قراءة في نهضتين عربيتين (1) و (2)
يوزع العرب تاريخهم السياسي الحــديث على مراحل تفصل بين نهضتين، جرت أولاهما في مطالع القــرن التاســع عشر وانتهت بعد منتصفه بقليل، وثانيتهما في منتـصف القرن العــشرين وانتــهت في أوائل الثلث الأخير منـه. في هذا النوع من التحــقيب، تكون النــهضة الأولى، التي قادها محمد علي وابنه إبراهيم باشا، قد عــاشت قــرابة نصف قرن، بينما عاشت الثانية، التي حملت اسم جمال عبد الناصر وارتبطت به، حوالى عقدين ونيف.
إلى هذا، شهد تاريخ العرب الحديث نهضة فكرية، سبقت النهضتين السياسيتين وامتدت من الثلث الأول من القرن التاسع عشر إلى مطالع القرن العشرين، ركزت على تعريف العرب بالفكر الأوروبي الحديث، وخاصة منه ما اعتبره اليسار «الفكر البرجوازي»، ثم تواصلت في طور جديد عرفه الثلث الأول من هذا القرن وامتد حتى الربع الثالث منه، عبر عن نفسه في مدرسة فكرية / أيديولوجية غلب عليها الطابع القومي والاشتراكي، فشل حاملها السياسي من دول وأحزاب قومية واشتراكية في تحقيق وعوده حول تغيير الأمر الوطني والقومي القائم، مما أدى إلى استعادة أسئلة ومسائل النهضة الأولى، التي تمحورت أساسا حول ما يجب تداركه على صعيد الفكر من قضايا كالمواطنة وحقوق الإنسان والدستور والقانون وتنظيمات المجتمع والدولة، ليتاح لنا اللحاق بأوروبا على صعيد الواقع. لا حاجة إلى القول إن محاولتي النهضة السياسيتين بدأتا كلتاهما في مصر، وأن النهضتين الفكريتين انطلقتا أساسا من لبنان، ثم انتشرتا إلى مصر وبلاد الشام، وترتب عليهما تأسيس أحزاب وتيارات سياسية اعتبرت أدوات جديدة وفاعلة للعمل العام، المحلي/ الوطني، والعربي/ القومي.
عرف التاريخ الأوروبي فترة مديدة اتسمت بنهضة سياسية تلت نهضة فكرية/ معرفية دامت قروناً عديدة، شقت لها الطريق أو/ وتزامنت معها في بعض مراحلها. حققت النهضتان، وخاصة الفكرية منهما، انقلاباً نوعياً في وعي الواقع وإقامة شروط تغييره، بلغ ذروته في الثورة الفرنسية، التي قيل بحق إنها كانت من صنع روسو ومونتسكيو وهوبز ولوك، وأنها «الطور الثاني، الذي تحقق في الواقع، من ثورة جرت في ميدان الفكر» (هيجل). أما في تاريخنا الحديث، فقد قامت على الدوام هوة بين واقع الســياسة القـائم وفكر النهضة، وبين بنية وطابع الواقع وبنية وهوية هذا الفــكر. وبيـنما تعين الواقع السياسي بنظام تسلطي وفردي في كلتا حالتي النهضة السياسية، طالب الفكر بـ ـ وتركز على تقصي وتلمس سبل تحقيق الحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمواطن، ودقرطة في الدولة والمجــتمع. بهذا الافتراق بين الطابع السياسي لدولة تنشد التحــديث وتقـوم بتحقيقه، وهو سلطاني/ دولوي، وبين فكر النهضة، الذي قدم بديلا يناقض هذا الطابع، وربط التحديث بسلطة بديلة، وقع احتجاز مضاعف ومتبادل، فلا النخب المثقفة نجحت في إقناع النخبة الحاكمة بقبول التغيير المنشود، ولا هذه قبلت رهان التحديث المفتوح، المجتمعي والديموقراطي المنطلق والمآل، الذي قدمته هذه النخب، أو منحتها حرية الوصول إلى الشعب، خوفا من أن تحدث أفكارها تحولاً في وعيه يجعله حامل مشروع التغيير، على غرار ما وقع خلال التجربة الأوروبية، حيث مكنت الحرية الشعب من لعب دور حاسم في الشأن العام، خاصة إبان الثورة الفرنسية، التي اعتبرت نموذجاً تظاهر فيه عمق التغيير المطلوب من جهة، وفعل الفكر الملموس والحاسم من جهة أخرى.
