صبحي حديدي :عام العجائب وخاتم الاحزان
يوم 5 شباط (فبراير) الماضي، كان السينمائي السوري الكبير عمر أميرالاي (1944 ـ 2011) قد أغمض عينيه، للمرّة الأخيرة، دون أن تكتحلا بالمشاهد الأولى لانتفاضة الشعب السوري: اعتصامات الشموع الصامتة أمام سفارات تونس ومصر وليبيا، واعتصام ذوي المعتقلين السياسيين في ساحة المرجة، أمام وزارة الداخلية، والتظاهرة الأولى الصاعقة في سوق الحريقة، حين تعالى شعار ‘الشعب السوري ما بينذلّ’.
بيد أنّ رحيل أميرالاي، على نحو مفاجىء باغت الحياة الثقافية السورية والعربية والعالمية، كان في جانب آخر يسجّل واقعة أولى فارقة في مستهلّ عام فارق، لن يطول الوقت حتى يتضح أنه عام الفوارق جمعاء، بل عام العجائب والمعجزات Annus Mirabilis بالمعنى التامّ الذي يتعارف عليه المصطلح اللاتيني العتيق.
من جانبه كان نظام ‘الحركة التصحيحية’، الذي دشّنه حافظ الأسد في انقلاب 1970، ثمّ ورّثه إلى نجله بشار بعد وفاته سنة 2000، يعيش العام ذاته بمنطق ظلّ على الدوام سمة لصيقة بالنظام طيلة 41 سنة: أنّ سورية مزرعة توريث ونهب وسلب وفساد وإفساد، كما أنها مملكة صمت وخوف وارتهان واستسلام، وقمع بناتها وأبنائها ليس ممارسة دكتاتورية استبدادية فحسب، بل هو خيار وجودي وركيزة بنيوية. رأس النظام كان على ثقة مطلقة، أو تكاد، بأنّ أكذوبة ‘الممانعة’، إسوة بتحالفاته الوطيدة مع رهط ‘الممانعين’، دولاً ومنظمات وأفراداً، كفيلة بأن تبعد عن نظامه ‘ميكروبات’ الحراك الشعبي في تونس أو مصر أو البحرين أو اليمن أو ليبيا، فأعلن هذه ‘الثقة’ على الملأ، بل تفاخر بها في حوار شهير مع صحيفة ‘وول ستريت جورنال’. كانت مطالع 2011 حبلى بكلّ ما يوحي بأنّ العام سوف يُنزِل بالنظام الكوارث والنوائب والأهوال، على غرار الـ Annus Horibilis حسب تسمية لاتينية أخرى معاكسة؛ فاستقبله الأسد بمزيج من التهكم والغطرسة والاستعلاء، فضلاً عن نوبات القهقهة المعتادة، بالطبع، والجرعات ذاتها من ‘الثقة’ بأنّ نظامه ليس شبيهاً بأي بلد عربي شهد، أو سيشهد، انتفاضة شعبية.
في دخيلة نفسه كان الأسد يدرك، ما يدركه السواد الأعظم من بنات وأبناء سورية في الواقع، أنّ أي إصلاح حقيقي وذي معنى ملموس سوف يلحق الضرر الشديد بذلك المنطق اللصيق الذي حكم سلوك النظام طيلة أربعة عقود ونيف؛ وأنّ ذلك الضرر لن يقتصر على ركن دون آخر من أركان ‘الحركة التصحيحية’، إذْ لن يكون أقلّ من صدع بنيوي، يتضافر مع شقوق وكسور بنيوية أخرة كفيلة بتقويض المنظومة بأكملها. ولهذا لم يكن مستغرباً أنّ أقصى ما فعله الأسد، إزاء تعاظم المدّ الشعبي الديمقراطي في عدد من البلدان العربية، وبروز مظاهر أولى خجولة لانتقال تأثيراته على الداخل السوري، كان مواصلة الزعم بأنّ نظامه محصّن لأنه ‘ممانع’؛ ثمّ تشديد الخناق، أكثر فأكثر، على أيّ مظهر احتجاج أو تظاهر أو حتى تضامن مع الأشقاء. كذلك اختار الأسد تنفيذ مسرحية هنا (كما في مشهد ‘السباحة في بحر من الجماهير’، بعد صلاة عيد المولد النبوي)، أو ‘مكرمة’ هناك (كما في إصدار عفو عن جرائم وجنح شتى، لكنها لا تشمل معتقلي الرأي… إلا إذا كانوا قد تجاوزوا سنّ السبعين!).
في جانب عسكري صرف، كان الأسد يدرك أنّ نموذج الجنرال رشيد عمار، رئيس هيئة أركان الجيوش في تونس، الذي تردد أنه رفض بالفعل تنفيذ تعليمات زين العابدين بن علي بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، ليس متوفراً في الجيش السوري؛ وعلى الأقلّ، ليس في تلك ‘الجيوش’ الخاصة، الصغيرة أو الكبيرة، التي أنشأتها ‘الحركة التصحيحية’ لحماية النظام أوّلاً، ثمّ السهر على تأمين مصالح المركب الأمني ـ العسكري ـ المالي الذي يستبدّ بسورية وينهب خيراتها ويدمّر اجتماعها الوطني والسياسي، ثانياً.
