ البداية التاجر الفاشل. ولنجر مقارنة بين التاجر “العادي” والتاجر “الناجح” الذي هو “اليهودي”:
أ ـ ان التاجر العادي ينتمي الى جماعة انسانية (عائلة، عشيرة الخ) متوسطة الحال، او اكثر من متوسطة، غنية او ذات نفوذ وسمعة طيبة. وهو انسان “عادي” غير مهمش في الجماعة التي ينتمي اليها، والجماعة التي ينتمي اليها ليست مهمشة هي بدورها في المحيط الذي توجد فيه. ولذلك فهذا التاجر “العادي” يحرص على نمط معيشته المتوسط ان لا يكون اقل ممن يساوونه في المنزلة الاجتماعية. ولذلك فإن مصروفه يبقى مصروفا “عاديا” متوسطا.
ب ـ اما التاجر “الناجح” فهو ينتمي الى جماعة انسانية هامشية، غير مستقرة، ليس لديها نفوذ اجتماعي وهيبة اجتماعية وواجبات اجتماعية حيال الفئات الاخرى، فلا ضيافات ولا كماليات ولا البسة لائقة ولا لياقات اجتماعية الخ الخ، مما هو من “لزوميات” الحياة الاجتماعية “اللائقة” في المجتمع الشرقي، وخصوصا للفئات المتوسطة الحال كتاجرنا “العادي”. ولذلك فإن مصروف التاجر “الناجح” هو نصف مصروف التاجر العادي. وبهذه الاولوية فقط، فإن التاجر “الناجح” يدخل السوق مسبقا، قبل الشراء والبيع، متفوقا على التاجر “العادي”، في ما يوفره من مصروفه الخاص. فحتى لو باع السلع التي يشتريها بنفس اسعار التاجر “العادي”، فهو سيربح اكثر منه. واذا باع السلع بأقل مما يبيعها التاجر “العادي”، وهو قادر على ذلك لان مصاريفه هي اقل، فإنه سيبيع اكثر منه، وبالتالي سيربح اكثر منه.
ج ـ وفي عمليتي الشراء والبيع “العاديتين”، فإن التاجر “العادي” هو ايضا أضعف (بالمعنى التجاري البحت) من التاجر “الناجح”. ذلك ان التاجر العادي، نظرا لمكانته الاجتماعية كجزء من الجماعة الانسانية التي ينتمي اليها، هو مضطر حكما بأن يأخذ بالاعتبار تلك المكانة في جميع او اغلب علاقاته التجارية مع المنتجين ـ البائعين كما مع المستهلكين ـ الشارين، فيضطر بالتالي، الى حد ما لـ”مسايرة” هذا البائع او ذاك، هذا المشتري او ذاك، فلا يفاصل كثيرا حينما يكون هو شاريا، ولا يتشدد كثيرا حينما يكون هو بائعا. اي انه يكون أميل لأن يشتري بالسعر الانسب للمنتج ـ البائع، وان يبيع بالسعر الانسب للمستهلك ـ المشتري.
د ـ اما التاجر “الناجح” فهو متخفف مسبقا من “عبء” اي “لياقة اجتماعية” تقتضيها مكانته الشخصية وسمعة ومكانة العائلة او الجماعة التي ينتمي اليها، حيث انه ينتمي لفئة اجتماعية هامشية وغير مستقرة، ولا يهمه سمعته وسمعة جماعته لا لدى المنتج ـ البائع ولا لدى المستهلك ـ المشتري، ولهذا فهو غير مستعد ان “يساير” احدا في “تجارته”، فيضغط على البائع وعلى الشاري قدر ما يستطيع، اي يكون، في عمليات الشراء والبيع اكثر قدرة على المساومة والمراوغة والاحتيال والكذب والنصب اذا اقتضى الامر (من النكات الشائعة التي تروى عن التاجر ـ اليهودي، في موضوع “القسم” الذي يعيره العرب والشرقيون اعتبارا كبيرا، انه ـ اي التاجر اليهودي ـ يضع قطعة فولاذ (بولاد، باللغة الدارجة) امامه، وعند اللزوم يتظاهر بأنه يقسم، فيمسك قطعة الفولاذ (البولاد) بيده ويقول بلوعة (بولادي، انا ابيعك بخسارة! او: اشتري منك بخسارة!)، فيظن السامع انه يقسم بأولاده، فيما هو يقصد قطعة البولاد التي في يده؛ كما انه حينما يدخل المحل الذي يعمل فيه يخلع حذاءه ويلبس “شحاطة” عتيقة للتوفير، ويضع الحذاء فوقه على الرف، وحينما يتظاهر بالقسم الكاذب يقول “وحياة اللي فوق راسي وراسك”، فيظن السامع انه يقسم بالله عز وجل، فيما هو يقصد غير ذلك تماما).