أعتقد أن محاولة النهضة الأولى فشلت بسبب التناقض بين طابع الدولة ومسعى التحديث، الذي حاولت أن تنفرد بحمله وتجعله مقتصراً عليها بالأساس، فجاء تحديثاً ناقصاً، سلطوياً واستبدادياً، وقاد إلى نتائج احتجزت وأحبطت التحديث كمشروع شامل يطاول الدولة والسلطة والمجتمع، أهمها سقوط مصر ـ مركز ومنطلق مشروع التحديث السلطوي ـ تحت الاستعمار، الذي مكن نخبتها الحاكمة من إعادة إنتاج نفسها في إطاره وتحت حمايته. وكانت تجاربها وصراعاتها الأولى ضده قد أظهرت عجزها عن مواجهته أو تجاوزه، وأقنعــتها أن مصــيرها يرتبــط بتـجديد سلطانها بالتعـاون معه، وأن تحـديث المجتمع والدولة في حــاضنة النهضة الفكرية سيفضي إلى تقــويض سيطــرتها. باختبارها التحديث من فوق، السلطوي والجزئي، وجدت حركة النهضة نفســها في مواجهة تحد فشــلت عموما في مواجــهته، أجــبرها على التــحول من حركة فكرية/ معرفية مثلها مثقفون إلى حــركة سياسية ميــدانية ارتبط مصيرها بقدرتها على تحديــث وعي الشعب وتعبئته من أجل نضال وطني/ اجتماعي ينخرط فيه المواطنون، يتولى القيام بالانقلاب السياسي المنشود، القادر على كسر وتخطي تحالف النخبة الحاكمة مع القوى الخارجية، التي كانت قد تحولت في هذه الأثناء إلى احتلال استعماري داخلي.
كيف واجه الاحتلال ممكنات النهضة والتحديث الفكري؟. سبقت الإشارة إلى أنه تبنى تحديثاً بديلاً موضوعه وأداته السلطة وطبقات وقوى اجتماعية وفكرية حاملة لها، هدفه إعادة إنتاج النخبة الحاكمة في حاضنته ولخدمته، بينما عمل على ربط النخب المالكة بالسلطة. بذلك، استحال حدوث توافقات تاريخية بين النخب المختلفة خارج إطاره وضده، كما حدث في اليابان خلال الفترة ذاتها تقريباً من نهاية القرن التاسع عشر. ساعد التحديث السلطوي الاحتلال على أن يمسك من فوق، من مستوى الدولة والسلطة، بالشأن السياسي العام، ومكنه من تغيير وظيفة النخبة الحاكمة، التي حاولت بالأمس القريب ـ في عهد محمد علي وإبراهيم باشا ـ تحقيق مشروع يتجاوز حدود مصر إلى مجال أوسع يشاركها اللغة والدين والتاريخ والهوية، يمكن لاتحاده معها أو خضوعه لها أن يحدث انقلاباً في علاقات القوى الدولية وموازين القوى داخل الإقليم العربي، فصارت من الآن فصاعداً أداة حجبت أية نهضة، ووظفت قدراتها لمنع بلدها من تحديث نفسه في سياق وطني/شعبي/يعادي الهيمنة والسيطرة الخارجيتين، وينتشر منه إلى بقية البلدان العربية. هذا التبدل، الذي قلب دور النخبة الحاكمة رأسا على عقب، تطلب تحولاً هيكلياً في بنية النخب السياسية، وتعزيز وتوسيع النخب المالكة، التي كانت تنتج من فوق، وصارت الآن قاعدة السلطة وحاملها، وصار بوسعها حفظ الاستقرار الداخلي وإدارة مصر بالتعاون مع النخب الحاكمة، خدمة لبريطانيا، التي كان نائبها في مصر، اللورد كرومر، قد أجاب رداً على سؤال: كيف ستحكم مصر، بالقول: سأحكم من يحكمون مصر.
قبل الاحتلال، كانت النخبة الحاكمة منخرطة في مشروع نهضة اقتصادية وعسكرية وسياسية وعلمية، فغدا من الضروري عكس دورها، لتلعب دوراً يفرمل هذه النهضة ويحول دون وصولها إلى المجتمع، ويستبدلها بتحديث تابع يزيد فارق التقدم بين السلطة وبين مجتمعها، ويتيح لها القبض بيد قوية على بلدها، وتقويض جهود النخب المثقفة لوضع فكرها في خدمة واقع سياسي من نمط مختلف، يحمله الشعب عامة والطبقة الوسطى خاصة. بذلك، انقلبت أسرة محمد علي على مؤسسها، وتحولت من قوة تحديث لمصر وتوحيد للعرب إلى قوة محافظة ورجعية، وطدت دور ومكانة طبقة الملاك العقاريين، الرجعية أساساً والمعادية للتحديث العام، في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واكتفت بحكم مصر، التي فقدت وظيفتها العربية أو مارستها بطريقة ناقصة ومشوهة، مثلما حدث قبل الحرب العالمية الأولى، خلال الحقبة التي تم فيها الاتفاق على تقسيم المشرق العربي بين فرنسا وإنكلترا، وإعطاء فلسطين للصهاينة، ثم إبان ما سمي حرب فلسطين عام 1948، حيث بلغ هذا الدور ذروته. بانقلاب النخبة الحاكمة على مشروعها الأصلي، آل التحديث من مشروع تغييري متكامل إلى سلسلة تدابير وإجراءات جزئية ومتفرقة أجهضته وطوت صفحته. ولعل هذه المفارقة تظهر بأكثر صورها وضوحاً من خلال بناء دار الأوبرا، التي أنفقت عليها مبالغ طائلة من أموال الديون الأجنبية، وأقيمت لتقديم عرض موسيقي معين (أوبرا عايده للموسيقي الإيطالي فردي) ارتبط بمناسبة معينة (افتتاح قناة السويس)، بينما كانت نسبة سكان بيوت الطين والأميين تقارب الخمسة وتسعين في المئة من شعب مصر ! .
