غريزة حجب المرأة
هناك غريزة ذكورية قوية لا يمكن بالتحديد وضع اليد على جذورها، فهي كانت دوما سمة للذكر ومرجع لسيادته العدوانية، إنها غريزة إخضاع الجنس الآخر، والسيطرة عليه واستعماله في الحياة اليومية المتعلقة بتفاصيل إعادة إنتاج اليومي بتعبه وراحته، واستعماله أيضا في اقتصاد المتعة.
ولقد وجدت هذه الغريزة القوية والمنتشرة في جسم المجتمع طريقة لتتربع على مكونات السلطة. فهذه الأخيرة أيضا ذكورية كما هي وسائل وأدوات واستراتيجيات الحرب. ولقد عرف الرجال تاريخيا باحتكار العنف وأدواته. ومن المثير للإنتنباه في ثقافة العرب المسلمين اتهام المرأة بالذات بالدهاء والمكر والخداع، أي إصباغ الصفات الشيطانية عليها لهدف أساسي وهو تبرير معاملتها معاملة سيئة. إن القاتل هنا يهيئ المجال لممارسة القتل بدهاء، فيشوه العدو المفترض وينشر حوله الأكاذيب والبهتان حتى لا يجد مقاومة لعمليته الوحشية.
وإذا كان تاريخ البشر مليئا بالمعاملة السيئة وغير الإنسانية للمرأة، ابتداء من تحويلها إلى قربان يلقى به في النهم والبحر، ومرورا بتحميلها مسؤولية الغواية والإغراء، واتهامها بالسحر والشعوذة، واعتبارها عضوا فعالا في أسرة الشياطين، دون نسيان الختان المفروض عليها، وقبل ذلك وضع قفل في فرجها إبان سفر الرجل وحتى عودته حماية لعرضه… إذا كان كل ذلك يشهد بحيوانية التعامل مع المرأة ووحشيته، فلقد استمر الوضع حتى الآن بشكل مغاير عبر الرغبة القوية في “حجب المرأة”. إنها أقوى من رغبة، إنها غريزة، أي اندفاع قوي وأعمى لا يبصر شيئا ولا يريد إبصار شيء مما قد يدفع إلى التفكير والتدبر في لا معقولية هذا الفعل.
ما الذي يعنيه حجب المرأة؟ يعني ذلك فصلا عنصريا قويا داخل المجتمع بين الجنسين، وجعل الجنس الذي عليه أن يحجب مصدرا للفتنة والغواية والإغراء، وتبرئة ذمة الجنس الذي نصب نفسه مسؤولا باسم التاريخ والدين والشرف والقوة والفحولة… عبر تطبيق بنود الفصل والسهر على احترامها ومعاقبة من يخالفها.
فمن العربية السعودية التي تعج ثقافتها بالنفعية المقيتة، التي تجعل نفس الفتاة سجينة في قطعة ثوب سوداء واحدة تلف فيها كالكفن الدنيوي، ومتحررة عارية في شوارع لندن ونيويورك… أي تدبير وتقنين وتعميق انفصام سيكولوجية شعب بأكمله… من العربية السعودية حتى إمارة الملا عمر وطالبان بأفغانستان التي أريد لها أن تتحول من دولة عصرية تدور في فلك الاتحاد السوفييتي آنذاك إلى إمارة يدمر فيها تمثال تاريخي لبوذا وتحرم فيها الموسيقى والصور وتطرد النساء من العمل ليتم سجنهن في بيوتهن، وتعفى فيها لحى الذكور ويصبح الزي الخارجي دينا رسميا…
يتم استبدال المعرفة والإحساس الصادق والثقة والحميمية والحياة الخاصة إلى مجرد “ما يبدو ويظهر” إلى مجرد “ما يصدم العين”، أي “يصبح الدين هو ما تراه العين”، وهكذا يصبح المشكل “لا تاريخيا” يلجأ لاستعمال الدين لتدعيم وتبرير “حجب المرأة” عن الفضاء العام وضمان السيطرة الذكورية على هذا الفضاء بشكل مطلق.
لكن حيلة الذكور واهية، لأن المشكل الذي يراد حله هو في الظاهر “إثارة شهوة الرجال”، وبدل التفكير في هذه الإثارة عند الرجل ذاته ، والبحث مثل بقية الشعوب المتحضرة عن طرق معقولة لتنظيم هذه الغريزة يتم البحث عن كبش فداء هو جسم المرأة…
لكن حجب جسد المرأة يذكي الرغبة فيها ويقوي الافتتان بها وهذا ما تشهد عليه المؤشرات الجنسية العديدة ابتداء من لغة الشتم الجنسية وانتهاء بتضخم الخطب الدينية حول هذا الموضوع.
ولحجب جسد المرأة، اخترع الحجاب الذي يفرض على المرأة عند البلوغ حسب المذهب الشافعي، ويقتضي ستر جسم المرأة كله ما عدا الوجه والكفين، وهذا يعني أنه يحرم النظر إلى لون بشرة المرأة من فوق اللباس…
ثم اخترع النقاب الذي هو قطعة ثوب كبيرة بمثابة حجاب كبير يغطي الجسد كله بما في ذلك الوجه ما عدا العينين الذين يبرزان من خلال فتحتين صغيرتين بحجمهما…
والنقاب شبيه بالبرقع، لأن الاختلاف البسيط بينهما هو أن البرقع يفرض حجب العينين أيضا عبر تغطيتهما بشبكة من ثوب تسدل فوق غطاء الوجه حيث يبدو الوجه معتقلا داخل قفص حديدي. ولعل هذه الرمزية قوية مما يجعل الحجاب والنقاب والبرقع سجونا لحجب جسد المرأة بالدرجة الأولى حتى يحس الذكر بأنه ليس مسؤولا عن تفاقم غرائزه الطبيعية وحتى يظل واثقا من نقاوته وبراءته…
إن مسالة حجب جسد المرأة تثير عدة قضايا إشكالية من بينها التعامل مع الدين وتاريخية الملابس النسائية، ومساألة الحرية وقضية المرأة وسيطرة اللاوعي والأمن داخل الجماعة من خلال الصور في وثائق الهوية، ومفهوم الجنس في الثقافة التقليدية واستمرارية أفكار معادية لحقوق الإنسان في تنظيم الفضاء الاجتماعي…
يريد الذكر من خلال الحجاب والنقاب والبرقع تأكيد الماضي في الحاضر، وضمان استمرارية المرأة في الخدمة وتمييزها سلبيا، بجعلها بدون معالم إنسانية ومضاعفة السجن، من السجن داخل المنزل إلى السجن داخل النقاب والبرقع والحجاب… مما يحرم المرأة من ممارسة حقوقها المختلفة كمواطنة
لا يتعلق الأمر إذن بحرية اللباس ولا حتى بممارسة طقوس المعتقدات…، بل إن الأمر في جوهره يمس الكائن البشري والنظر إلى المسألة من منظور تاريخي أساسه استغلال الذكر لتفوقه وتسلطه…
محمد الهلالي