هـ ـ وهذا في حالات التجارة “العادية”. ويبقى ان هناك دائما اشكالا من التجارة “غير العادية” او “غير المقبولة” او “غير الشريفة”، ونشير الى بعض هذه الاشكال:
1 ـ بيع سلعة حرفية فيها عيب او ماشية فيها مرض، فيشتريها من المنتج ـ البائع بسعر ارخص من المعتاد، ويبيعها للشاري بسعر “عادي” وكأنها غير معيوبة وغير مريضة؛
2 ـ شراء سلع او ماشية مسروقة، بأسعار بخسة جدا بالمقارنة مع السلع الشرعية، ويعود ويبيعها بسعر “عادي”؛
3 ـ “التعاون” مع اللصوص وحتى “توصيتهم” بسرقة كذا وكذا من السلع، خصوصا اذا كانت رائجة السوق، فيبيعها بأغلى من ثمنها؛
4 ـ دفع “عربون” مسبق وشراء بضاعة ما قبل الاوان، ثم احتكارها ورفع اسعارها في “الموسم”؛ وخصوصا في المواسم الدينية.
5 ـ اقراض المنتجين ـ البائعين بالربا واستيفاء الربا عند شراء البضاعة من انتاجهم؛
6 ـ اقراض المستهلكين بالربا، واستيفاء الاثمان الربوية لاحقا منهم؛
وغير ذلك من الالاعيب التجارية “غير الشريفة” و”غير الشرعية”.
فإن التاجر “الناجح” (= “اليهودي”) لا تهمه سمعته وسمعة جماعته، بل ان مثل هذه “السمعة السيئة” تصبح من مصلحته لانها تكون بمثابة “دعاية” مسبقة له، هو الذي يقدم على مثل هذه التجارة “الناجحة” التي لا يمكن للتاجر “العادي” ان يزاحمه فيها بأي شكل من الاشكال.
ويقال ان الدعارة هي اقدم “مهنة” في التاريخ. واذا اخذنا التوراة اليهودية بحرفيتها، فهي تعترف بصراحة ان ابرام حينما ارتحل الى مصر “تاجر” بزوجته ساراي، وعاد من رحلته بمال وماشية وعبيد وجوار “بفضل” هذه “التجارة”. ونستنتج من ذلك ان اليهود استخدموا ايضا “المتاجرة بالمرأة”، وهو ما كانت تأنف منه القبائل “غير المهمشة” الاخرى الا في ما ندر وفرديا وعند الضرورة القصوى.
كل هذه العوامل تجعل من “الضروري”، اجتماعيا ـ اقتصاديا، وجود التاجر “اليهودي”، البخيل، الكذاب، النصاب، عديم الشرف، الاريب، المحتال والمرابي الخ الخ.
