طل الملوحي – الشبع
في احدى القرى السورية البعيدة التي كانت تقع على الحدود التركية,كان السيد حكمت يملك قصرا فخما ,يقع وسط حقول اللوز والزيتون ,ولم يكن القصر وحده هو الذي ورثه عن ابيه,بل ورث معه حوالي الف دنم من الاطيان ,وعدد كبير من رؤوس الخيل والماشية,كما ورث الفلاحين العاملين من قبل مع ابيه ..!
لقد اراد السيد حكمت او حكمت بيك كما يدعوه اهل القرية , ان يتزوج بعد ان امضى شطرا لابأس به من شبابه بين أحضان النساء…!
فخطب كريمة احد اعيان القرية المجاورة لقريته, وبعد فترة وجيزة عقد قرانه على زينات خانم ,ولم يمض عام حتى رزق بمولود جميل أطلق عليه اسم رئيف تيمنا بجده.
في هذا الصيف كانت الكوليرا تنتشر بالمنطقة ,وتفتك بالاهلين فتكا سريعا ,ولم تكن قد وصلت بعد الى تلك القرية ,وان كانت قد بلغت بعض القرى المجاورة .
جاء طبيب من قسم الرعاية الطبية بوزارة الصحة واخذ يشرح للاهالي طرق الوقاية من الكوليرا وقال:
ـ ان النظافة وتقوية الجسم والعناية بالغذاء الحسن والطعام الجيد…هي من افضل الوسائل للتغلب على هذا المرض .
وهنا قام احد المتعلمين وقال : من فضلك يادكتور اكتب لنا روشتات فراريج ولحم خراف واخرجها لنا من صيدلية ناهبين البلد..!!
فضحك الجميع , اما الطبيب فلم يضحك واستمر يقول الكلام الذي ذهب الى هناك ليقوله…
ومنذ ذلك الوقت رسخ في عقل اهل القرية ان الوقاية من الكوليرا هي بالطعام الجيد.
ولكن أنّا لهم هذا الطعام والاجور التي يقبضونها من حكمت بك لاتكاد تسد الرمق,واذا كان لبعضهم قطع صغيرة من الارض استأجروها فان الحكومة تستولي على ثمن المحصول كضرائب وفوائد على القروض..!
اما في قصر حكمت بك فهناك الشبع ,وهناك اطايب الطعام والشراب ,وهناك مايوشك ان يخلق وحشا من الانسان..!!
كان حكمت بك قد جاء لطفله بمرضعة شابة اسمها (امينة) وهي زوجة عامل من العمال بزراعة البيك يدعى (مرزوق) وقد انتقاها له شيخ الضيعة بعد ان استعرض جميع الفلاحات في تلك القرية والقرى المجاورة فوجدها انضرهن صحة واوفرهن قوة , ولما كشف عليها الدكتور مفتش الصحة وصديق حكمت بك شهد بسلامتها من كل مرض .
لقد اوصى الطبيب حكمت بك بتغذيتها جيدا ,حتى تدرّ للطفل لبنا دسما يساعد على نموه قويا صحيحا.
عمل حكمت بك بالنصيحة ,واوصى زوجته بان تراقب طعام المرضعة بنفسها وان تراعي جودته ووفرته بكل وجبة.
لقد فرحت (امينة) باطايب الطعام التي عاشت حياتها محرومة منها ,وصارت تلتهم مايقدم لها مما لذ وطاب من لحم الطير والضأن واللبن….
وغير ذلك , ولم تلبث ان سمن جسدها وثقل ردفها فزادت في نظر زوجها حسنا على حسن…..وكانت تنام في داخل القصر ولايسمح لها بلقاء زوجها الا ليلة كل اسبوع!!
وفي الصباح كانت تعود الى القصر فتستحم قبل ان يؤتى لها بالطفل فترضعه ,غير انها لم تلبث ان عافت ذلك الطعام ,وصارت تشتهي ماالفته من خبز الذرة والقريشة والبصل وغير ذلك من طعام الفلاحين الفقراء!!
وقد شكت الى زوجها مرزوق ذات ليلة هذا الامر ,فضحك واتفق معها على ان يجيئها سرا بالقريشة وخبز الذرة وتعطيه ماتعافه نفسها من لحم طري وطعام دسم….