كان يسيراً على الأسد أن يتذكّر ذلك النفر من كبار ضباط النظام الذين قادوا تنفيذ العديد من المجازر الجماعية، ضدّ أطفال ونساء وشيوخ عزّل أبرياء، في عشرات المدن والبلدات والقرى السورية (رفعت الأسد، قائد ‘سرايا الدفاع’؛ علي حيدر، قائد ‘الوحدات الخاصة، وهاشم معلا أحد كبار معاونيه؛ شفيق فياض، قائد الفرقة الثالثة؛ إبراهيم صافي، قائد الفرقة الأولى؛ بدر حسن، قائد الفرقة التاسعة؛ والصفوة العليا من ضبّاط أجهزة الإستخبارات المختلفة…).
وكان أمراً بالغ الإغواء للأسد أنّ التاريخ لم يسجّل واقعة واحدة عن ضابط كبير من أهل النظام تلقى أوامر باستخدام الأسلحة، الخفيف منها والثقيل، فتردد في التنفيذ، أو توانى، أو نفّذ وهو غير سعيد بالذبح، غير شغوف بسفك الدماء!
كبير ضباطه، شقيقه ماهر الأسد، باشر ‘ستراتيجية’ كسر الانتفاضة من أبجدية متناهية في البساطة، تناسب ملكاته العسكرية، ولكنها في المقابل تتماشى مع مزاجه الدموي العنيف (الذي قاده، ذات يوم، إلى إطلاق النار على صهره آصف شوكت): لا يفلّ الانتفاضة إلا الحديد والنار والعنف الأقصى، واستخدام صنوف الأسلحة كافة، من راجمة الصواريخ والمدفعية الثقيلة والدبابة، إلى الحوامة والقاذفة والزوارق الحربية؛ ولا ينفّذ مهمات كهذه إلا الفرقة الرابعة، النخبوية تماماً في تسليحها وامتيازات ضباطها، التي تعادل أكثر من ثلاث فرق في العديد والعدّة، وريثة ‘جيوش’ سالفة خدمت ‘الحركة التصحيحية’ مراراً (‘سرايا الدفاع’ و’الوحدات الخاصة’ و’سرايا الصراع’ و’الحرس الجمهوري’…)؛ وليس لهذا الجيش المدجج أن يتحلى بالولاء الأعمى للنظام إلا إذا تمّت غربلته وتنقيته وتطهيره، فرداً فرداً وضابطاً ضابطاً، ليس على أساس طائفي محض، ومناطقي ضيّق في حالات استثنائية، فحسب، بل على أسس عشائرية صرفة تستهدف استقطاب عشيرة الضابط وقريته ومحيطها، قبل أن تُعنى بمزايا الضابط نفسه!
في مستوى آخر، أمني ـ عسكري، لم يتردد أمثال العميد عاطف نجيب (ابن خالة الأسد، مسؤول الأمن السياسي في محافظة درعا)؛ والعميد ذو الهمة شاليش (ابن عمّة الأسد، ورئيس حرسه الشخصي، والمشرف الفعلي على جهاز أمن الرئاسة)؛ والعميد حافظ مخلوف (ابن خالة الأسد، والضابط الأبرز في الفرع 251 والأقوى نفوذاً في جهاز المخابرات العامة بأسره)؛ واللواء علي مملوك (المدير الرسمي للجهاز ذاته)؛ في ترجمة ‘الثقة’، التي يزعم الأسد أنها سند نظامه ‘الممانع’، إلى رصاص حيّ وإراقة دماء.