ساعد انقلاب النخبة المصرية الحاكمــة على دورها ومشروعها الاستعماريْن البريطاني والفرنسي على تشــطير المنطــقة العربية وتقسيمها ورسم حدود داخلية ومصطنعة فيها، والتهامــها قطعة بعد أخرى، بينما كان تحديث الســلطة والطبقة المالكة يغرق مــصر في حال شقها إلى عالمين: عالم نخب مالكة وحاكــمة يرفل في النعيم، ويتمتع بحماية القوات البريطانية المنتشرة في أرض الكنانة، وآخر يقاسي الأمرّين، يشمل الشعب، وخاصة منه الفلاحون والعمال ومعظم شرائح لفئات الوسطى.
[[[[[
ليس من قبيل المصادفة أن تكون محاولة النهــضة السياسية الثانية، التي بدأت في مصر مع ثورة عام 1952 بقيادة جــمال عبـد الناصر، قد بدأت بإزاحة النخبتين المصريتــين الحاكمة ثم المالكة، واستــعادت مكونات جوهرية من مشروع محمد علي السياسي، الداخلي والعربي، مع الأخذ بمطالب عبرت عنـها نقاط برنامج الثورة الست، وخاصة ما اتصل منها ببناء الديموقراطية السليمة، والرأسمــالية الوطــنية، والجيش الوطني القوي، ومراعاة فــارق الزمان واختلاف الأحــوال، والاهــتمام ببعض المفــردات الفــكرية الجــديدة كالعدالة والمســاواة وسيادة القانون والمواطنة، التي دخلت أو أدخلت إلى المشروع السياسي الجديد، لتضفي طابعاً شعبياً عليه يساعد على جسر الهوة بين النخبة الحاكمة والمجتمع.
على الصعيد الفكري، ابتعدت النهــضة الجديدة، بعد أعوام قليلة من قيام الثورة، عن مفردات رئيسة في مشــروع النهضة الفكرية الأول، اعتبرتها برجوازية أو رأسمالية أو ليبرالية فــات زمانها، رأت فيها أداة لإنتاج واقع سياسي مغاير للواقــع الذي أرادت الثورة بنــاءه، يجــدد تبعية المجتمـعات والدول العــربية، التي كانت قد نالت استــقلالها، للنظام الرأسمالي. في الوقت نفــسه، نشرت النهــضة الثانية رؤية سياسية اختلفت عن رؤية النهــضة الأولى بطابع أيــديولوجي أخــذ بالشق القومي والاشتراكي من مشــروع التــقدم الغربي، اعتــقاداً منه بأنه يجبّ المشروع الأول، الذي اعتبر رأسمالي المآل بــرجوازي الحامل، ويلغي الحاجة إلى تحقيق ركائزه ومكوناته، باحتواء مفــرداته الإيجابية في منظومتها وإدراجــها في مســتوى فكري أرفع يرقيها ويتيــح تأســيس نسق سيــاسي جــديد يتخطى الرأسمالــية وينتمي إلى مرحلة تاريخيــة تالــية لها. في مشروع النهضة الجديد، لم يكن هــناك، في زعم أنصاره، حاجة إلى المواطنة وحقوق الإنسان، وفصل السيادة الشــعبية عـن السلــطة الجديدة، لأنها لا تمثل فقط الجماعة الوطــنية، بل هــي هذه الجــماعة ذاتــها. لا حاجة أيضاً إلى فصل السلــطات، لأن ذلك يشق الدولة إلى قطاعات متباينة الوظائــف ويضــعف وحدة الجماعة السياسية والمجتــمعية. ليس من الــضروري كذلك أن تكون الحرية رافعة النسق السياسي، فهو يحققها بوصفه حـكم الضرورة والتعبير المشخص عن الحتمية التاريخية وقوانينــها الموضــوعية، المستقلة عن إرادة البشر، والقادرة على إلغائها في حالات كثيرة. أخيراً، لا حاجة إلى الديموقراطية باعتبارها حكم الشعب بالشعب وللشعب، فهي متحققة حكماً في النظــام الجديـد، وإن كان طابعها الشعبي يجعلها هنا مختلفة عن ديموقراطية البرجوازية، حكم القلة المشوه والذاهب حتماً إلى الفوضى.
ا
ميشال كيلو : قراءة في نهضتين عربيتين (2 من 2)
يوزع العرب تاريخهم السياسي الحــديث على مراحل تفصل بين نهضتين، جرت أولاهما في مطالع القــرن التاســع عشر وانتهت بعد منتصفه بقليل، وثانيتهما في منتـصف القرن العــشرين وانتــهت في أوائل الثلث الأخير منـه. في هذا النوع من التحــقيب، تكون النــهضة الأولى، التي قادها محمد علي وابنه إبراهيم باشا، قد عــاشت قــرابة نصف قرن، بينما عاشت الثانية، التي حملت اسم جمال عبد الناصر وارتبطت به، حوالى عقدين ونيف.
