زملاء
ياسين الحاج صالح : الدولة الظاهرة والدولة الباطنة في سورية
يقول «انشقاق» رئيس الوزراء السوري أشياء مهمة عن الدولة والسياسة في سورية.منها أن أحوال الدولة الظاهرة التي يشغل فيها رياض حجاب موقعاً متقدماً، الرجل الثاني في سلسلة الحكم في سورية بعد رئيس الجمهورية، لا تفيد شيئاً عن أحوال الدولة الباطنة التي لا نفاذ للسيد حجاب إليها، وهو لا يعدو كونه موظفاً محدود الأهمية في مراتبها. الدولة الــــباطنة، ما نســميه عموماً «النظام»، هي مركّب سياسي – أمني، قائم على علاقات الثقة الشـــخصية، ونواته الصلبة عائلية طائفية. أما الدولة الظــاهرة، ويغلب أن تسمى «الدولة»، فهي جملة الأجهزة والوظـــائف الــعامة المخفوضة القيمة التي تظهر أمام السوريين ويتعاملون معها في حياتهم اليومية: الحــكومة والإدارة والتعليم والشرطة والجيش العام والقضاء ومجلس الشعب .
هناك نقطة تقاطع عامة وحيدة للدولتين، تتمثل في رئيس الجمهورية الذي هو رأس كليهما. ومنه تتفرع الدولة الظاهرة، بما فيها «سلطة تشريعية»، هي في الواقع شبكة وسطاء عامة بين المجتمعات المحلية والسلطة المركزية، و «سلطة قضائية» تبيع العدالة للأقوياء. ومنها أيضاً الشرطة المختصة بأشد أنواع القمع ابتذالاً.
السيد رياض حجاب هو كبير موظفي «السلطة التنفيذية»، أو بالأحرى أحد كبارها. إذ حتى على مستوى الدولة الظاهرة قلما تطابق المراتب المعلنة مراتب السلطة الفعلية. والوزير أو الإداري الكبير الذي «يُزبِّط» أموره مع أجهزة الاستخبارات المتنافسة يحقق لنفسه سبقاً مهماً في نظام قائم على عدم ثقة الجميع بالجميع وخوف الجميع من الجميع.
الدولة الباطنة لا تظهر علناً، ولا تخاطب السوريين إلا من وراء حجاب، وهي تحتكر العنف الداخلي، وتعتمد عليه اعتماداً واسعاً، مع تمتع كبارها بحصانة تامة. عنف الدولة الباطنة تمييزي، انتقامي، وله وظيفة ردعية، واستباقي غالباً.
أما الأجهزة الحزبية و «الجبهة الوطنية التقدمية» فتشغل منزلة بين منزلتي الدولتين، لكنها في العموم أقرب إلى الدولة الباطنة. فلا يكفي وزراء أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» أن يحسبوا على أحزاب تابعة لحزب «البعث»، عليهم بدورهم «تزبيط» أمورهم مع الاستخبارات كي يهنأوا بمناصبهم، وليكونوا أقوى في أحزابهم ذاتها.
قبل الثورة كان التمايز بين الدولتين مقدراً، وكان المثقفون والناشطون السوريون يميزون عموماً بين الدولة والسلطة، ويقال عادة إن الأخيرة التهمت الأولى. ليس هذا التمييز مرهفاً بمقدار ما يلزم، لكنه يكفي للإشارة إلى علاقة استيلاء للسلطة الخاصة على الدولة العامة. بعد الثورة سارت الأمور في اتجاه تآكل الدولة الظاهرة التي كانت «تنشق»، فيما الدولة الباطنة تنكمش وتتصلب. ما يخطئ في تقديره مراقبون خارجيون ووسائل الإعلام هو حسبان تآكل الدولة الظاهرة على الدولة الباطنة، أو افتراض أن الانشقاقات تسير في خط مستقيم نحو انهيار النظام. في واقع الأمر نطاق الانشقاقات، العسكرية منها والديبلوماسية والحكومية، قلما يطاول النظام أو الدولة الباطنة. صحيح أن أشخاصاً من الأجهزة الأمنية انشقوا، لكنهم، فوق قلتهم، يشغلون مواقع غير أساسية في النواة الصلبة للدولة الظاهرة. وهذه النواة هي موطن غريزة بقاء النظام ومبدأ استمراره. لذلك، يمكن تصور انهيار واسع للدولة الظاهرة، ليس من دون أن يمس ذلك الدولة الباطنة، بل وأن يؤدي بها إلى مزيد من التصلّب والانغلاق على نفسها والعدوانية القصوى ضد غيرها، كما هو حاصل اليوم.
