ما أدراك ما الفساد ؟
لثورة الفكر تاريخ يحدثنا بأن ألف ألف مسيح دونها صلبا (ألجواهري ).
وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل ( المتنبي) .
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى – عدوا له ما من صداقته بد ( المتنبي أيضا) .
أسمع خفق أجنحة …. سلاما للحياة (سعدي يوسف) .
لن نقول : ما أدراك ما الفساد ؟ . لأن الكلّ يعاني منه, ويذوقه و ذاقه, في كل أمور الحياة التي باتت لا تُطاق لأنّ ما نعنيهم ( عاثوا في الأرض فسادا ). حتى أصبح الفسادُ هواءً نتنفسُه, لكن هيهات للفاسد, إنه لا يستطيع أن يُنجبَ إلا قليلا على شاكلته, فباتَ الفاسدُ حزيناً كئيباً لأنه لم يُغيّرْ إلا من القليل أقلَّ, وكان يُريد أن يكون الكلُّ مثله. أو على الأقل شبيهه , من المُجدي أن تتطوّرَ عقوبة الفاسد إذا عرفنا أنّ تاريخ البشرية يحكي عن ) خوزقة ) الفاسد , وهي تتطوّر فعلا باتجاه مُغاير وعجيب : الفاسدُ يُكافأُ لينعمَ بجنان الأرض , ويسرح ويمرح مُبجّلاً , وتنحني الرؤوسُ احتراماً له , ومن يتخوزق هو: (نحن ) , ألسنا في بلاد العجائب .
الفاسدُ يملك غباءً لا يتصوره غبيٌّ خُلقا, فهو لم يكن يملك فيما سبق لا صفراءَ ولا زرقاء ولا بيضاء ولا حمراء , لكنه امتلكها كلها بغفلةٍ من الزمن , ولأنه لم يُحاسَب في بدايته , فمدّ رجله وبات يسرق وينهب ويسطو ويبتز الناسَ أجمعين دونَ رقيب أو عتيد , وينظر إلى نفسه , وكأنه مُفوضٌ بالتحكّم بالكون و يسيّر أمورَ الخلق بما يرغبُ ويشتهي هو لا (هم ), هذا الفاسد يملك مبنىً رُخاميا رحباً يوجعُ العينَ , ويقطع النفس , ويوقف القلب , ويزداد هذا الفاسد قُبحاً, ويظنُّ بأنّ الناسَ يُصدّقونه , يكتب فوق الباب ( الخارجي ) على رخام مستورد و بريشة خطاط ليس من بلده : ( هذا من فضل ربي ) وله مزارع و عقارات وآليات ,( وربما زوجات في السر) , وعلى هذه كلها علّقَ نعلَ بغلٍ , و ما أشبهه بذاك البغل , ولأنه يملك أموالا ( منقولة وغير منقولة ) ولا يضعُها في بنوكٍ لا تُزيدها إلا قليلاُ وآجلاً , بل يستثمرها بدهاء ويتعامل بالربا , بل هو مَن أتى بالربا إلى مدينتنا , لأنّ الربا تُزيدها كثيرا وعاجلاً , كان يمكن القول قبل أي شيء أنه ( مُتديّن ) , و لا تفوته صلاةٌ , بل يُطبّقُ على نفسه : ( الصلاة في وقتها ) , وتحمل يدُه السميكة البيضاء , الخشنة السوداء سابقا ( مسبحة ) متواضعة , قلنا بأن الفاسد حرٌّ طليق لا يُحاسَب , بل يُحاسِب . ولذلك ليس بمقدور أحد أنْ يقول له ( من أين لك هذا ؟ ) إلا في السر,
الفاسد أينما ولى وجهه , فمباحٌ له كلُّ شيء , يستولي على ما تشتهيه نفسُه من أي محل دون إن يُحاسِب البائع , أو يُحاسبه البائع الذي خسر بما لا يستطيع تعويضه خلال أسبوع , قد يكون البائعُ يملك صفته , فيرتاح لما أخذه , وهو خليّ البال مُرتاحُه , لأنّ الفاسد زفّ له ( بُشرى سارة ) بأن السمن سيزداد سعرُه أضعافا بعد يومين , فيُخبئ كل ما عنده ليزداد ربحه أضعافا مُضاعفة , و يقيم هذا البائع وليمة له ليتحدث له عن أرباحه ضاحكين ثانيا , و مُستهزئين بالناس أولا , السؤال يقول : هل رأيتم شرسا أو زنيما أو داعراً مثلهما . يأتي الجواب داعراً زنيماً شرساً : نعم و لا .
الفاسد يُشكّكُ بكل القيم والقوانين التي تُفضي بالناس إلى الإحساس بالكرامة , يُشكك فيها كي يطعن بالمال العام , فها هو الفاسد يحلُّ ويُربط بماله الفاسد جلّ مشاكل وعوائق البعض الذين يلتجئون إليه عوضا عن القوانين , ولأن وضعه بهذه الضخامة , فيعطي لنفسه أبهة ويتحدث بما لا مجالَ للشكّ فيه بأنه رجل عصاميٌّ …مثالي , بجب أن يُقتدى ويُهتدى بآرائه و فكره النّير ( والنِير ) , يقف مُرشِدا يقول للناس أمورَ دنياهم : فلتكن الأمانة والثقة والغيرية والإيثار آخر ما تفكرون به , ويطلب منا أن نفكر بمستقبل أولادنا , وأن نوّمن لكل واحد منهم شقة ليس في مدينتنا الميتة طبعا , بل في المدن الأخرى , لأن المستقبل فيها , حتى وإن كان المالُ المصروفُ بسخاء على الشقق والعمارات مسروقا ومنهوبا من المال العام ( مال الدولة ) ولم يكتفِ بسرقاته , ولم يصرّحْ ولم يُحاسَب عليها , بل يتمادى ليلقّنَ الناس دروسا في الفساد , ويزرع في نفوسنا أخلاقا , وقيما تُخالف ما تلقيناها في أدبياتنا , والأمرُّ أنه استطاع أن يسرق كل ما هو جميل في أرواحنا .