مع عجز فكر النهضة الأولى عن تحقيق منظومته في واقع السياسة، واستبعاده من مشروع النهضة الثانية، الفكري والسياسي، وقع أمران مهمان:
ـ لم تحقق القومية نفسها عندنا عبر تحقيق الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطن، كــما فعلت قومية أوروبا، التي بلورت مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان والمواطن وطبقتها وجعلتها ركيزتها وعلامتــها الفــارقة … بل قامت ببناء نسق سياسي معاد لها، لذلك حملت منذ ولادتها الأولى تشوها هيكليا فصلها عن منجزها وحاضنتــها الطبيعية: الحرية الفردية والشخصية والمواطنة وتاليا النظام الديموقراطي، كما فصلها عن المجتمع المدني ومسائله، التي لولاها لما كان هناك شيء اسمه قومية أو أوروبا حديثة. ولدت الحركة القومية السياسية عندنا في حاضنة غير ديموقراطية، ثم معادية للديموقراطية، فوقعت في مشكلات ومعضلات هيكلية تكوينية حالت دون انبساطها وتفتحها، وقوضت فاعليتها وقيدت قدرتها على تحقيق أي تقدم في المجال العربي، وأجبرتها على إعادة إنتاج نفسها في حاضنة الدولة القطرية، التي بنت أمجادها على التعهد بالقضاء عليها في أول فرصة، ومباشرة بعد استيلائها على الحكم.
ـ مع تبني الاشتراكية، واندماج الفكر القومي بالفكرة الاشتراكية، برزت نظرية تجعل النهضة على مرحلتين، تحدث السلطة في أولاهما، فتحدث هي المجتمع في ثانيتهما. في هذا المنظور، قيل إن وعي التغيير سينقل إلى المجتمع من النخب المثقفة والسياسية، وإن النخبة الحاكمة ستطبق أفكار النهضة القومية/ الاشتراكية، التي ستفقدها طابعها كأقلية، وستحولها إلى طليعة يتوقف على تحديثها نجاح الرهان التحديثي، التقدمي، القومي/ الاشتراكي بأسره. هنا، كان فساد السلطة أو فشلها أو بقاؤها متأخرة وتسلطية يعني نهاية النهضة، وبداية أزمة تاريخية لا علاج لها غير تغيير يطاول النخب المثقفة والمالكة والحاكمة، وعلاقاتها بعضها مع بعض، يتم في إطار مشروع إنساني يختلف في طبيعته ومراميه عن مشروع التحديث القومي/ الاشتراكي. لا داعي للقول إن تحديث المجتمع والدولة انطلاقا من السلطة المحدثة قد انتهى إلى فشل أخذ تدريجا شكل انهيار شامل، بدأ بالنخبة الحاكمة، التي عجزت عن الخروج من حلقة مفرغة دائرتها الأولى «سلطة حديثة»، لكنها لم تحدّث شيئا غير طابعها الأمني وأجهزتها القمعية، ودائرتها الثانية «مجتمع حديث»، لكنه تفكك وتذرر وشحن بتناقضات حولته إلى عصب ما قبل مجتمعية، تتعايش بقوة سلطة لم يعد لديها ما تفعله غير إدامة ذاتها عبر انقسامات مجتمعها، وتردي أوضاعه العامة، وأجهزتها القهرية.
لم تتحول السلطة إلى قاطرة تجر وراءها مجتمعا تتولى تحديثه، بل صارت العائق الرئيس في وجه تقدمه ووحدته الداخلية والعربية، وفقدت ما يذكر بوعود ورهان النهضة، السياسية والفكرية، وانقلبت إلى ما كان ياســين الحافظ يسميه «تقلـيدية جــديدة» و«تأخراكية»: نظام تقــليدي ينتج التأخر باسم القومية والاشتراكيــة، تنافس مع «تأخرالية»: نظام تقليدي ينتج التــأخر باسم الرأسمــالية. ولم يعد لدى السلطة أي وعد تقدمه إلى المجتمع، بعد أن فقدت وظائفها التنموية والتحــررية، واكتفت من السيــاسة بالحيلولة بين المواطن وبين وعي النسق السياسي السائد، وبينه وبين تغيير الواقع الذي يرزح تحت أعبائه. هنا أيضا، انقلب مشروع التحديث على احتجاز عملي للمجتمع، وأنتجت النخبة الحاكمة نفسها في إطار السلطة وبوسائلها، وتحول التقدم إلى محافظة ورجعية تقاوم التغيير، من أي نوع كان وعلى يد أي جهة جاء.
لئن كانت السلطة هي الحقل الذي شهد، بعد فشل النهضة السياسية الأولى، تبدلا هيكليا عميقا في بنيتها وأهدافها، اعتبر ضروريا لمنعها من إطلاق أو استئناف مشروع تحديثي يستنهض المجتمع ويخرجه من ركوده وزمنه التكراري، فإن فشل مشروع النهضة الثانية، الذي نعيش فيه، وقع على صعيدي الفكر والممارسة السياسية في آن معا، فكان فشله أكثر شمولا وحدة من فشل المشروع الأول، خاصة أنه تزامن مع تحولات هيكلية أصابت الرأسمالية والنظام الدولي، عبرت عنها ثورة جديدة هي الثورة العلمية التقنية وثورة المعلوماتية، التي عمقت كثيرا الهوة التي تفصلنا عن العالم، وضاعفت تأخرنا، فلم يعد سياسيا وفكريا وحسب، ولم يعد مقتصرا على العجز عن إنجاز ثورة صناعية، وإنما صار تكنولوجيا ومعلوماتيا أيضا، بحيث يصح القول: إننا خرجنا صفر اليدين تقريبا من العصر السابق، ونخرج اليوم من عصرنا، دون أن نتمكن من العودة إلى الزمن الذي كنا فيه قبله، مع انه يأخذنا إلى حال من الانحطاط والتدهور لا تتوقف آليات عمل النظام الدولي عن تفعيلها وتجديدها، فهي قيد يغل أيدينا ويمنعنا من إقامة أي شرط من شروط تقدمنا، بينما تنتج تشابكاته أنماطا جديدة ومتنوعة من التأخر لا قبل لنا بالتحرر منها أو بتخفيف غلوائها، إن بقينا على حالنا الراهن.