معركة النظام اليوم عدمـــية بكل معـــنى الكلمة، لم يعد لها هدف إيجابي ولو من نوع استعادة الســـيطرة على البلد، بل إلحاق أكبر مقدار من التدمير والموت بمن تجاسروا على التمرد عليها، ولو قاد ذلك إلى دمار ســـورية كلها، وهو يقود فعلاً. ليس شعار «الأسد أو لا أحد» أو «الأسد أو نحرق البلد» غير تعبير عميق عن هذا النازع العدمي المنقوش في غريزة بقاء النظام. ستكون سورية أرضاً محروقة لا حياة فيها، بلد اللاأحد، إلا إذا استكان السوريون لقاتلهم. وبالفعل ليس هناك تكثيف لما يجري في سورية منذ 17 شهراً أفضل من هذا الشعار.
ماذا تفعل الدولة الباطنة؟ بصفتها غريزة بقاء، فإن وظيفتها الجوهرية تهديد بقاء من قد يهددها أو يمثل خطراً عليها. وكي تكون لهذا التهديد صدقية عليها فعلاً أن تقتل ولا تتهيب القتل والتوسع فيه. والواقع أنها تحلّت بمقدار طيب من الصدقية في قدرتها على القتل دوماً. وما كان أُخِذ على بشار الأسد في سنوات حكمه الأولى من أنه يفتقر إلى غريزة القاتل، خلافاً لأبيه، يظهر اليوم حكماً متعجلاً. إنجازات الرجل القاتل وأخاه في هذا الشأن لا تخجل في شيء من إنجازات الوالد والعم في حلب وحماة وإدلب وتدمر قبل جيل. بل هي في برنامج حرق البلد في سبيلها إلى تحقيق إنجاز غير مسبوق، يسجل بحروف من دم ونار في سجل إنجازات «الحركة التصحيحية المباركة» والأسرة الأسدية.
هذا ما يعرفه السيد رياض حجاب وأمثاله جيداً. لذلك، لم ينشق وأمثاله عن النظام قبل أن يؤمنوا أسرهم كلها خارج البلد وبعيداً من اليد الباطشة للدولة الباطنة. سبق أن فعل ذلك عبدالحليم خدام، ثم مناف طـــلاس أخـــيراً. وسبق أن شهدت شخـــصياً كامل أسرة إبراهيم اليوسف، الضابط الذي نفذ مجزرة المـــدفعية في حلب عام 1979 في الســجن، أبوه وأمه وإخوته وزوجته، من دون ذنب شخصي لأي منهـــم. وكان قُتل أيـــضاً شــقيق وزير الداخلية غازي كنعان بعد أسابيع قليلة من «انتحار» الأخير في خريف 2005. وأثناء الثورة تواترت معلومات عن قتل إخوة المقدم حسين الهرموش، أحد أقدم المنشقين عن الجيش الأسدي.
في هذا ما يلقي ضوءاً على قلة المنشقين من ديبلوماسيي النظام ورجال حكومته. يعرفون جيداً أي قلب وأي ضمير لدى هذا النظام الذي يخدمونه.
وما نستخلصه من كل ما سبق أن النظام أو الدولة الباطنة هي المنظمة الأكثر سرية وعنفاً وتطرفاً وفئوية في سورية. وبينما يبدو نافلاً القول إن هذا يقوّض الدولة بصفتها المقر الرسمي للعلنية والسياسة والاعتدال والعمومية، فإن ما في سبيله إلى الانهيار اليوم ليس الدولة كمؤسسة حكم فقط، وإنما الدولة ككيان سياسي تاريخي، الكيان السوري، بلد السوريين ووطنهم.
السيد رياض حجاب هو كبير موظفي «السلطة التنفيذية»، أو بالأحرى أحد كبارها. إذ حتى على مستوى الدولة الظاهرة قلما تطابق المراتب المعلنة مراتب السلطة الفعلية. والوزير أو الإداري الكبير الذي «يُزبِّط» أموره مع أجهزة الاستخبارات المتنافسة يحقق لنفسه سبقاً مهماً في نظام قائم على عدم ثقة الجميع بالجميع وخوف الجميع من الجميع.
الدولة الباطنة لا تظهر علناً، ولا تخاطب السوريين إلا من وراء حجاب، وهي تحتكر العنف الداخلي، وتعتمد عليه اعتماداً واسعاً، مع تمتع كبارها بحصانة تامة. عنف الدولة الباطنة تمييزي، انتقامي، وله وظيفة ردعية، واستباقي غالباً.
أما الأجهزة الحزبية و «الجبهة الوطنية التقدمية» فتشغل منزلة بين منزلتي الدولتين، لكنها في العموم أقرب إلى الدولة الباطنة. فلا يكفي وزراء أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» أن يحسبوا على أحزاب تابعة لحزب «البعث»، عليهم بدورهم «تزبيط» أمورهم مع الاستخبارات كي يهنأوا بمناصبهم، وليكونوا أقوى في أحزابهم ذاتها.
