نموذج من الاضطهاد في الدول الدينية
الدولة الدينية الإيرانية نموذج لما يعد به الإسلام السياسي من تطبيق لشعاره “الإسلام هو الحل” في بلدان المنطقة إذا وصل للحكم بأية وسيلة، عن طريق الانتخاب إذا كان ذلك ممكناً كما يتأمل الإخوان المسلمين في مصر، أو عن طريق العنف واستخدام السلاح المفترض أنه “للمقاومة” للانقلاب على السلطات القائمة كما أقدمت عليه حماس في غزة، أو كما يمكن أن يحدث في لبنان فيما لو لم ترضخ الحكومة لطلبات حزب الله.
لم تكتف السلطات الدينية في إيران باضطهاد المعارضين والمخالفين لها بالقتل والإعدامات والسجن وحجز الحريات وانتهاك حقوق المرأة وتزوير الانتخابات…، فقد شمل قمعها الاقليات القومية من أذريين وعرب وكرد وبلوش وتركمان وأرمن، والأقليات الدينية من مسيحيين ويهود وبهائيين، وحتى المسلمين السنة محرومون من بناء مساجدهم في مدن إيرانية.
لم تهدأ بعد الضجة التي أثارها حكم الرجم بتهمة الزنا المسلط على الإيرانية سكينة اشتياني، الذي قوبل باستنكار عالمي للطريقة الوحشية الممارسة لإرهاب المواطنين، وتسعى السلطة الدينية للتحايل على الضغوط العالمية بتحويل تهمة الزنا إلى القتل لاستبدال الرجم بالإعدام شنقاً. فتفضل عدم التخلي عن مرتبتها : الدولة الثانية بعد الصين من حيث عدد الإعدامات التي بلغت عشرات الآلاف بتهم سياسية أو دينية منذ بدأ الإنقلاب وإقامة السلطة الدينية، والمرتبة الأولى في العالم من حيث عدد الإعدامات لأحداث لم يبلغوا بعد سن الثامنة عشرة!
آلة القمع والاضطهاد لا تتوقف وآخر تجلياتها الأحكام التي صدرت منذ أيام عن المحاكم الإيرانية، المدارة من الجهاز الديني المشابه لمحاكم التفتيش الأوروبية في القرون الوسطى، بالسجن عشرين عاماً لسبعة من قادة الدين البهائي – خمس رجال وإمرأتان – اعتقلوا منذ سنتين ومنعوا من الاتصال بمحاميتهم شيرين عبادي الحائزة على جائزة نوبل للسلام والتي أغلق الامن مكاتبها وصادر ملفاتها وهددها بالقتل، مما اضطرها للفرار خارج البلاد. وقد لفقت لهم تهم التجسس لإسرائيل والدعاية ضد الجمهورية الإسلامية! فيما “جريمتهم” الوحيدة ممارسة شعائرهم الدينية، وهي الحرية المكفولة لجميع سكان الأرض ولكل الأديان، وليس الديانات السماوية الثلاث فقط، كما في المادة 18من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:
” لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير
ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر..”
اضطهاد البهائيين البالغ عددهم في إيران 300 ألفاً ليس جديداً، فمنذ بدء الحكم الديني قبل ثلاثين عاماً أعدم ما لا يقل عن 200 من وجوه البهائية البارزين وخاصة أعضاء المجالس الروحية المتوالية، ولم تتوقف التصفيات والإعدامات إلا في العام 1998 بعد حملة احتجاجية عالمية. كما اضطهد أتباع الديانة عموماً بمنعهم من الانتساب للجامعات وفصلهم من الوظائف وحرمانهم من المعاشات التقاعدية ومصادرة ممتلكاتهم وأموالهم ومصالحهم التجارية، وتعريض أعداد كبيرة لاستجوابات طويلة وتعذيب، ومداهمات وحملات دعاوية ظالمة في وسائل الإعلام والجوامع والمدارس واستباحة وتدنيس مقابرهم.. ليس لسبب يتعلق بخطرهم على السلطة ولكن فقط لعقائدهم الخاصة المخالفة لدين الغالبية.
صحيح أن البهائيين لا يعتبرون ديانتهم فرعاً من الإسلام ويعتقدون أن الاديان من مصدر واحد هو الله، ويعترفون بما سبقهم من ديانات إسلامية ومسيحية ويهودية وزرادشتية وهندوسية وبوذية..، فللبهائية جذور في الإسلام ولكن هذا لا يعني أنها فرع منه بل دين مستقل، نشأ في منتصف القرن التاسع عشر ويعتبر تابعوه مؤسسه مرسلاً من الله ويلقبونه “بهاء الله”، وقد نفاه السلطان العثماني في العام 1868 إلى عكا التي عاش ودفن فيها في العام 1892. ويتوجه البهائيون إليها كقبلة، فيما أقاموا مركزهم الرئيسي فوق جبل الكرمل بحيفا في العام 1909 وكانت مدينة عثمانية قبل إنشاء إسرائيل بأربعين عاماً. والتواصل مع المركز الديني الرئيسي لا يعني الصلة مع إسرائيل كما تدعي السلطة الإيرانية وهو لا يختلف عن تواصل رجال دين مسلمين ومسيحيين مع المسجد الأقصى وكنيسة القيامة كمراكز رئيسية للديانتين.
