صبحي حديدي : صحافة التبر وصحائف التراب
مارس بعض الصحافيين العرب رياضة فاضلة، حميدة تماماً، رغم أنها ليست البتة رائجة في السلوك العربي، هي النقد الذاتي، في صدد غياب الصحافة العربية عن التغطية الميدانية لوقائع الانتفاضة السورية. الزميل حازم الأمين، على سبيل المثال، اعتبر أنّ الغياب ‘فداحة’، وسؤاله ‘يلامس الإهانة أحياناً’، بالنظر إلى أنّ الصحافي العربي لم تتوفر له فرصة التغطية، في جانب يحتمل مقداراً من العذر، أو أنه استجاب إرادياً لقرار النظام السوري بمنع التغطية. في المقابل، يتابع الأمين: ‘لم يفعل غيرنا ذلك. فقد توجه إلى المدن السورية، وإلى أكثر النقاط سخونة عشرات من الصحافيين الغربيين الذين لا تمسّ سورية قضاياهم على نحو ما تمسّ قضايانا. وفي الوقت الذي كنا نقول إنهم يملكون حصانات تحميهم هناك لا نملكها، قضى منهم أربعة صحافيين وجرح آخرون’.
والحال أنّ أمثال ماري كولفن، ريمي أوشليك، أنتوني شديد، إديت بوفييه، وليام دانييلس، بول كونروي، خافيير إسبينوسا، شون ماكالستر، راميتا نافائي، دوروثي بارفاز، صوفيا عمارة، وآخرين أقرب إلى الجنود المجهولين، بين مصوّر ومنتج وتقني؛ وضعوا سلامتهم الشخصية على المحكّ، فعلياً، لكي ينقلوا شذرات من الحقائق على الأرض. ‘الحصانة’، اعتماداً على الجنسية، لم تكن عامل ترجيح لصالح المغامِر كما اتضح، إذْ قُتل البعض بقذائف الفرقة الرابعة (كولفن وأوشليك)، وقضى البعض بسبب ملابسات التسلل (شديد، الذي جازف بركوب الخيل لعبور الحدود التركية ـ السورية، رغم أنه كان مصاباً بطراز من الربو ذي حساسية قاتلة ضدّ الخيل)، واعتُقل البعض الآخر في زنازين أجهزة النظام الأشدّ وحشية (بارفاز وماكالستر)، ونجح آخرون في مغادرة البلد بعون من كوادر الانتفاضة…
ومع تقدير المرء لرغبة عشرات الصحافيين العرب في تغطية الانتفاضة على نحو يليق بالتضحيات الجسام التي بذلها ويبذلها الشعب السوري، وبالتاريخ اليومي الملحمي المجيد الذي تصنعه مئات القرى والبلدات والمدن؛ فإنّ الغياب العربي له أسباب أخرى، ذاتية وموضوعية، تُبقي الرغبة في إسارها الرغبوي الصرف، وتضع من العوائق ما يكفي لكي تتعثر الخطوة عند المتر الأخير قبيل عبور الحدود خلسة، لكي لا يقول المرء بأسى: حتى قبل أن تُخطى الخطوة! صحيح، كذلك، أنّ الصحافي العربي قد يلقى من أجهزة النظام السوري تنكيلاً أقسى من ذاك الذي يُخصص للصحافي الأجنبي، وليس من المرجح أن ترسل له بلاده طائرة طبية خاصة تنقله معززاً مكرّماً، أو أن ينتظر رئيس الدولة مواطنه الصحافي نصف ساعة على مهبط المطار لكي يحظى منه بمصافحة يتيمة، إذا شاء الأخير منحها أصلاً!
الصحيح، من جانب آخر، هو أنّ الغالبية الساحقة من الصحافيين العرب لم يتعودوا على هذه السوية الخاصة من حسّ المغامرة، حيث يمتزج الأداء العالي بالمجازفة القصوى، والضمير الحيّ بالعقل المتيقظ، والانحياز الأخلاقي بالموضوعية المهنية. وحين تتوفر استثناءات، وهي لامعة حقــــاً وجديرة بالإعجــــاب، فإنها في الأغلب لا تكسر القاعدة العامة؛ كما يحدث أنّ يكون ميدان التغطية محفوفاً بمخاطر أخرى سياسية وعقائدية، غير تلك الأمنية: كأنْ يجد أحدهم أن تغطية جرائم معمّر القذافي في ليبيا، لا تتناقض مع مناهضة تدخّل الحلف الأطلسي هناك؛ ولكنه يتحرّج من تغطية جرائم بشار وماهر الأسد في بابا عمرو، لأنه من أنصار ‘حزب الله’.
ذلك لا يعني غياب ‘ثقافة حربجية’، وعذراً لهذا النحت الخشن، قديمة ومتأصلة لدى العديد من الصحافيين العرب، مُورست وتُمارس عن يقين وانخراط تارة، وعن تملّق وزلفى تارة أخرى، وإنْ ظلت في معظم الأطوار واهية الصلة بميزان الذهب الذي يفرز الفوارق بين الحقيقة والضلال، وبين صحائف التبر وصحائف التراب. ولعلّ الكثيرين يتذكرون ‘ثقافة’ لطيف نصيف جاسم، وزير الإعلام العراقي الأسبق، الذي كان يسوق الصحافيين العرب، والكتّاب من ضيوف مهرجان ‘المربد’ أيضاً، إلى خطوط القتال العراقية ـ الإيرانية، وهم في الثياب العسكرية؛ وكيف، للمفارقة، أنّ البعض منهم كان يتسابق على التقاط صور ‘تذكارية’ أمام دبابة أو مدفع، يشفع بها ما سيدبج من ‘تغطيات’.
وأمّا الطرافة السوداء، فهي أنّ الكثيرين من أبطال تلك الصور انقلبوا رأساً على عقب بعد حرب الخليج الثانية، أي بعد انقلاب العراق من بئر نفط إلى بئر فاقة وجوع وحصار، فتباروا في شتم البلد والشعب والحضارة قبل ـ وأحياناً دون الإحساس بالحاجة إلى ـ شتم النظام نفسه. التتمة الأنكى، إذْ لا بدّ من هذه أيضاً، أنّ بعض البعض عاد إلى حاضنة النظام تائباً، حين اخترعت الأمم المتحدة حكاية ‘العقوبات الذكية’، وصار في الوسع التكسب مجدداً، عبر ‘بونات’ النفط التي افتُضحت قوائمها بعدئذ. وصدِّقوا أنّ جمهرة من هؤلاء هم اليوم أنصار النظام السوري، على سبيل ‘الممانعة’ كما يعلنون، ولكن لأنّ لهم في السرّ صرّة من ‘المال الطاهر’ الشهير، دون سواه!
وهكذا، أي مشاعر يمكن أن تتناهب الصحافي العربي الذي يقرأ، اليوم، شهادات بوفييه وكونروي وإسبينوسا وماكالستر، أو الدقائق الأخيرة من حياة شديد كما رواها زميله المصوّر تايلور هيكس؟ سؤال أهمّ: ما الذي سيتغيّر في باطن ضميره غداً، عندما تتكرر بابا عمرو في أيّ، وكلّ، بقعة سورية؟