مرح البقاعي – عودة الابن الضال
لا يسعنا أمام مشهد المؤتمر الصحافي الرباعي الذي عقده الرؤساء الأربعة الأسد، ساركوزي، سليمان، وحاكم قطرالشيخ آل ثاني، في العاصمة باريس مساء أمس، إلا أن نقر أن المشهد السياسي الدولي يدخل في مرحلة مناخية من الانقلاب الصيفي الذي توجّه الأليزية ــ بيد ولسان رئيسها ” النابليوني”غير المتوّج ــ محرّك متغيّراته السياسية، على المستويين الإقليمي والدولي.
ولا يغيّب انبهارنا بذاك المشهد، من رصدنا لتلك الخلفية ” البوشيّة” بامتياز، التي ارتكزت عليها تحركات ساركوزي الأخيرة، والرئيسان تربطهما، على عكس ما كان عليه الأمر في عهد الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، رؤيتان سياسيتان متناغمتان، إلى حد أن قارئ المشهد السياسي يمكنه أن يقول أن ساركوزي يرسم على لوحة الأزرق المتوسطي الملامح الجديدة لوجه الرئيس الأميركي جورج بوش، حين حددها بوش بنفسه في مقابلة تلفزيونية أجرتها معه قناة العربية مؤخرا بقوله:” أنا رجل سلام”.
الاتحاد من أجل المتوسط ينطلق اليوم من عاصمة النور والتنوير باريس، وبمشاركة أربعين دولة ، بينهم سوريا ولبنان واسرائيل، الدول الثلاث التي لازالت في حالة ” اللاحرب واللاسلم”، الحالة التي مهدت ورسخت لأنظمة الحكم العسكرية الفردانية في المنطقة أن تستمر، وسلالاتها، حتى تاريخ سطر هذه الكلمات. جاء انطلاق مشروع ساركوزي الاتحادي، الذي روّج له في حملته الانتخابية الرئاسية، متزامنا مع العديد من الأحداث الإقليمية والدولية المفتاحية وأهمها: 1- محادثات السلام السورية الاسرائيلية “غير مباشرة” لحل القضايا المتنازع عليها بين البلدين. 2- بوادر لانفراج دبلوماسي غير مسبوق بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، توجت بترحيب الرئيس الإيراني اليوم، بشكل رسمي معلن، عن قرب تبادل التمثيل الدبلوماسي بين إيران والولايات المتحدة من جديد، ما يلغي كل هذا التهويش والتسعير الإعلاميين لإمكانية شن ضربة عسكرية على إيران إما بأيادي أميركية، أو بسلاح اسرائيلي مدعّما بضوء أخضر أميركي. 3- ولوج لبنان وشعبه في مرحلة جديدة من الاستقرار والتمكين السياسيين من خلال حكومة الوحدة الوطنية، وانطلاقة المؤتمرالوطني المسيحي الهادف إلى تفكيك الحلف العوني ــ النصراوي، لمزيد من الالتفاف على حزب الله، الذي التف أصلا على نفسه في رفعه “سلاح المقاومة” في وجه المدنيين العزل في المدن اللبنانية خلال أحداث أيار/ مايو 2008 المشهودة. 4- العلاقات اللبنانية السورية تدخل منطق الندّية التكافؤية، والمتعارف عليها بين الدول ذات السيادة، إثر ثلاثين عاما ونيف من اغتصاب القرار اللبناني وتوجيهه من قبل النظام السوري وتحالفاته الحزبوية الطائفية في لبنان. 5- الرئيس السوري الشاب، “المعزول سابقا” ، يتحول بلمسة ساحر، وبإجماع قلّ نظيره، إلى وسيط دولي بامتياز، بين العالم الغربي متمثلا بالولايات المتحدة ” الشيطان الأكبرسابقا” من جهة، وإيران “محور الشر سابقا”، من أخرى ، مهمة الوساطة التي عجز عنها الخبراء والدبلوماسيون والرؤساء الأقوى في العالم!
في ضوء تصاعد النجومية الرسمية السورية في الأفق المتوسطي، والأطلسي أيضا، ترتفع مجموعة من الأسئلة الملحّة والعالقة منذ عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وأبرزها: ما دور الصوت الآخر في عملية التحديث السياسي والاقتصادي والتغيير السلمي الديمقراطي في سوريا، والذي لاتمثيل لهما اليوم، على الإطلاق، على الخارطة السياسية السورية، الرسمية منها والمدنية؟ وعلى أي رفّ وضعت مسألة حقوق الإنسان وحريات التعبير والمشاركة السياسية من المحادثات السورية الفرنسية؟ وهل مصالح الدول وعلاقاتها العابرة للقارات هي فوق مصالح الشعوب وتطلعاتها الإنسانية والمستقبلية ؟ وإذا كانت “الفوضى الخلاقة” قد ولّدت حالة من الجنوح إلى سلم دائم في منطقة الشرق الأوسط فأين هو المواطن السوري و”مواطنيته” من هذه المعادلة الجديدة وهو مغيّب تماما عن المشاركة في الفعل السياسي، وحتى الثقافي منه، في عاصمة الثقافة العربية دمشق، التي العديد من مثقفيها محكومون قسرا بالمنافي الجبرية ؟!
بعد أن فشلت بعض أطياف المعارضات السورية ــ أو ما يحلو لي أن أدعوها ” العراضات”ــ في تحويل مشاريعها السياسية “الشخصانية”، التي تتقلب بين الارتزاق، والارتهان، والنفعية، وصولا إلى المطامع العمياء في الاستيلاء على السلطة، أوالعودة إليها، وبعد احتكار صفوفها من فئة “البعثيون الجدد” المنكفئة، وجماعات “الإخوان المسلمون” الموحّدة الأجندة والمتعددة الأقنعة، وكل من دار في دوائر هؤلاء من صيادي المكاسب السريعة الذين ساووا السجّان بالسجين، وإثر تغييب منظّم لحركة إصلاحية حقيقية، نزيهة وواعية، ترفد عملية التحديث السلمي الديمقراطي في الداخل السوري، حركة صادف أن أصحابها يعيشون في الخارج لظروف الهجرة العلمية أو الاقتصادية، ولم “يستقووا” يوما إلا بنوستالجيا الوطن الأم وتعلّقهم الغريزي، الناصع، وغيرالمشروط بالأرض الأولى، نشهد اليوم عودة “الابن الضال”، وبزخم وإجماع دوليين، إلى ساحة الحراك العالمي، مكنّسا بذلك كل معوقات العزل على المستويين الإقليمي والدولي، ومحرّضات انتكاسات المحكمة الدولية، والمنغّصات الأميركية الموظفة للاستهلاك الإعلامي، والتي لم تكن ــ برأيي ــ يوما أوراقا خلافية متجذرة بين الولايات المتحدة من جهة، وسوريا وحليفها الاستراتيجي، إيران، من جهة أخرى. أستثني من هذا المشهد الخلافي المفتعل، من كانوا لسوريا وإيران حلفاء “تكتيكيين” في ظرف سياسي منتهي الصلاحية، وأقصد حزب الله، حماس، فتح الإسلام…، وغيرها من أوراق “الجوكر” التي ما فتئت سوريا تدورها على طاولة المقامرة الدولية التي رمت اليوم بورقة” الصولد ” منها، وارتفعت بذلك من “حفرتها”، أو “الحُفر” التي أُعدت لها، على حد تعبير الرئيس الشاب بشار الأسد اليوم في مقابلة تلفزيونية مع تلفزيون الجزيرة، ارتفعت كاسبا دوليا وإقليميا هو “الأعظم” !