الياس خوري : سورية التي تولد اليوم
كأن سورية تولد اليوم، مقمطة بدماء ابنائها. الآن، اي منذ عشرة اشهر، يصنع السوريات والسوريون وطنهم من جديد. يذهبون الى بهاء موتهم بجباه عالية، وهم يهتفون للحرية. هكذا تولد الكلمات وتولد اللغة من تراب الأرض المغطى بدم الشهداء وانين الجرحى وصراخ المعتقلين.
لم يعد الكلام القديم مجدياً، فقدت سياسة السياسيين معناها وجدواها، نحن اليوم امام ظاهرة اكبر من كل السياسات الصغيرة والكبيرة، فاليوم هو وقت تأسيس المعاني، وصناعة الأفق.
يكفي ان نشهد ونشاهد كيف تولد الحرية على الشفاه، وتتحول الى كلمات واغنيات، يكفي ان نستمع الى شعب يتكاتف في مظاهرات الحرية وهو يواجه الموت، يكفي ان نرى كيف يضيء الانسان حريته عبر تحدي الموت، ويصرخ امام جدار القمع الأصم الذي سوف يتفتت في النهاية امام هول مقتلة الاطفال التي اشعلت الثورة السورية.
اليوم يعيد التاريخ الذي يصنعه الناس المعنى الى الجغرافيا، اليوم، اي منذ عشرة اشهر، واسماء الاماكن تمتلىء بالدلالات. اليوم، اي منذ عشرة اشهر، نتعلم جغرافية الحرية، ونحن نجول بارواحنا في المدن والقرى والدساكر. نكتشف درعا واطفالها، وحماة ومغنيها الشهيد، وحمص بوعرها وبطولاتها ونهرها العاصي ، وادلب ودير الزور وداريا والغوطة الدمشقية التي امتلأت بياسمين الشهداء…
وطن يولد من صرخة اطفاله التي تحولت الى انتفاضة شعب يحلم بكلمة واحدة اسمها الحرية، ويسعى الى استعادة كرامته المهدورة من تحت احذية الاستبداد. وطن اعلنت درعا ولادته بأصابع حفنة من الأطفال، قبل ان يشتعل على ضفاف العاصي، ويمتد من الميدان الى كل الميادين، ويصير مضمخا بعطر الشهداء الذين يصنعون من حمص اسطورة للتحدي.
بلاد اضافت الى ذاكرة ميسلون والثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، ذاكرة جديدة، تصنعها ثورة شعبية مستمرة منذ عشرة اشهر. ثورة لا سابق لها، حيث يحطم شعب الموت بالموت، ولا ينحني للخوف، ولا يتراجع امام هول القمع والقتل والتعذيب والدمار.
انها حكاية التضحيات والصبر والثبات، حكاية لم نشهد مثيلا لها، وهي تعلن اليوم ولادة وطن جديد، صنعه شعبه الذي يناضل في وحدة اليأس ووحدة الأمل، ولا ينتظر شيئا من احد.
شعب يعرف ان الدرب قد ارتسم، وانه لن يتراجع لأنه اقفل طريق التراجع بالألم والدم.
لا مكان في هذه الملحمة الكبرى سوى للحلم. ملحمة يرتسم بطلها مثل موزاييك مصنوع من الوف القطع الصغيرة، يذهب الأفراد الى الموت كي يدخلوا في جدارية الملحمة، وهناك يصيرون واحدا في المتخيل والذاكرة، ويرسمون وطنهم الجديد على صورة تضحياتهم الكبرى.
لهؤلاء وعنهم تليق الكتابة، لأنهم يغسلون وعينا وعيوننا بالأمل الذي يصنعه الأسى، وبالرجاء الذي ينبت من قعر اليأس.
لا تخافوا، لقد انتصرتم على الموت، ومن ينتصر على الموت ويتحداه يموت منتصرا ولا يخشى شيئاً.
هذا هو درس الحرية في مدن سورية وبلداتها وقراها، كل مدينة حكاية مصنوعة من الف حكاية، وكل حياة هي تلخيص لمعنى الحياة، وكل موت هو بداية.
ننحني على الألم والألم ينتشر في عيوننا، نغمض فنراكم، نريد ان نقول فلا تسعفنا الكلمات، كيف نستنبط لغة تعانق الموت وتحتضن يأسا وصل الى ذروته على مفترق الأمل.
‘ ‘ ‘
يبدو الجدل السياسي حول الثورة السورية وعلاقاتها الاقليمية المستقبلية وكأنه خارج الموضوع، كلام رئيس المجلس الوطني السوري برهان غليون واجوبة امين عام حزب الله طرحا مسألة في غير مكانها او اوانها. اغلب الظن ان تصريح غليون عن العلاقة المستقبلية بايران وحزب الله اسيئت قراءته، لأنه لم يكن واضحا بما فيه الكفاية. وقد جاء تصويب رياض الترك ليضع الأمور في نصابها، فسورية لا عدو لها سوى الاحتلال الاسرائيلي، اما علاقتها بالدول الاقليمية والأحزاب اللبنانية وغير اللبنانية فتتحدد على ضوء مواقف هذه الأخيرة من ثورة الشعب السوري.
كلام بسيط وواضح يقفل ابواب المزايدات والكلام الذي يريد تغطية موقف مؤيد للنظام السوري، لا مكان له في اعراب الثورة اوالمقاومة.
ليس مطلوبا من الثورة السورية تطمين احد، بل المطلوب هو التضامن مع شعب يتعرض لأبشع انواع القمع.
هنا يقع الامتحان الذي لم ينجح النظام السياسي اللبناني، بجميع اطيافه، في اجتيازه، واغلب الظن ان النظام العربي لن ينجح هو الاخر.
كل النقاشات غير المجدية تتوقف اليوم امام صورة طبيب الثورة السورية ابراهيم عثمان شهيدا، والحكاية تبدأ من جديد في صورة عصيان مدني يفتح طريق الحرية.