ومن هنا “الضرورة الاجتماعية” لظهور الجماعة “اليهودية” المحوسلة في الوظيفة التجارية ـ الربائية “الناجحة”، بكل وجوهها المشروعة وغير المشروعة، كجماعة هامشية، غير مستقرة، دائمة التنقل والترحال، اولا للتهرب من ردود الفعل الاجتماعية السلبية، وثانيا للبحث دائما عن زبائن ـ ضحايا جدد. وبين مختلف الجماعات الانسانية في المنطقة العربية، توفرت شروط هذه “الضرورة” في الجماعة الهامشية العبرية. ومن خلال التاريخ الديني ذاته لهذه الجماعة (العبرية تحديدا) نجد انها كانت جماعة غير مستقرة، وان تواجدها كان يتوزع بين العراق وسوريا وشبه الجزيرة العربية وفلسطين ومصر.
ونقرأ في موسوعة د. المسيري:
“فــترة الآبــاء (2100ـ 1200 ق.م): هجرة إبراهــيم (1996 أو 1800 ق.م) إلى فلسـطين، ثم هجرة يعقوب ثم يوســف إلى مصر عـام 1720 ق.م. : ولا يُعرَف سوى القليل عن التنظيم الاجتماعي والسياسي للعبرانيين في هذه الفترة، أو عن إنجازاتهم الحضارية إن وجدت. ومع هذا، يبدو أنهم كانوا من البدو الرُحل الذين يعيشون على أطراف المدن ويتنقلون على الطرق الأساسية للتجارة.”
وفي موقع “لفلي سمايل”؛ عن “خروج موسى” نقرأ: “يقول جوستاف لوبون: “كان بنو إسرائيل أقل من أمة، حتى زمن شاؤول وكانوا أخلاطاً من عصابات جامحة، كانوا مجموعة غير منسجمة من قبائل ساميّة صغيرة أفاقة بدوية، تقوم حياتها على الغزو والفتح وانتهاب القرى الصغيرة، حيث تقضي عيشاً رغيداً في بضعة أيام، ثم تعود إلى حياة التيه والبؤس”، من كتاب “اليهود في تاريخ الحضارات الأولى”.”
ولما كان الانسان يحتاج الى تبرير سام، اخلاقي ـ ديني، لمسلكه الاجتماعي العام، فبعد ان تحوسلت هذه الجماعة في التجارة “الناجحة”، وجدت “تبريرها الاخلاقي ـ الديني” في “اله خاص” سموه “اليهوه”، وفي “الديانة اليهودية!!”، التي تبيح لليهودي ممارسة تجارته “الناجحة” والربا والغزو والسلب والنهب والنصب والقتل والدعارة الخ الخ.
وقد توجه الحقد الاولي والاساسي لليهود ضد العرب لثلاثة اسباب رئيسية هي:
الاول ـ ان البلاد العربية كانت منذ القدم، من وادي النيل الى ما بين النهرين، مرورا بأرض كنعان، مهد الحضارة الانسانية وبلادا ناهضة ومزدهرة تغري كل طامع بالاستيلاء عليها، كما تغري اللصوص وقطاع الطرق والنصابين والمحتالين بممارسة “نشاطاتهم الفعالة” فيها.
الثاني ـ ان العرب، كأقرباء، وكأقرب جيران، للعبرانيين، كانوا هم “زبائنهم” الاول، اي ضحاياهم الاول.
والثالث ـ انه، وبسبب هذا القرب بين العرب والعبرانيين، فإن العرب كانوا “يعرفون” العبرانيين ـ اليهود تماما وحق المعرفة. اي ان “عورات” اليهودي و”فضائحه” هي معروفة تماما اولا من قبل “ابن عمه” و”جاره” العربي. ولذلك كان من مصلحة اليهود التخلص من العرب والقضاء عليهم واخراسهم.
وبطبيعة الحال، فهم قد غلفوا هذا الحقد، والرغبة في التخلص من العرب، بقالبهم الديني الخاص، فافتروا على المصريين وعلى الفلسطينيين شتى الافتراءات، وادعوا ان “يهواهم” وهبهم الارض الفلسطينية والعربية من الفرات الى النيل ودعاهم الى ابادتهم ـ اي ابادة العرب (الكنعانيين، العموريين، اليبوسيين الخ) ـ عن بكرة ابيهم.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* كاتب لبناني مستقل