في الفشل الأول، كان اندماج السلــطة في المشـروع الاستعماري شرط تحولها إلى أداة محدثة للنهب والإخضاع «الوطني»، وشرط إعادة إنتاجها في إطار هذا المشروع. أما اليوم، فإن الفشل يقود إلى تهتك واهتراء جسد الأمة ذاته، كي لا يحمل من اليوم فصاعدا أو في أي يوم مشروع تحرر أو نهضة جديد، وحتى تغرق نخبها في العجز عن بلورة رؤية أو مصالح مشتركة، متقاربة أو متشابهة، وتلمس سبل يستطيع المجتمع وقف تدهوره وتفتته بمعونتها، وتحويل السلطة من أداة حكم بيد قلة تمسك بخناق الدولة وتمنعها من ممارسة وظائفها، إلى سلطة دولة هي تعبير في مستوى النسق السياسي عن مجتمع المواطنين الأحرار والمنتجين، حيث الديموقراطية حقيقة هذا النسق، والخضوع للقانون كسيد وحيد في الدولة حقيقة الديموقراطية. إذا ما تابعنا فعل هذا الفشل في واقعنا، لوجدناه وراء أخطار ثلاثة هي :
ـ خطر التفكك القائم والمتنامي بسرعة بين الدول والبلدان العربية، التي تتحول أكثر فأكثر إلى بلدان متعادية/ متصارعة/ متحاربة، تفتح نخبها الحاكمة والسياسية المجال واسعا أمام القوى الإقليمية والدولية، القريبة منها والبعيدة، وتلتحق بتشكيلات دولية وإقليمية لا سلطة لها عليها ولا قرار لها فيها، مع أن العرب هم الذين سيدفعون الأثمان الفادحة لانتمائها إليها.
ـ خطر التفكك والعداء الداخلي القائم بين جميع نظم العرب وبين مجتمعاتها، وهو خطر يزداد تفاقما من يوم لآخر، حتى ليمكن تعريف زمننا الحالي بأنه زمن انعدام شرعية النظم العربية بسبب تناقض سياساتها وخياراتها ومصالحها مع خيارات ومصالح مجتمعاتها وشعوبها.
ـ أخيرا، وهذا هو الخــطر الأدهى والأكثــر إثارة للخــوف: خطر تفكك المجتمعات ذاتها وذهابها إلى حالة ما قبل مجتمعية تصير فيها ائتلافا يضم أقليات وزمر وفرق متناحرة، تستند السلطة الحديثة على بعضها، فهي سلطة تكوينات ما قبل دولوية / ما قبل مجتمعية، تلغي الدولة والمجتمع والشأن العام في آن معا.
بعد فشل النهضة الفكرية الثانية والسياسية الثانية، ظهر أنها لم تحقق أو تتضمن مكونات النهضة الأولى، بل أبطلتها بكل بساطة، وأن هذا سبب رئيس في فشلها. آية ذلك أن القومية لا تنجح دون المواطنة وحقوق الإنسان، وأنها ليست نقيضهما بل نتيجة من نتائج تحققهما في حاضنة الأمة، وأن الاشتراكية تنجح بالديموقراطية والمواطن الحر والمنتج والمجتمع المدني، وأن الدولة تنحط إلى مجرد سلطة، إذا لم تعبر عن هذا المجتمع، وأن السلطة، التي تضع نفسها فوق أو خارج القانون، لا تكون سلطة دولة، بل تسلط عصبوي. لقد أدى القفز عن المرحلة الديموقراطية من التطور إلى كسر عنق ما سمي «الثورة القومية / الاشتراكية»، وغدا جليا أن النهضة المدنية لا تتوقعن عبر تضمينها في غيرها، وأن إنضاجها وتحقيقها هما مرحلة تاريخية كاملة يتوقف على إنجازها تأسيس الطور التاريخي التالي، قوميا كان أم اشتراكيا أم إنسانيا، فإن تم اختصارها وتقليصها أو قطعها، كان الفشل من نصيب من يقفز من فوقها.
لو كان المواطن العربي حرا ومجتمعه مدنيا ونظامه السياسي تمثيليا وديموقراطيا، لما فشلت النهضة السياسية الأولى ثم الثانية، ولتكفل نجاح الأولى بجعل الثانية أيسر منالا وأكثر سهولة. أما القول: إن القومية والاشتراكية هما طور تاريخي أرقى من المرحلة البرجوازية/ المدنية، فلا بد من تجاوزها بالسرعة الممكنة من أجل الشروع في تحقيقهما، فهو خطأ من ألفه إلى يائه، وقد تسبب في كارثة الإخفاق المتراكم، التي يواجهها العرب وحاولت تلمس بعض علاماتها ونتائجها .
