عبد الباري عطوان : سورية / تدخل امريكي مرفوض
بعد خمسة اشهر من انطلاقة فعاليات الانتفاضة الشعبية المطالبة بالتغيير الديمقراطي، مازال المشهد السوري على حاله، مئات الآلاف من المحتجين ينزلون الى الشوارع رافعين شعارات تطالب بسقوط النظام، بينما تقوم قوات الامن في المقابل باطلاق النار لتفريق الاحتجاجات، مما يؤدي الى سقوط العشرات من الشهداء.
رهان السلطات السورية على ‘تعب’ الشعب او استسلامه بسبب شراسة الحلول الامنية، وتزايد اعداد ضحاياه، نتيجة لتغولها، ثبت فشله، فمن الواضح ومن خلال التصاعد المطرد في اعداد الضحايا اسبوعياً، ان الشعب لم يتعب، ولم يرفع الراية البيضاء، ومستعد للسير في الطريق نفسه مهما تضخم حجم التضحيات.
مدينة ‘حماة’ التي شهدت المجزرة الاكثر بشاعة في التاريخ السوري بمختلف حقباته، استعادت زمام المبادرة، واصبحت الميدان الرئيسي للمواجهة بين الشعب والسلطات الحاكمة، وينعكس ذلك بوضوح من خلال نزول نصف مليون انسان كل يوم جمعة في ميادينها، وشوارعها الرئيسية، للمطالبة بالتغيير الديمقراطي.
حدثان رئيسيان يمكن ان يحدثا انقلاباً رئيسياً في المشهد السوري، الاول: زيارة سفيري الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا للمدينة ‘حماة’ يوم امس بهدف التضامن مع المحتجين والاتصال بقادتهم حسبما جاء في البيان الرسمي الامريكي. الثاني: اغتيال ‘مغني الثورة’ ابراهيم قاشوش مثلما يطلق عليه في المدينة، بطريقة بشعة باستئصال حنجرته، والقذف بجثته في نهر العاصي.
السلطات السورية اتهمت السفير الامريكي روبرت فورد بتقويض جهود الحكومة السورية الرامية الى نزع فتيل الاحتجاجات، وقالت الدكتورة بثينة شعبان الناطقة باسم الرئيس بشار الاسد ان المستر فورد اجرى اتصالات واقام صلات مع المسلحين، ووصفت هذه الزيارة التي قالت انها غير مرخصة بانها ‘تنتهك الاعراف الدبلوماسية’.
الدكتورة شعبان استخدمت تعبير ‘غير المرخصة’ في الاشارة الى زيارة السفير الامريكي لمدينة حماة، ربما للتفريق بينها وبين زيارة سابقة قام بها السفير الامريكي الى جانب عدد من السفراء الاجانب الآخرين الى مدينة جسر الشغور قرب الحدود التركية، بدعوة من الحكومة السورية للتعرف على حقيقة الاوضاع فيها، وخاصة وجود مسلحين متطرفين اطلقوا النار على قوات الامن وقتلوا العشرات منها.
‘ ‘ ‘
السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة، هو حول اسباب عدم منع قوات الامن السورية للسفيرين الامريكي والفرنسي من زيارة المدينة، وانتهاك الاعراف الدبلوماسية بالتالي، فالامن السوري يعرف ‘دبيب النملة’، ومن غير المنطقي القول بانه لم يعلم مسبقاً بهذه الزيارة، واذا لم يكن يعلم فعلاً فانها كارثة وان كنا نشك في ذلك.
التقليد المتبع في العرف الدبلوماسي، هو استدعاء الدولة المضيفة لاي سفير يخترق القواعد والقوانين، ويخرج عن مهامه المحددة له وفق المعاهدات الدولية بشأن العمل الدبلوماسي، وخاصة التدخل في الشؤون الداخلية، يتم استدعاؤه وتوبيخه، وقد يلحق ذلك ابعاده من البلاد، في غضون مدة محددة، غالباً ما تكون ساعات، عقاباً له.
لا نعرف ما اذا كانت السلطات السورية ستذهب الى هذا الحد في تعاطيها مع اختراق السفيرين الامريكي والفرنسي، ام انها ستكتفي بانتقاداتها الاعلامية لهما، تجنباً لازمة دبلوماسية قد تنشأ مع حكومتيهما، خاصة انها بذلت جهداً كبيراً لعودتهما الى دمشق، وفي حالة السفير الامريكي على وجه التحديد.
