كامل عباس: بين برهان غليون وصموئيل هنتنغتون
عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء صدر كتاب للمفكر برهان غليون عام 2005 تحت عنوان – العرب وتحولات العالم – يُعد الكتاب مميزا بحق في الشكل والمضمون , في الشكل تم عرض أفكاره بطريقة حوارية أجراها الدكتور رضوان زيادة , وفي المضمون تناول الدكتور قضايا معاصرة مثل العولمة والدين والعلمانية بطريقة تحمل من العمق والغنى المعرفي الكثير جدا , ولسوء حظي لم يصلني الكتاب الا في عام 2009 , مع انه صدر في الوقت الذي اشتبكت فيه مع الدكتور بسجال حاد حول اللبرالية والديمقراطية نُشِر مع الردعله من قبل الدكتور في صحيفة الحوار المتمدن الالكترونية صيف العام 2005 , كما أننا التقينا في بيت النائب السابق رياض سيف واختلفنا حول أمريكا والحرب على العراق فيما بعد والموقف حيالها, كنت اقرب الى صديقيه رياض سيف ورياض الترك منه .
الأول قال : على العراقيين مخاطبة أمريكا باسم الشعب العراقي وباللهجة الودية والوسائل الديمقراطية لصياغة علاقة متوازنة بين الشعبين والدولتين في أمريكا والعراق , تماما كما حدث في ألمانيا بعد ان حررها الأمريكيون من النازية .
والثاني قال : الاحتلال الأمريكي للعراق نقله من -1 الى الصفر
أما أنا فقلت للدكتور ان الاحتلال جاء استجابة موضوعية لحركة التاريخ بطريقة عنفية تستند الى القوة , وعلينا ان نجعل تلك الاستجابة في المستقبل قائمة على العقل .
أما الدكتور فقد رأى بالحرب نوعا من الهمجية الأمريكية و كرر موقفه منها المعروض في كتابه المذكور ص 81 كما يلي ( كيف نرد على تكريس الهيمنة الأمريكية وسعيها الى القضاء على أية مقاومة ثقافية أو فكرية أو سياسية أو ايديولوجية تقف أو يمكن ان تقف في وجه هذه الهيمنة . )
لم أفاجأ برؤية الدكتور المعروضة على صفحات الكتاب حول أمريكا . المفاجأة كانت في رأيه بمفكر كبير منها هو صموئيل هنتنغتون وكتابه الشهير – صدام الحضارات وإعادة تأهيل النظام العالمي- لم يخطر على بالي أبدا ان يقرأ الدكتور كتاب هنتنغتون بنفس الطريقة التي قرأها آخرون طريقة – لا تقربوا الصلاة – يقول الدكتور في الكتاب ص 79 (( ان حوار الحضارات ظهر كرد فعل على نظرية صدام الحضارات ( The clash ofcivlization ) . وقد ظهر هذا المفهوم ضمن طار إعادة ترتيب الاستراتيجية الأمريكية باتجاه التعبئة ضد العالم العربي والإسلامي . وهو أداة في يد السياسة الأمريكية اليمينية الجديدة في الولايات المتحدة . وما أراد أن يقوله هنتنغتون هو أن حالة الحرب مستمرة وان انتهاء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي لا يعني نهاية الحرب في العالم . وإنما انتقلت الحرب الى مجالات أخرى وصار خط الفصل بين المعسكرات المتنازعة التناقض والتنافس بين ثقافة حديثة متطورة ولبرالية تعنى بالفرد والحريات , وثقافة دينية متطرفة معادية للغرب. وأعطى مثالا على هذه الثقافات في الثقافة الصينية والاسلامية . وهي نظرية تهدف الى تبرير الحرب على الشعوب الأخرى ))
هذه الكلمات ذكرتني بالمقدمة العجيبة للكتاب والتي تصدرت ترجمته العربية (الطبعة الثانية ) بقلم الدكتور صلاح قانصوه والتي جاء فيها حرفيا ص 25
(( وهو من شأنه أن يساهم مساهمة نشطة في تزييف وعي المواطنين في مختلف بلدان العالم , ويفضي ذلك جميعا الى صرف الانتباه عما يجري في الواقع العالمي بحيث يتم تحريك الأطراف المختلفة بكفاءة واقتدار , لخدمة مصالح بعينها . بعيدة عن مصالح أوسع فئات الجماهير سواء في الشرق أو في الغرب . فالكتاب كله تذكير ملح على واجب المواطنين في التشبث بالخصومة بين البشر , حتى يفرغ أصحاب المصالح لشئونهم وإدارة العالم الممزق . ونظرته في” الصدام الحضاري ” ليست أكثر من ثوب قشيب لفكرة أو ممارسة عتيقة جدا هي ” فرق تسد ” ))
كتبت مقالات عدة وألقيت الكثير من المحاضرات التي تعتبر الكتاب يهدف الى تبرير السيطرة الأمريكية على العالم وقد جاء في محاضرة للدكتور محمد الحاج صالح ألقاها في طرطوس عن الكتاب ما يلي
(أن الكتاب قراءة مغلوطة للتاريخ وتفسير خاطئ لتطوره استنادا للصراع الديني داخله, وله أهداف في مقدمتها تبرير السيطرة الأمريكية على العالم .)