دخلت زينات خانم بعد ظهر احد الايام الى غرفة المرضعة فوجدتها جالسة وامامها طاولة عليها طعام كثير لم ينقص الا قليلا ,والمرضعة مع هذا جامدة لاتأكل ,فقالت لها بعنف :لماذا لاتأكلين ,يجب ان تأكلي كل مايأتي اليك من طعام!! فردت ولكن شبعت ياسيدتي ,فردت زينات خانم هل شبعت حقا؟ام انك تحتفظين بالطعام لزوجك لترميه له من النافذة بالليل.
لا والله ياسيدتي انا شبعت قالت امينة.
فردت السيدة انت تريدين للبنك ان يجف تريدين ان يموت رئيف …!!
وخطر لزينات خانم خاطر,فأسرعت نحو الصندوق الاحمر الذي تضع فيه امينة ملابسها ,وفتحته ,فاذا برائحة البصل والقريشة تفوح منه,فثارت ثائرتها وصاحت بالمرضعة :كيف تتركين اللحم واللبن والسمن وتأكلين هذا؟؟الم نقل لك الا تتذوقي مثل هذه الاشياء حتى يبقى لبنك نظيفا لاجل سيدك رئيف؟!
ولم تلبث السيدة زينات خانم حتى اخبرت حكمت بك بما اكتشفته من (جريمة المرضعة) فاراد ان يطردها توا ,ولكنها بينت له انهم قد لايجدون مثلها صحة وسلامة جسم.
واشارت عليه ان ينقل زوجها الى العمل في ضيعة اخرى فلا يقدر ان يوافي زوجته كل حين !ولئن جاء سرا فسيكتشف امره الخفراء.
عمل حكمت بك بالنصيحة ونقل مرزوق الى الضيعة المجاورة ولم يبال بابعاده عن زوجته وعن طفلها الصغير مادام في ذلك صالح الطفل رئيف ربيب النعمة وسليل المجد…!!
غير ان الحاجة تفتق الحيلة ,وقد اشتدت حاجة امينة الى طعامها المألوف في حين اشتدت حاجة الاهالي الى اطايب الطعام التي تعافها نفسها.
ومن ثم قامت سرا بينها وبينهم بالمقايضة ,فهي تقذف اليهم ليلا من النافذة بأكثر مايقدم لها من لحم الدجاج والضأن وهم يرمون اليها بالقريشة والبصل وخبز الذرة…انها قسمة ضيزا ولكنها راضية ومغتبطة وهم فرحون هانئون.
ولكن هذه المقايضة لم تستمر الا ليال معدودة ,ثم اكتشف الخفراء الامر ,وكانوا اقوياء الجسم غلاظ الاكباد قد شبعوا من فتات القصر وفضلات طعامه فضلا عما يسلبون وينهبون !!!
فأعملوا في القادمين ضربا ولطما ولكما حتى علا صياحهم واشتد ضجيجهم ,ونبحت كلاب القرية ,وهب حكمت بك وجميع الاسرة والخدم من نومهم مذعورين ,وكانت الهزيمة للاهالي على كثرتهم ,اذ كانت الكوليرا قد دخلت القرية منذ فترة وفتكت بمن فتكت وصيّرت الاحياء منهم ضعافا عجافا محمومين ..!
ولما انجلت المعركة ذهب حكمت بك الى غرفة المرضعة وفي يده سوط غليظ وصاح بها :كل هذا منك يابنت….. فصاحت باكية مستغفرة وهي تقول : الرحمة ياسيدي والعفو لن افعلها بعد ذلك …شبعت يابنت ….. فركبك البطر …..ابدا ياسيدي ولكن زهقت من هذا الطعام وبطني وجعتني واشتهيت القريشة والبصل والناس جياع ايضا ……… وهمّ بضربها ,فمنعته زوجته ,فقال لها : اتدافعين عنها ايضا .. قالت لا ولكن اخاف ان يتغير دمها من كثرة الضرب فيؤذي لبنها رئيف!!!
