تركيا من العمق الطوراني صوب آسيا إلى العمق الاستراتيجي صوب العرب
قد يستغرب بعض المراقبين السياسيين للسرعة التي تحوّلت بها السياسة التركية بدرجة واضحة تجاه العرب، في ظل الترويكا الحاكمة في انقره اليوم (غول، أردوغان، داوود أوغلو)، ولكن هذا الانقلاب الكبير كان متوقعاً، منذ أن زج السيد أردوغان أهم مجموعة فاشية وعسكرية معادية لأفكاره الدينية في السجن، وقدّم غيرهم للمحاكمة، بعد أن أجرى اصلاحات دستورية وقضائية هامة في البلاد… وخرج عن المألوف التركي بصدد العلاقة مع اسرائيل…
وبتعيين السيد داوود أوغلو كمهندس للسياسة الخارجية، بدت تركيا التي سارت على النهج الأتاتوركي منذ عام 1923، وكأنها تتمزّق داخلياً وسياسياً، وكل شق يذهب باتجاه معين، العلماني يدخل تحت ابط الأوربيين والاسلامي يعود إلى أحضان”الأمة” بعد طول فراق وهجران… ويبكي أسفاً ولوعةً على تركها العباءة والعمامة وسعيها الخائب للبس البرنيطة والجينز…وهكذا يتصوّر المرء ما عليه السيناريو الجديد للحكم في تركيا الان، بعد أن خذلت أوروبا الأتراك، ووضعت العديد من الحواجز أمام انتسابهم إلى العالم الغربي، وذكّرتهم بأنهم شعب آسيوي لاعلاقة له بأوروبا…رغم أن ضلعاً من أضلاع تركيا يقع فعلاً في القارة الأوروبية، وهو الضلع الذي تم اغتصابه من البلغار واليونان فيما مضى، في حين أن الضلوع الآسيوية من تركيا مغتصبة من الكورد والعرب والأرمن واليونان، فالأتراك موطنهم تركستان وسهول آسيا الوسطى تاريخياً…
السيد داوود أوغلو لخّص سياسته في محاضرة له بمصر في خريف العام الماضي بأنها سياسة “تصفير المشاكل” أي سياسة “نو بروبليم” مع الجيران، بل مع البعيدين أيضاً، ولكن في الحقيقة ازدادت مشاكل تركيا منذ صعود نجم هذا السياسي الثعلب الذي يسمى ب”كيسنجر تركيا”، ومن بين تلك المشاكل، عدم وضوح الرؤية المستقبلية الشاملة للمتغيرات في السياسة الخارجية التركية، فمن جهة يدعو السيد داوود أوغلو الزعيم الكوردي البارز، رئيس اقليم كوردستان العراق، السيد مسعود بارزاني، ويناديه ب”كاك مسعود” أي (الأخ الأكبر) بالكوردي، وفي الوقت ذاته يختفي العلم العراقي أو الكوردي من المؤتمر الصحافي المشترك له مع الرئيس الكوردي المعترف به رسمياً في العراق وفي تركيا أيضاً، كما أنه يمدّ يديه “للسلام!” مع الكورد، في حين تقصف طائراته قرى وأرياف كوردستان العراق بشكل متواصل…
أمّا رئيس وزراء تركيا، السيد رجب طيب أردوغان، النجم الأكثر سطوعاً في العالم الإسلامي من أي زعيم آخر اليوم، فإنه يقول كلاماً كهذا في آخر ملتقى للتجارة والاقتصاد في اسطنبول:” ان تركيا هي سوريا وسوريا هي تركيا، وعلى المنوال نفسه فإن تركيا هي لبنان ولبنان هو تركيا.” ويعلن بأنه لن يتخلّى عن شعب غزة وسيخترق الحصار المفروض عليه لأنه لايرى فارقاً بين شعبه التركي والشعب الفلسطيني، ولكنه في الوقت ذاته يؤكّد على أنه لن يلغي أي اتفاقية عسكرية تركية – اسرائيلية، وكأن تلك الاتفاقيات الموقّعة بين الدولتين اللتين تلتقيان في اطار علاقات دولية أعمق وأوسع باعتبار تركيا عضو هام في حلف الناتو، تخدم “وحدة تركيا وسوريا!” التي يتحدّث عنها السيد أردوغان، وليس وحدة تركيا مع أعداء سوريا.