يمكن ان يتفهم المرء دوافع تلك الحملة الشعواء على الكتاب سياسيا والتي تقف وراءها جهات معينة , اما ان يكتب مفكر مثل برهان غليون عن مُنظِر مثل هنتنغتون بنفس الطريقة !!!! , كنت أظن ان الدكتور برهان أكبر من ان يتهم مفكرا بهذه البساطة والسرعة ولا يحترم جهده على الأقل مهما اختلف معه .
ان نختلف مع المفكر في الرؤيا شيء وان ننظر الى المفكر بأنه يهدف الى تبرير الحرب على الشعوب شيء آخر .
تلك العقلية هي التي قادت الكثير من سياسيينا للمطالبة بمقاطعة الحرة كقناة أمريكية حتى ولو كانت القناة تخاطب العقل وتنطلق منه وتقدم برامج جادة تساهم في تخفف جهلنا وتخلفنا أكثر من كل ما تقدمه القنوات العربية .
قرأت مؤخرا كتابا صادرا عن الهيئة العامة للكتاب في سوريا سنة 2007 تحت عنوان – مدخل الى الفكر الايديولوجي – تحرير وترجمة معين رومية , اغلب من ترجم لهم علماء أمريكيون يدعون الى تاسيس فرع جديد من علم النفس يؤسس لأخلاق بيئية جديدة مختلفة جذريا عن الأخلاق البيئية القديمة , يعتبر فيها الانسان عضوا في مجتمع الطبيعة وليس سيدا في هذا المجتمع ومما جاء فيه حرفيا على لسان علماء أمريكيين من كاليفورنيا ص 109 ((لا يؤدي المجتمع التكنولوجي الى تغريب البشر عن بقية الطبيعة بل أيضا الى تغريبهم عن أنفسهم وعن بعضهم البعض , فهو يعزز بشكل أساسي تدمير القيم والأهداف الذي غالبا ما يؤدي بدوره الى تدمير الأساس الضروري لإقامة تفاعل مستقر وقابل للحياة بين المجتمعات البشرية والعالم الطبيعي ))
ترى هل نرفض هذه الدعوة لانها تأتي من علماء أمريكيين لا تقبل حكومتهم حتى الآن التعاون التام مع المنظمات البيئية ونرى انها تحمل السم بالدسم مثل نظرية هنتنغتون وقناة الحرة ! وهل سيطالب البعض من الكتاب بسحب الكتاب من التداول كونه يروج لبضاعة أمريكية؟
انا شخصيا قرأت كتاب هنتنغتون ثلاثة مرات وعجزت ان اجد فيه تأسيسا لنظرية جديدة تدعو لصدام الحضارات , الأنكى من ذلك أن الكاتب الأمريكي يدعو الى عالم جديد يشبه العالم الذي يريده الدكتور برهان ولو اختلف الأسلوبان وهذا ما حملني الى التفكير بان الأستاذ برهان لم يضطلع على الكتاب حتى نهايته بل حكم عليه من صفحاته الأولى .
يجهد هنتغتون في بداية كتابه لإيضاح مفهوم الحضارة كما يبدو له , فهي عنده مزيج معقد من الأخلاق والدين والفن والفلسفة والتكنولوجيا والرخاء المادي ويمكن أن يحدد في كل حضارة عدد من المستويات الدنيا والعليا والمعادل الموضوعي لكل حضارة والتي تعطيها هويتها برأيه هي الثقافة , والموضوع الرئيسي لكتابه كما يقول في الصفحة 37 من الفصل الأول (( هو أن الثقافة والهويات الثقافية والتي هي على المستوى العام هويات حضارية و هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة . ))
وهو يحدد ست أو سبع حضارات رئيسية لكل منها هويتها الثقافية المميزة ودولة أو دولتين مركزيتين تعبران عنها باستثناء الحضارة الاسلامية , ويرى بالحضارات القبائل الانسانية النهائية , وصدام الحضارات هو صراع قبلي على نطاق كوني في عالم ما بعد الحرب الباردة , والكتاب بمجمله يعتبر ردا على نظرية فرانسيس فوكوياما – نهاية التاريخ – والتي ترى بالليبرالية الديمقراطية الغربية الشكل النهائي لحكومة إنسانية موحدة على المستوى الكوني .