الديانة البهائية تمنع أتباعها بشكل حازم من المشاركة والتدخل في السياسة أو الانضمام للأحزاب أو نشر الدين، وتوجب إطاعة الحكومات القائمة وقوانين الدولة في كل الأمور عدا إنكار العقيدة الدينية. وهي لا تقر الجهاد والعنف وتدعو للتعايش السلمي بين الامم والديانات، ولنظام عالمي يضمن حقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية وردم الهوة بين الأغنياء والفقراء بغض النظر عن الانتماء القومي أو الديني، وتدعو للغة عالمية إضافية لتسهيل التفاهم بين الشعوب. كما تتبنى مواقف تقدمية من قضايا عديدة مثل مساواة المرأة بالرجل في جميع الحقوق والواجبات وتحريم تعدد الزوجات.. وتدعو للتوافق بين العلم والدين وترفض الخرافات.. وتنكر توارث الدين فتفرض على كل بالغ البحث عن الحقيقة بنفسه والاقتناع بأية ديانة بعد تفهم واقتناع.
يؤمن البهائيون بأن جميع الأديان جزء من خطة إلهية واحدة متدرجة ومستمرة، فكل رسالة سماوية تمهد للتي تليها، فإن اختلفت أحكامها فطبقاً لمقتضيات العصر المتغيرة. وهم يفتحون أماكن عبادتهم لجميع الأديان ولأي شخص يريد التعبد بطريقته وليس بالضرورة بالطريقة البهائية. ورغم إيمانهم بوحدانية الخالق فقد كفرهم المتشددون لأنهم اعتبروا “بهاء الله” مرسلاً من الله، فالقاعدة أن كل دين لا يعترف بما بعده لذلك لم يتم الاعتراف بالبهائية.
ينتشر البهائيون الذين يبلغ تعدادهم 5 ملايين في أرجاء العالم حيث تتوفر لهم حرية ممارسة شعائرهم فيما عدا بعض بلدان الشرق الاوسط التي اضطهدتهم مثل إيران. ففي عراق صدام صدر قرار يقضي بإعدام كل من يثبت أنه من أتباع البهائية. وفي مصر عبد الناصر صدر قرار جمهوري اعتبرهم ملة ملحدة وأغلق مراكزهم وصادر أموالهم وأجبرهم على تسجيل أنفسهم في الهويات الشخصية كتابعين لأحدى الديانات الثلاث وإلا حرموا من الأوراق الثبوتية مما يحرمهم من الدراسة والعمل وتسجيل الزواج والأبناء وغير ذلك.. .إلى أن صدر مؤخراً قراراً يسمح بإعطائهم هويات شخصية دون تسجيل انتسابهم لأية ديانة، بعد أربع سنوات من التقاضي والجدل حول حقوقهم وحريتهم الدينية.
يتضح مرة أخرى فشل الدولة الدينية المعتمدة على الشريعة، حسب فهمها من رجال دين أو منظمات إسلام سياسي، في قبول ممارسة الناس لحقوقهم المضمونة عالمياً والتي لم يعد من الممكن تجاهلها لأي مبرر كان. فالدولة المعتمدة على الشريعة تتعارض كلياً مع حقوق الإنسان ومنها بشكل خاص حرية المعتقد الديني وممارسة الشعائر الخاصة بكل دين أو مذهب أو طائفة. لتثبت جميع التجارب المعاشة فشل مزج الإسلام بالديمقراطية، لكون الإسلام دين وليس أيديولوجية سياسية أو نظام سياسي. أما قسره واستخدامه من قبل جماعات الإسلام السياسي ليصبح نظاماً سياسياً، فلا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الاستبداد والعنف واضطهاد المواطنين وحرمانهم من حقوقهم.
الإسلام السياسي عموماً يسيء للإسلام عكس إدعائه الدعوة له. أما نجاح الإسلاميين في تركيا فيعود بالدرجة الأولى لقبولهم فصل الدين عن الدولة واعترافهم بالعلمانية كمتمم للديمقراطية، وليس كفراً أو مشروعاً استعمارياً كما تروج عن جهل الجماعات الإسلامية في أكثر من بلد.