قبل الثورة كان التمايز بين الدولتين مقدراً، وكان المثقفون والناشطون السوريون يميزون عموماً بين الدولة والسلطة، ويقال عادة إن الأخيرة التهمت الأولى. ليس هذا التمييز مرهفاً بمقدار ما يلزم، لكنه يكفي للإشارة إلى علاقة استيلاء للسلطة الخاصة على الدولة العامة. بعد الثورة سارت الأمور في اتجاه تآكل الدولة الظاهرة التي كانت «تنشق»، فيما الدولة الباطنة تنكمش وتتصلب. ما يخطئ في تقديره مراقبون خارجيون ووسائل الإعلام هو حسبان تآكل الدولة الظاهرة على الدولة الباطنة، أو افتراض أن الانشقاقات تسير في خط مستقيم نحو انهيار النظام. في واقع الأمر نطاق الانشقاقات، العسكرية منها والديبلوماسية والحكومية، قلما يطاول النظام أو الدولة الباطنة. صحيح أن أشخاصاً من الأجهزة الأمنية انشقوا، لكنهم، فوق قلتهم، يشغلون مواقع غير أساسية في النواة الصلبة للدولة الظاهرة. وهذه النواة هي موطن غريزة بقاء النظام ومبدأ استمراره. لذلك، يمكن تصور انهيار واسع للدولة الظاهرة، ليس من دون أن يمس ذلك الدولة الباطنة، بل وأن يؤدي بها إلى مزيد من التصلّب والانغلاق على نفسها والعدوانية القصوى ضد غيرها، كما هو حاصل اليوم.
معركة النظام اليوم عدمـــية بكل معـــنى الكلمة، لم يعد لها هدف إيجابي ولو من نوع استعادة الســـيطرة على البلد، بل إلحاق أكبر مقدار من التدمير والموت بمن تجاسروا على التمرد عليها، ولو قاد ذلك إلى دمار ســـورية كلها، وهو يقود فعلاً. ليس شعار «الأسد أو لا أحد» أو «الأسد أو نحرق البلد» غير تعبير عميق عن هذا النازع العدمي المنقوش في غريزة بقاء النظام. ستكون سورية أرضاً محروقة لا حياة فيها، بلد اللاأحد، إلا إذا استكان السوريون لقاتلهم. وبالفعل ليس هناك تكثيف لما يجري في سورية منذ 17 شهراً أفضل من هذا الشعار.
ماذا تفعل الدولة الباطنة؟ بصفتها غريزة بقاء، فإن وظيفتها الجوهرية تهديد بقاء من قد يهددها أو يمثل خطراً عليها. وكي تكون لهذا التهديد صدقية عليها فعلاً أن تقتل ولا تتهيب القتل والتوسع فيه. والواقع أنها تحلّت بمقدار طيب من الصدقية في قدرتها على القتل دوماً. وما كان أُخِذ على بشار الأسد في سنوات حكمه الأولى من أنه يفتقر إلى غريزة القاتل، خلافاً لأبيه، يظهر اليوم حكماً متعجلاً. إنجازات الرجل القاتل وأخاه في هذا الشأن لا تخجل في شيء من إنجازات الوالد والعم في حلب وحماة وإدلب وتدمر قبل جيل. بل هي في برنامج حرق البلد في سبيلها إلى تحقيق إنجاز غير مسبوق، يسجل بحروف من دم ونار في سجل إنجازات «الحركة التصحيحية المباركة» والأسرة الأسدية.
هذا ما يعرفه السيد رياض حجاب وأمثاله جيداً. لذلك، لم ينشق وأمثاله عن النظام قبل أن يؤمنوا أسرهم كلها خارج البلد وبعيداً من اليد الباطشة للدولة الباطنة. سبق أن فعل ذلك عبدالحليم خدام، ثم مناف طـــلاس أخـــيراً. وسبق أن شهدت شخـــصياً كامل أسرة إبراهيم اليوسف، الضابط الذي نفذ مجزرة المـــدفعية في حلب عام 1979 في الســجن، أبوه وأمه وإخوته وزوجته، من دون ذنب شخصي لأي منهـــم. وكان قُتل أيـــضاً شــقيق وزير الداخلية غازي كنعان بعد أسابيع قليلة من «انتحار» الأخير في خريف 2005. وأثناء الثورة تواترت معلومات عن قتل إخوة المقدم حسين الهرموش، أحد أقدم المنشقين عن الجيش الأسدي.
في هذا ما يلقي ضوءاً على قلة المنشقين من ديبلوماسيي النظام ورجال حكومته. يعرفون جيداً أي قلب وأي ضمير لدى هذا النظام الذي يخدمونه.
وما نستخلصه من كل ما سبق أن النظام أو الدولة الباطنة هي المنظمة الأكثر سرية وعنفاً وتطرفاً وفئوية في سورية. وبينما يبدو نافلاً القول إن هذا يقوّض الدولة بصفتها المقر الرسمي للعلنية والسياسة والاعتدال والعمومية، فإن ما في سبيله إلى الانهيار اليوم ليس الدولة كمؤسسة حكم فقط، وإنما الدولة ككيان سياسي تاريخي، الكيان السوري، بلد السوريين ووطنهم.