الكاتب يرى أن اعتقاد الغرب بعالمية ثقافته , اعتقاد زائف ولا أخلاقي وخطر والاستعمار هو النتيجة المنطقية الضرورية لتلك العالمية . (( عالمية الغرب خطر على العالم لأنها قد تؤدي الى حرب بين دول المركز في حضارات مختلفة , وهي خطر على الغرب لأنها قد تؤدي الى هزيمته )) ص(503)
((إن التدخل الغربي في شؤون الحضارات الأخرى يمكن أن يكون المصدر الوحيد والأشد خطرا بالنسبة لعدم الاستقرار والصراع الكوني المحتمل في عالم متعدد الحضارات )) ص (505)
(( وفي عالم متعدد الحضارات فإن المسار البناء هو التخلي عن العالمية وقبول التنوع والبحث عن العوامل المشتركة )) ص (516)
والبديل عن صدام الحضارات لديه هو العمل بموجب ثلاثة قوانين
الأول : قانون الامتناع : أن تمتنع دول المركز عن التدخل في صراعات داخل الحضارات الأخرى .
الثاني : قانون الوساطة المشتركة : أن تتفاوض دول المركز مع بعضها الآخر لاحتواء ولإيقاف حروب خطوط التقسيم الحضاري بين دول أو جماعات داخل حضارتها .
الثالث :قانون العوامل المشتركة : لا بد ان تبحث شعوب جميع الحضارات عن تلك القيم والمؤسسات والممارسات المشتركة بينهم وبين شعوب الحضارات الأخرى وأن تقوم بتوسيعها
((من أهم محاور الكتاب أيضا هو رصده للصراع بين الإسلام والمسيحية على مدى قرون عديدة عبر التاريخ ومعالجته للصحوة الإسلامية الحالية من جيش محمد في أندونسيا الى نيجيريا الى الشيشان الى البلدان العربية وتحذيره الغرب من التدخل بشؤون المسلمين على طريقة أمريكا والتي ستدفع نحو الصدام, وهو ما قرأه هينتغتون بعيني نبي, حيث وقع الصدام في قلب أمريكا أوائل هذا القرن بعد سنوات معدودة من صدور كتابه .
مع ذلك يتهمه أمثال قانصوه بأنه يروج للأصولية الاسلامية مع أنه دعا في كتابه لقطع الطريق عليها بإقامة نظام عالمي جديد يقوم على الحوار بين الحضارات, عنوانه مجلس أمن جديد تكون فيه الحضارة الاسلامية ممثلة بدولة مركزية أو أكثر تتمتع بحق الفيتو فيه !!!
المفكر برهان غليون يرى (( أن فكرتي صراع الحضارات وحوارها معا ليست فكرتين علميتين وإنما فكرتان إيديولوجيتان تسعيان بالنسبة للأولى الى تبرير وإضفاء الشرعية على نزوع أمريكا إلى إعادة ترتيب العالم على أساس ترسيخ سيطرتها الأحادية وكسر مقاومة العالم العربي والإسلامي ) كما جاء في كتابه ص 81 ,
وانا أرى ان اتهامه للكاتب الأمريكي ينطلق من أرضية أيديولوجية أكثر مما هي أرضية علمية , ولو غلب العلم على الأيديولوجيا لرأى الكثير من الجوانب المشتركة بينهما وخاصة دعوة كل منهما الى نظام عالمي جديد يريده غليون كما جاء في كتابه ص52 (( والسؤال المطروح علينا في مواجهة العولمة في السنوات القادمة هو: هل سننجح في بلورة إستراتيجية ليست خاضعة بالمطلق لمنطق السوق والربح ؟ وبالتالي هل سيكون الفاعلون الرئيسيون في إستراتيجية العولمة مستعدين لأخذ مصالح جميع المجتمعات بالاعتبار وفي التعامل مع أبناء الجنس البشري كأعضاء في جماعة واحدة , ام اننا سنذهب الى حروب طاحنة لا نهاية لها.)) ويريده هنتنغتون
كما جاء في نهاية كتابه ص 512 (( وباختصار , فإن تجنب حروب رئيسية بين الحضارات في الحقبة القادمة يتطلب أن تحجم دول المركز عن التدخل في صراعات الحضارات الأخرى . وسوف تجد بعض الدول بلا شك صعوبة في قبول هذه الحقيقة . وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية .
في الحقبة الناشئة صدام الحضارات هو الخطر الأكثر تهديدا للسلام العالمي , والضمان الأكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم على الحضارات ))
ترى متى ينظر مفكرينا في الشرق العربي والإسلامي نظرة موضوعية لتراث وتاريخ وحضارة أمريكا والغرب نظرة موضوعية يجعلها تتكامل مع ثقافة وتراث وحضارة الشعوب في العالم ؟ وهو ما يخدم قضايانا العربية والإسلامية أكثر بكثير من العزف على وتر الصراع الذي ساد بينهما في الماضي.
*اللاذقية – صحيفة الحوار المتمدن