كان هذا خيار العميد نجيب في درعا، حين منح نفسه الحقّ في إطلاق النار دون إبطاء، منذ التظاهرة النوعية الأولى، ودون استشارة رؤسائه المباشرين، وذلك بعد أن أمر بقلع أظافر الأطفال، وأهان وجهاء المدينة في عرضهم. وكان نجيب مجرّد نموذج مطابق لعشرات من زملائه ضباط الأمن، ممّن سوف يسهرون على تعذيب المتظاهرين حتى الموت، والتفاخر بأنّ هذا الشهيد أو ذاك لفظ أنفسه الأخيرة عند أحذية جنرالات مثل جميل حسن، جمعة الأحمد، فهد جاسم الفريج، غسان بلال، أوس أصلان، محمد ديب زيتون، عبد الفتاح قدسية، علي يونس، ثائر العمر، جامع جامع، محمد خلوف، أو زهير حمد…
في المستوى العقائدي أوكل النظام إلى قيادة حزب البعث أمر استكمال الخديعة بالوسيلة المثلى التي أتقنها الرفاق البعثيون أبد الدهر: الجعجعة بلا طحن! وهكذا، حين كان الرصاص يحصد المتظاهرين المسالمين العزّل، والدبابات تزحف على درعا، وعناصر الأمن في بانياس تطأ رؤوس المواطنين بالأحذية… كانت قيادة الحزب تصدر بيانات حماسية مؤيدة للتحركات الديمقراطية في الشوارع العربية، حتى يكاد المرء يخال انه يقرأ بياناً صادراً عن القوى الثورية في تونس أو مصر أو اليمن! كذلك ارتدّ الخطاب إلى ‘السنوات الذهبية’ للحزب، حين كانت بياناته ترطن بشعارات الوحدة والحرية والإشتراكية، والأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة: ‘ما يشهده الشارع العربي اليوم غير محصور بعجز النظام الرسمي عن تحسين الأوضاع المعيشية فقط داخل الدولة الوطنية، أو بتعثر تجربة الإصلاح والديمقراطية، بل هو مرتبط بالأذى النفسي الذي يشعر أجيال اليوم بضرورة تحقيق الذات الوطنية وإسهامها في التحرر الداخلي والخارجي مع استمرار الاحتلال وتحديات الهوية والإنتماء’… نعم، صدّقوا أنّ الكلام صادر عن حزب البعث السوري!
في الجانب الآخر، ‘السياسي’ بدوره كما يفترض أهل النظام، ولكن المكمّل لخيارات قمع الإنتفاضة بالمدفع والدبابة والرصاص الحيّ وإطلاق قطعان القنّاصة والشبّيحة واعتقال المتظاهرين بالآلاف وليس بالمئات، أصدر الأسد قراراً جمهورياً بتشكيل ‘هيئة الحوار الوطني’، التي ‘تكون مهمتها وضع الأسس لحوار وطني وتحديد آلية عمله وبرنامجه الزمني’. ماتت المبادرة في المهد، بالطبع، أو تحوّلت إلى جثة هامدة شاهدة على ‘الإصلاح’ الأقصى الذي يمكن للنظام أن يقترحه؛ إلى جانب أنّ بعض المرضيّ عنهم من قيادة الهيئة (حنين نمر، الأمين العام للحزب الشيوعي السوري ـ جناح يوسف فيصل، على سبيل المثال)، صاروا اليوم من المغضوب عليهم!
ويبقى أنّ رامي مخلوف، ابن خال الأسد وصيرفي النظام الأول، غازل إسرائيل في حوار مشهود مع صحيفة ‘نيويورك تايمز’، ثمّ خلط الغزل بالعتبى وبعض الوعيد حين ذكّر بأنّ أمن النظام من أمن إسرائيل، فأحرج صفّ ‘الممانعة’ في أربع رياح الأرض، وتلعثم الرفاق والأخوة ‘الممانعون’ وهم يبحثون للصيرفي عن عذر وذريعة. في المنحى ذاته كان ابن خالته، الأسد نفسه، قد قارب الغزل ذاته بطريقة مختلفة، حين أبلغ وفداً من الكونغرس الأمريكي، يترأسه السناتور الديمقراطي جون كيري، استعداده للاستجابة لأية خطة تعيد إحياء أقنية التفاوض مع إسرائيل. آنذاك ذكّرت صحيفة ‘هآرتز’ الإسرائيلية بأنّ العلاقات بين كيري والأسد طيبة للغاية، وأنهما التقيا خمس مرّات خلال سنتين، في دمشق، ومن المرجّح أنّ السناتور الأمريكي لمس، هذه المرّة، رغبة أكبر لدى الأسد في تحريك المفاوضات مجدداً.
وقائع عام العجائب هذا عديدة متنوعة، بيد أنّ الشعب السوري الثائر هو عجيبتها الأهمّ: استهلّ العام من مجازر حوران، وتوسطه من مجازر حماة ودير الزور وحمص، ويختتمه من مجازر جبل الزاوية؛ أكثر إعجازاً، أرقى أداءً، أعظم مقاومة، وأعلى قدرة على توحيد الصفّ الوطني ودحر دسائس النظام على اختلاف أغراضها الخبيثة. المرء يستعيد ذكرى أميرالاي، الذي لم يبصر الانتفاضة؛ وإبراهيم القاشوش، الشهيد المغنّي الذي كانت حنجرته قد أصابت النظام بمسّ من جنون؛ مثلما يستذكر غياث غياث مطر، الرضيع الذي حمل اسم أبيه الشهيد الجميل؛ وعامر مطر، السجين الرقّاوي الرقيق؛ وأكثر من 7000 شهيد، و70 ألف أسير، و30 ألف مفقود مغيّب، وعشرات الآلاف من الجرحى… هو عام خواتم الأحزان السورية، مع ذلك، لأنه موعد تشييع نظام الاستبداد والفساد إلى ساعة الحساب، أمام الشعب، ثمّ إلى سلّة مهملات التاريخ.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.