وأقنعته هذه الحجة ,فتركها بعد ان انذرها بكل عقوبة ان هي عادت للمقايضة على طعامها ثم امر الخدم ان يشددوا الرقابة عليها وعلى الاهالي حتى لاتحصل بينها وبينهم مقايضة على الطعام, وتعهدت زينات خانم ان تراقب المرضعة بنفسها اثناء الاكل بحيث تتناول كل وجبة طعامها امامها .
في صباح اليوم التالي جيء الى امينة بطعام الافطار من لبن وقشدة وبيض وعسل ,فأسرعت زينات خانم وجلست على كرسي بينما كانت المرضعة تتناول طعامها وزينات خانم تستزيدها اكلا ,وهي تطيعها مكرهة حتى اكلت اكثر مااستطاعت وامتلأت معدتها واوشكت ان تفيض !!
ولما استوثقت زينات خانم من اخلاص المرضعة في تناول تلك الوجبة ,رضيت ان تعفيها من بقية الطعام ولكنها قالت : خلي بقية الطعام هنا يمكن ان تجوعي بعد قليل !
وتركتها ثم ارسلت اليها الطفل لترضعه رضعة الصباح.
وما ان وجدت امينة نفسها وحيدة في غرفتها وامامها بقية الطعام الدسم الذي عافته نفسها وفي حجرها الطفل لترضعه حتى خطر لها خاطر جنوني ,هو بلا ريب نتيجة الغيظ المكتوم .
فتناولت ماامامها من بيض وقشدة وعسل وجعلت تحشره في فم الطفل حشرا وهي تقول : كل … كل …كله لأجلك ,يا الله كل من الاكل الجيد حتى تكبر بسرعة ,ولم تمض دقائق حتى وقف تنفس الطفل ,فارتاعت امينة ووضعته على فراشها وارتدت ملاءتها بسرعة وغافلت الجميع وفرّت اذ ان الحراسة لم تكن مضروبة عليها الا بالليل
اما بالنهار فكانت حرة ,اذ لم يكن من المعقول ان تقايض على طعامها في وضح النهار.
خرجت من القصر لاتلوي على شيء ,واخذت تقطع المسافة الى القرية المجاورة بسرعة وقد ظنت لسذاجتها ان زوجها قد يحميها لانه الرجل الذي تعرفه وتعتمد عليه ,بل عزمت ان توافيه فتهرب معه الى الجبل قبل ان يكتشف مافعلته بالطفل .
كان رئيف قد اعتاد النوم في حجر المرضعة عقب كل رضعة فلم يشعر احد بما حدث الا بعد حين وفي خلال ذلك ,وصلت امينة الى القرية المجاورة ,فما كان اشد فزعها حين رأت الجثث مطروحة في كل مكان وكأنها دخلت مقبرة للاموات لا ضيعة للاحياء ! اما الباقون على قيد الحياة فلا يكادون يستطيعون حراكا ولانطقا.
وعرفت بعد لأي اين كوخ زوجها مرزوق فما ان بلغته حتى وجدت بابه مفتوحا وليس به دليل على الحياة ,واذا بزوجها راقد على ارض الكوخ ولا حراك به وقد اصبح جثة هامدة!
هنالك جلست الى جانبه وهي تبكي وتولول وقد نسيت نفسها ونسيت كل شيء.
وماهي الا ساعة حتى وصل الخفراء القساة الى القرية ,فأمسكوا بها وكالوا لها اللطمات وذهبوا بها توا الى مركز الشرطة ولولا معاون الشرطة هناك لقضى عليها حكمت بيك بيده انتقاما لولده .
حوكمت امينة امام محكمة الجنايات ووجهت اليها تهمة القتل عمدا مع سبق الاصرار .
ولكن المحامي الذي عينته المحكمة لامينة شرح للمحكمة الظروف كلها وبين لها جهل المتهمة التي لاتدرك عاقبة فعلتها ونفى عنها تهمة القتل عمدا مع سبق الاصرار ,وقد قدرت المحكمة كل ذلك فأدانتها بتهمة القتل الخطأ وحكمت عليها بالسجن سبع سنوات تقضيها في احد سجون النساء.!!!!!
طل الملوحي
1/7/2008