الانتفاضة الشعبية الديمقراطية السورية ليست بحاجة الى تضامن السفير الامريكي معها لانها قامت بشكل عفوي، ورداً على ممارسات ديكتاتورية قمعية اذلت اجهزتها الامنية الشعب السوري وصادرت حرياته وحقوقه المشروعة في التعبير والمشاركة في الحكم في اطار مؤسسات تنفيذية وتشريعية منتخبة عبر صناديق اقتراع في انتخابات حرة ونزيهة.
بمعنى آخر، هذه الانتفاضة لم تكن بايعاز من امريكا او تحريض من فرنسا، وكان المفجر لها إقدام قوات الامن في مدينة درعا على اعتقال اطفال صغار، وتعذيبهم، واهانة ابائهم لانهم كتبوا شعاراً على حائط يطالب باسقاط النظام.
السفيران الامريكي والفرنسي الحقا ضرراً كبيراً بهذه الانتفاضة الشعبية العفوية بزيارتهما الى مدينة حماة، واظهار التضامن مع اهلها، وقدما في الوقت نفسه هدية ثمينة للسلطات السورية يمكن ان تستخدمها ضد الانتفاضة وقيادتها، وقد بدأت عمليات ‘التوظيف’ لها بالايحاء بان قوى خارجية وامريكا على وجه التحديد، تقف خلف هذه الانتفاضة.
الشعب السوري، بشقيه في الداخل والخارج اكد دائماً على رفضه اي تدخل خارجي في شؤون ثورته، وقاطعت الغالبية الساحقة من جماعات المعارضة السورية في الخارج المؤتمـــــر الذي اشرف على تنظيمه برنارد هنري ليفي الفيلسوف الفرنسي المدافع الاشرس عن اسرائيل وسياساتها العدوانية وجرائم حربها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة واللبنانيين في جنوب لبنان.
‘ ‘ ‘
من الواضح، وبعد احتجاجات امس، ان فرصة الحوار التي طرحتها السلطات السورية على شخصيات وفعاليات المعارضة الداخلية، قد تبخرت ووصلت الى طريق مسدود حتى قبل ان تبدأ الخطوات العملية لتطبيقها على الارض. فالهوة واسعة بين السلطة والمعارضة، بل وتزداد اتساعاً جمعة بعد اخرى مما يعني ان الامور تتجه وبسرعة نحو المزيد من التأزم، فالمعارضة في غالبيتها الساحقة مصرة على شعارها بحتمية تغيير النظام، والنظام متمسك بالحلول الامنية، اعتقاداً منه انها الطريق الوحيد للوصول الى بر الامان والبقاء بالتالي.
الحوار يحتاج الى تهيئة مناخات الثقة بين جميع الاطراف حتى يبدأ ويعطي ثماره امناً واستقراراً وشراكة ديمقراطية حقيقية، ولا نعتقد ان هذه المناخات موجودة الآن، او ان اياً من الطرفين يسعيان لايجادها، وان كان النظام يتحمل المسؤولية الاكبر في هذا المضمار.
فكيف يمكن ان ينجح هذا الحوار عندما نشاهد ‘مطرب الثورة’ ابراهيم قاشوش وقد اغتيل بهذه الطريقة البشعة التي توحي بان النظام غير مستعد لتحمل حنجرته واغانيه الانتقادية، وكيف يمكن ان يثمر هذا الحوار مناخات للثقة، واحد رجالات النظام ينهال ضرباً ولكماً على احد المشاركين في لقاء سميراميس للمعارضة وامام عدسات التلفزة لانه هتف باسقاط النظام.
الشعب يطلق اسم ‘لا للحوار’ كشعار لاحتجاجات يوم امس، والنظام يواصل استخدام حلوله الامنية بالشراسة نفسها، والسفيران الفرنسي والامريكي يحاولان ركوب الانتفاضة دون ان يطلب منهما احد اي تضامن او مساندة، فالخلاصة التي يمكن التوصل اليها هي القول بان ايام سورية المقبلة صعبة واكثر دموية، وهذا امر مؤلم بكل المقاييس.
عبد الباري عطوان : صحافي و رئيس تحرير القدس العربي