هذا الانقلاب الفجائي في السياسة التركية يذكّرنا بحديث السيد تورغوت أوزال الراحل، الرئيس الأسبق لتركيا، الكوردي الأصل، عن العمق القومي للأتراك باتجاه جمهوريات آسيا الوسطى، وذلك في محاولات مستمرة منه للضغط على أوروبا، بهدف انتزاع الاعتراف منها بأن تركيا هي السلّم الذي يمكن أن تصعد عليه للوصول إلى أسواق الدول الآسيوية، ذات الأعراق التركية…إلاّ أن أوروبا لم تعد في حاجة إلى تركيا بسبب فتح المعابر الروسية وغير الروسية أمامها للتوغل شرقاً في القارة الآسيوية الواسعة، وكذلك الأمر مع أمريكا التي لم تجد أي مقاومة جادة لتوسّعها التجاري والثقافي، وحتى العسكري إلى حد ما في ذات الدول، بدون أي حاجة إلى عون تركيا… فهل السيد أردوغان في محاولة تحريك قطعة حجر العلاقات العربية – التركية والعلاقات التركية – الايرانية بشكل مثير للضغط على الاتحاد الأوروبي؟ نعم، بالتأكيد، فتركيا لن تتخلّى بحكم مصالحها الاقتصادية والمالية المتطوّرة مع العالم الغربي عن هدف الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، وهي بممارسة ضغوط نفسية وسياسية على اسرائيل انما تريد تحريكها للقيام بدور الوسيط الايجابي في فتح الباب أمامها للدخول إلى “النادي الصليبي” كما سمى الزعيم التركي – الاسلامي الشهير نجم الدين أربكان الاتحاد الأوروبي من قبل.
ولكن لا يخفى أن السيد أردوغان ومن ورائه السيد وزير خارجيته داوود أوغلو والسيد رئيس الجمهورية عبد الله غول، االذين يشكلّون “الثلاثي المرح” في الأوساط السياسية التركية، يخشون هبوط شعبيتهم في الساحة التركية، إن لم يحققوا انتصارات اقتصادية أو سياسية حقيقية وملموسة سريعة، ولذلك فإنهم بحاجة إلى بعض البهارات الاسلامية لطبختهم الديبلوماسية، وهذا سيتحقق بتوجه واضح وواسع صوب العالم العربي الذي يجيد التصفيق والمديح منذ أيام شعراء الجاهلية لكل أمير يطلق سهماً ويصيب غزالة تجري…لاينكر أن هناك دوافع آيديولوجية “دينية” تدفع هذا الثلاثي التركي للعب دور العنصر “السنّي” المطلوب في الحفاظ على التوازن مع ايران الشيعية المنطلقة بقوّة في سائر المجالات نحو الأعلى، وبخاصة في المجال العسكري الذي يقلق بعض الأوساط العربية والاسرائيلية، ومن هذه الدوافع العمل على أن لا تصبح سوريا دولة شيعية في ظل استمرار حكم العائلة الأسدية العلوية، التي مهدت الطريق ولا تزال أمام التشييع في البلاد وتدعمه بشكل سافر… لذلك فإنّ أي نشاط تركي في الاتجاه المعاكس لايران في المنطقة سيكون مقبولاً ومحبوباً من قبل أطراف عربية عديدة، وهذا يعني دعم “حماس” أيضاً كبديل ل”حزب ألله”، وهكذا فإنّ تركيا التي تحتاج للأموال العربية لتطوير مشاريعها المائية الضخمة وتطوير فعالياتها الاقتصادية ودرءاً للأزمة المالية المستفحلة أوروبياً وأمريكياً، انما تقوم بدور مطلوب منها، مقابل الشرب من الينابيع العربية المالية… وهنا نجد تداخلاً قوياً بين السياستين المالية والدينية في أنقره، والأتراك يجيدون ذلك من زمن طويل، فهم تجار ومتدينون في ذات الوقت، ولكن لا ندري إلى أي مدى سيسمح لهم الغرب الذي دعم تركيا منذ القضاء على “الرجل المريض” وإلى الآن، بأن يخرجها الإسلاميون من دائرة الوظيفة التي تم توظيف “الجمهورية التركية” بها. الانقلابات العسكرية مكروهة، ولكنها ليست الوسائل الفريدة في أيدي العالم الغربي لتأديب الخدم الرافض للأوامر…
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.