والآن، إلى السؤال التقليدي : ما العمل؟. بادئ ذي بدء، لا مفر من استعادة مسائل وأسئلة النهضة الفكرية الأولى، دون التخلي عن مسائل وأسئلة النهضة الثانية، مع مراعاة أن عصرنا الحالي يجعل تحقيقها رهنا بقدرتنا على تدقيقها، ومواكبة ما فيه من جديد وثوري، وإلا استحال توفر الشروط اللازمة لتلازم وتراكب مهام النهضتين الفكريتين وترجمتهما السياسية، وكان من المحال انزلاقنا التدريجي إلى وضع يوقعن متطلبات النهضة الأولى، دون أن يتخلى عن الثانية، القومية / الاشتراكية، مع أنها لم تعد مطروحة علينا اليوم.
يقف العرب أمام مهمة مزدوجة: تحقيق نهضة فكرية في واقعهم هي ثورته الأولى، من أجل إنجاز تغيير سياسي شامل هو ثورته الثانية. هل نخبنا الثقافية مستعدة لتلمس الحقيقة وقولها بصدق وتجرد ودون رياء أو نفاق أو أدلجة، لأنها الحقيقة وليس لأنها تخدم مصالح هذه الجهة أو تلك ؟. وهي هي مستعدة لربط فكرها بالمجتمع، من أجل تعميق معرفتها بالواقع ورفع وعيه إلى مستوى عصره وحاجاته؟. هذا هو الرهان، إنه أصعب الرهانات التي واجهتها نخبنا الثقافية في أي وقت. إنه، ربما لأول مرة في تاريخنا الحديث، رهان تجاوز الانقلاب السياسي إلى التحرر الإنساني، والإقلاع عن رؤية الإنسان بدلالة السياسة والسلطة، ورؤية كل شيء بدلالته!
……………
إلى هذا، شهد تاريخ العرب الحديث نهضة فكرية، سبقت النهضتين السياسيتين وامتدت من الثلث الأول من القرن التاسع عشر إلى مطالع القرن العشرين، ركزت على تعريف العرب بالفكر الأوروبي الحديث، وخاصة منه ما اعتبره اليسار «الفكر البرجوازي»، ثم تواصلت في طور جديد عرفه الثلث الأول من هذا القرن وامتد حتى الربع الثالث منه، عبر عن نفسه في مدرسة فكرية / أيديولوجية غلب عليها الطابع القومي والاشتراكي، فشل حاملها السياسي من دول وأحزاب قومية واشتراكية في تحقيق وعوده حول تغيير الأمر الوطني والقومي القائم، مما أدى إلى استعادة أسئلة ومسائل النهضة الأولى، التي تمحورت أساسا حول ما يجب تداركه على صعيد الفكر من قضايا كالمواطنة وحقوق الإنسان والدستور والقانون وتنظيمات المجتمع والدولة، ليتاح لنا اللحاق بأوروبا على صعيد الواقع. لا حاجة إلى القول إن محاولتي النهضة السياسيتين بدأتا كلتاهما في مصر، وأن النهضتين الفكريتين انطلقتا أساسا من لبنان، ثم انتشرتا إلى مصر وبلاد الشام، وترتب عليهما تأسيس أحزاب وتيارات سياسية اعتبرت أدوات جديدة وفاعلة للعمل العام، المحلي/ الوطني، والعربي/ القومي.
عرف التاريخ الأوروبي فترة مديدة اتسمت بنهضة سياسية تلت نهضة فكرية/ معرفية دامت قروناً عديدة، شقت لها الطريق أو/ وتزامنت معها في بعض مراحلها. حققت النهضتان، وخاصة الفكرية منهما، انقلاباً نوعياً في وعي الواقع وإقامة شروط تغييره، بلغ ذروته في الثورة الفرنسية، التي قيل بحق إنها كانت من صنع روسو ومونتسكيو وهوبز ولوك، وأنها «الطور الثاني، الذي تحقق في الواقع، من ثورة جرت في ميدان الفكر» (هيجل). أما في تاريخنا الحديث، فقد قامت على الدوام هوة بين واقع الســياسة القـائم وفكر النهضة، وبين بنية وطابع الواقع وبنية وهوية هذا الفــكر. وبيـنما تعين الواقع السياسي بنظام تسلطي وفردي في كلتا حالتي النهضة السياسية، طالب الفكر بـ ـ وتركز على تقصي وتلمس سبل تحقيق الحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمواطن، ودقرطة في الدولة والمجــتمع. بهذا الافتراق بين الطابع السياسي لدولة تنشد التحــديث وتقـوم بتحقيقه، وهو سلطاني/ دولوي، وبين فكر النهضة، الذي قدم بديلا يناقض هذا الطابع، وربط التحديث بسلطة بديلة، وقع احتجاز مضاعف ومتبادل، فلا النخب المثقفة نجحت في إقناع النخبة الحاكمة بقبول التغيير المنشود، ولا هذه قبلت رهان التحديث المفتوح، المجتمعي والديموقراطي المنطلق والمآل، الذي قدمته هذه النخب، أو منحتها حرية الوصول إلى الشعب، خوفا من أن تحدث أفكارها تحولاً في وعيه يجعله حامل مشروع التغيير، على غرار ما وقع خلال التجربة الأوروبية، حيث مكنت الحرية الشعب من لعب دور حاسم في الشأن العام، خاصة إبان الثورة الفرنسية، التي اعتبرت نموذجاً تظاهر فيه عمق التغيير المطلوب من جهة، وفعل الفكر الملموس والحاسم من جهة أخرى.