من الحكايات الشعبية الطريفة حكاية ( يأجوج و مأجوج ) التي تقول إن كل جائع يأخذ من أيديهما خُبزا , فسوف يكون تابعا لهما , وقد جاء في المثل : ( جوّع كلبكَ يتبعكَ ) والتفسير الشعبي لمثل حالتنا أن (يأجوج ومأجوج )هم المرابون و الفاسدون الذين يجوّعون الكثيرين كي يكونوا تابعين لهم , ومتبعين خُطاهم يستجدون منهم مالا يُسدد أضعافا في (1/1) أو 1/8 – من كل عام ) ولكن هناك حالات قد تكون في نظرهم شاذة : أن القابضين بأيديهم على الجمر , هم الجائعون والشذاذ والبلهاء .
تجاه هذه المعاناة المستشرية نجد أن بعض السياسيين الذين أناروا مدينتنا باتوا الآن مُهمشين أمام سطوة وقدرة الفاسد على إدارة الحوارات التي تُجرى في المجالس التي يتحدث الفاسد فيها , وكأن كلامه درر جاد زمنه به عليه , وبَخل به على ذاك السياسي والمثقف الذي تباهتْ به مدينتنا , إن ثقافة الفاسد كانت شرسة واستطاعتْ أن تحتل الشعلة المتوقدة المنيرة التي خرّجت أجيالا , ونقصد السياسيين والمثقفين الذين هجّرتهم ثقافة الفساد , وبات أولئك نجوما بعيدة في بلدان المهجر , لكن نجوما مُضيئة , ومشعة , هل هذه هي ما جلبته لنا ثقافة الفساد ؟ الجواب : كلا . إن ثقافة الفاسد تُريد بل تلحّ أن تقتل الوطنية فينا , بل يُخيل إليها .
وصل الأمر بالفساد أن يُلاحقنا حتى في المرض ( وجميعنا مرضى , بل موتى بطريقةٍ ما ) فبتنا نفتقد الأدوية التي من حقنا أن نتسلمها , لكن هناك من يُسلّم تلك الأدوية إلى مَن يبيعها الضعفَ ضعفين (بل الصاع صاعين ), هناك حالات يكون المريض فيها واحدا وبعد العودة من المستوصف يصبح المريض اثنين : المريض والمرافق الذي تلقى إهمالا من الطبيب المناوب ( هذا إذا كان مناوبا ) , وغالبا نجد الطبيب مناوبا في عيادته في وقت يجب أن يكون في المستوصف , حين نترجم الحالات السابقة لا نجد أنفسنا مرضى , بل قتلى , وقد أصابنا – من هول ما رأيناه – اليأس وقتل روح التفاؤل بل وقتل الإبداع فينا , ولأجل ذلك نرى عجائب الدنيا في مدينتنا حيث ثمة كفاءاتٌ يجب أن تتبوأ مراتبَ خدمية هامة نجدها في الدرك , وما يناقض ذلك , ثمة ( كفاءات ) لا قيمة فكرية واجتماعية وثقافية لها , ومع ذلك في يدها الحلُّ والربط .
لقد حطم المُفسدُ عندنا خصائصَ الفساد التي تقول التكتمَ والسرية فيما يحصل بين الراشي والمرتشي. ويحسب الفاسد الراشي ( زبونا ) تصيده بصيد ثمين ليس في الخفاء , وإنما في وضَح النهار , بل وفي مكتبه , بل ويطلب منه الرشوة علنا , بل يساومُه , بل يمدّ يده إليه أمام الملأ, بل يصرخ في وجهه ويسبُّه في داخله , وهذا الراشي صامتٌ مقهورٌ يقبل من المرتشي حتى الصفعات , المهم بالنسبة له أن ينهي ما جاء من أجله , خاصة إذا كان هذا الراشي ( الزبون ) من خارج مدينتنا , الراشي الذي نقصده هو( نحن ), ولا علاقة لنا بعمالقة الرشاة , أبعدنا اللهُ عنهم .
لم يعد المفسد كلاسيكيا , فقد بات موديرناً , لا يقبل أن يكون موبايله من سامسونغ , و ساعته اورينت , ومذياعه سوني , وتلفازه شارب , بل أن تكون كل أجهزته و ( ألته ) من عائلة واحدة : ( عائلة سامسونغ تُرحب بكم ) . ونفس هذا الفاسد يرفع عقيرته عالياً: قاطعوا البضائع الأمريكية , وهذا الفاسد يمتعض من البضاعة الوطنية , ويبيعها بثمن بخس قي أقرب سوق شعبي شاذ ( سوق الحرامية : إن كنا في دمشق ) , ويستهزئ بماركة (سيرونيكس )التي ملأت بيوتنا ,
ما نخافه قد حصل, ها هو الفاسد يصرخ في وجهنا إن عاتبناه بملامحنا, لا بأفواهنا, يصرخ: (اشتكِ لمَنْ تريد) ؟ ! أيها الفاسد نصرخ في وجهك بكل أفواهنا: لك الله, إنه يُمهل ولا يُهمل .
عبد اللطيف الحسيني
غسان جان كير