أعتقد أن محاولة النهضة الأولى فشلت بسبب التناقض بين طابع الدولة ومسعى التحديث، الذي حاولت أن تنفرد بحمله وتجعله مقتصراً عليها بالأساس، فجاء تحديثاً ناقصاً، سلطوياً واستبدادياً، وقاد إلى نتائج احتجزت وأحبطت التحديث كمشروع شامل يطاول الدولة والسلطة والمجتمع، أهمها سقوط مصر ـ مركز ومنطلق مشروع التحديث السلطوي ـ تحت الاستعمار، الذي مكن نخبتها الحاكمة من إعادة إنتاج نفسها في إطاره وتحت حمايته. وكانت تجاربها وصراعاتها الأولى ضده قد أظهرت عجزها عن مواجهته أو تجاوزه، وأقنعــتها أن مصــيرها يرتبــط بتـجديد سلطانها بالتعـاون معه، وأن تحـديث المجتمع والدولة في حــاضنة النهضة الفكرية سيفضي إلى تقــويض سيطــرتها. باختبارها التحديث من فوق، السلطوي والجزئي، وجدت حركة النهضة نفســها في مواجهة تحد فشــلت عموما في مواجــهته، أجــبرها على التــحول من حركة فكرية/ معرفية مثلها مثقفون إلى حــركة سياسية ميــدانية ارتبط مصيرها بقدرتها على تحديــث وعي الشعب وتعبئته من أجل نضال وطني/ اجتماعي ينخرط فيه المواطنون، يتولى القيام بالانقلاب السياسي المنشود، القادر على كسر وتخطي تحالف النخبة الحاكمة مع القوى الخارجية، التي كانت قد تحولت في هذه الأثناء إلى احتلال استعماري داخلي.
كيف واجه الاحتلال ممكنات النهضة والتحديث الفكري؟. سبقت الإشارة إلى أنه تبنى تحديثاً بديلاً موضوعه وأداته السلطة وطبقات وقوى اجتماعية وفكرية حاملة لها، هدفه إعادة إنتاج النخبة الحاكمة في حاضنته ولخدمته، بينما عمل على ربط النخب المالكة بالسلطة. بذلك، استحال حدوث توافقات تاريخية بين النخب المختلفة خارج إطاره وضده، كما حدث في اليابان خلال الفترة ذاتها تقريباً من نهاية القرن التاسع عشر. ساعد التحديث السلطوي الاحتلال على أن يمسك من فوق، من مستوى الدولة والسلطة، بالشأن السياسي العام، ومكنه من تغيير وظيفة النخبة الحاكمة، التي حاولت بالأمس القريب ـ في عهد محمد علي وإبراهيم باشا ـ تحقيق مشروع يتجاوز حدود مصر إلى مجال أوسع يشاركها اللغة والدين والتاريخ والهوية، يمكن لاتحاده معها أو خضوعه لها أن يحدث انقلاباً في علاقات القوى الدولية وموازين القوى داخل الإقليم العربي، فصارت من الآن فصاعداً أداة حجبت أية نهضة، ووظفت قدراتها لمنع بلدها من تحديث نفسه في سياق وطني/شعبي/يعادي الهيمنة والسيطرة الخارجيتين، وينتشر منه إلى بقية البلدان العربية. هذا التبدل، الذي قلب دور النخبة الحاكمة رأسا على عقب، تطلب تحولاً هيكلياً في بنية النخب السياسية، وتعزيز وتوسيع النخب المالكة، التي كانت تنتج من فوق، وصارت الآن قاعدة السلطة وحاملها، وصار بوسعها حفظ الاستقرار الداخلي وإدارة مصر بالتعاون مع النخب الحاكمة، خدمة لبريطانيا، التي كان نائبها في مصر، اللورد كرومر، قد أجاب رداً على سؤال: كيف ستحكم مصر، بالقول: سأحكم من يحكمون مصر.
قبل الاحتلال، كانت النخبة الحاكمة منخرطة في مشروع نهضة اقتصادية وعسكرية وسياسية وعلمية، فغدا من الضروري عكس دورها، لتلعب دوراً يفرمل هذه النهضة ويحول دون وصولها إلى المجتمع، ويستبدلها بتحديث تابع يزيد فارق التقدم بين السلطة وبين مجتمعها، ويتيح لها القبض بيد قوية على بلدها، وتقويض جهود النخب المثقفة لوضع فكرها في خدمة واقع سياسي من نمط مختلف، يحمله الشعب عامة والطبقة الوسطى خاصة. بذلك، انقلبت أسرة محمد علي على مؤسسها، وتحولت من قوة تحديث لمصر وتوحيد للعرب إلى قوة محافظة ورجعية، وطدت دور ومكانة طبقة الملاك العقاريين، الرجعية أساساً والمعادية للتحديث العام، في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واكتفت بحكم مصر، التي فقدت وظيفتها العربية أو مارستها بطريقة ناقصة ومشوهة، مثلما حدث قبل الحرب العالمية الأولى، خلال الحقبة التي تم فيها الاتفاق على تقسيم المشرق العربي بين فرنسا وإنكلترا، وإعطاء فلسطين للصهاينة، ثم إبان ما سمي حرب فلسطين عام 1948، حيث بلغ هذا الدور ذروته. بانقلاب النخبة الحاكمة على مشروعها الأصلي، آل التحديث من مشروع تغييري متكامل إلى سلسلة تدابير وإجراءات جزئية ومتفرقة أجهضته وطوت صفحته. ولعل هذه المفارقة تظهر بأكثر صورها وضوحاً من خلال بناء دار الأوبرا، التي أنفقت عليها مبالغ طائلة من أموال الديون الأجنبية، وأقيمت لتقديم عرض موسيقي معين (أوبرا عايده للموسيقي الإيطالي فردي) ارتبط بمناسبة معينة (افتتاح قناة السويس)، بينما كانت نسبة سكان بيوت الطين والأميين تقارب الخمسة وتسعين في المئة من شعب مصر ! .
ساعد انقلاب النخبة المصرية الحاكمــة على دورها ومشروعها الاستعماريْن البريطاني والفرنسي على تشــطير المنطــقة العربية وتقسيمها ورسم حدود داخلية ومصطنعة فيها، والتهامــها قطعة بعد أخرى، بينما كان تحديث الســلطة والطبقة المالكة يغرق مــصر في حال شقها إلى عالمين: عالم نخب مالكة وحاكــمة يرفل في النعيم، ويتمتع بحماية القوات البريطانية المنتشرة في أرض الكنانة، وآخر يقاسي الأمرّين، يشمل الشعب، وخاصة منه الفلاحون والعمال ومعظم شرائح لفئات الوسطى.
[[[[[
ليس من قبيل المصادفة أن تكون محاولة النهــضة السياسية الثانية، التي بدأت في مصر مع ثورة عام 1952 بقيادة جــمال عبـد الناصر، قد بدأت بإزاحة النخبتين المصريتــين الحاكمة ثم المالكة، واستــعادت مكونات جوهرية من مشروع محمد علي السياسي، الداخلي والعربي، مع الأخذ بمطالب عبرت عنـها نقاط برنامج الثورة الست، وخاصة ما اتصل منها ببناء الديموقراطية السليمة، والرأسمــالية الوطــنية، والجيش الوطني القوي، ومراعاة فــارق الزمان واختلاف الأحــوال، والاهــتمام ببعض المفــردات الفــكرية الجــديدة كالعدالة والمســاواة وسيادة القانون والمواطنة، التي دخلت أو أدخلت إلى المشروع السياسي الجديد، لتضفي طابعاً شعبياً عليه يساعد على جسر الهوة بين النخبة الحاكمة والمجتمع.
على الصعيد الفكري، ابتعدت النهــضة الجديدة، بعد أعوام قليلة من قيام الثورة، عن مفردات رئيسة في مشــروع النهضة الفكرية الأول، اعتبرتها برجوازية أو رأسمالية أو ليبرالية فــات زمانها، رأت فيها أداة لإنتاج واقع سياسي مغاير للواقــع الذي أرادت الثورة بنــاءه، يجــدد تبعية المجتمـعات والدول العــربية، التي كانت قد نالت استــقلالها، للنظام الرأسمالي. في الوقت نفــسه، نشرت النهــضة الثانية رؤية سياسية اختلفت عن رؤية النهــضة الأولى بطابع أيــديولوجي أخــذ بالشق القومي والاشتراكي من مشــروع التــقدم الغربي، اعتــقاداً منه بأنه يجبّ المشروع الأول، الذي اعتبر رأسمالي المآل بــرجوازي الحامل، ويلغي الحاجة إلى تحقيق ركائزه ومكوناته، باحتواء مفــرداته الإيجابية في منظومتها وإدراجــها في مســتوى فكري أرفع يرقيها ويتيــح تأســيس نسق سيــاسي جــديد يتخطى الرأسمالــية وينتمي إلى مرحلة تاريخيــة تالــية لها. في مشروع النهضة الجديد، لم يكن هــناك، في زعم أنصاره، حاجة إلى المواطنة وحقوق الإنسان، وفصل السيادة الشــعبية عـن السلــطة الجديدة، لأنها لا تمثل فقط الجماعة الوطــنية، بل هــي هذه الجــماعة ذاتــها. لا حاجة أيضاً إلى فصل السلــطات، لأن ذلك يشق الدولة إلى قطاعات متباينة الوظائــف ويضــعف وحدة الجماعة السياسية والمجتــمعية. ليس من الــضروري كذلك أن تكون الحرية رافعة النسق السياسي، فهو يحققها بوصفه حـكم الضرورة والتعبير المشخص عن الحتمية التاريخية وقوانينــها الموضــوعية، المستقلة عن إرادة البشر، والقادرة على إلغائها في حالات كثيرة. أخيراً، لا حاجة إلى الديموقراطية باعتبارها حكم الشعب بالشعب وللشعب، فهي متحققة حكماً في النظــام الجديـد، وإن كان طابعها الشعبي يجعلها هنا مختلفة عن ديموقراطية البرجوازية، حكم القلة المشوه والذاهب حتماً إلى الفوضى.