حوار مع المعارض السوري البارز رياض الترك: عن الطائفية والحرب الأهلية والثورة السلمية والسلاح والجهاديين والمعارضة ونفاق أمريكا
نحن اليوم على أعتاب العام الثاني من اندلاع الثورة السورية، ألا تعتقد معي أن التفاؤل الذي أبديته سابقا بانتصارها، جاء متسرعاً بعض الشيء، فالمسألة قد تطول، خصوصا وأن النظام لا يزال يقاتل حتى اليوم؟
لا، أبداً. ما زلت إلى اليوم متفائلاً. فالزمن، لا يعني هنا الشيء الكثير، مقارنة مع عمق التحولات التي نعيشها. علينا ألا ننسى أن هذا النظام نسج على مدى عقود طويلة شبكة واسعة من العلاقات والمصالح والتحالفات، على المستويات الداخلية والاقليمية والدولية كافة. فمعركتنا معه لها امتداداتها على كامل المنظومة الإقليمية والدولية. هنا لا أستثني أغلب القوى الغربية التي لا تزال قلقة من الثورة ومن عقابيلها. هؤلاء لا يعنيهم انتصار مُثُل الحرية والديمقراطية، وما يهمهم هو الحفاظ على استقرار المنطقة وضمان أمن إسرائيل.
إن منبع تفاؤلي هو أن الشعب السوري عاد من جديد ليكون الرقم الصعب في هذه المعادلة المركبة والمعقدة، بعد أن ظنت السلطة أنها نجحت في تحويله إلى شعب مدجن ومستعبَد، لن تقوم له قائمة. إن شعار “الأسد إلى الأبد” هو أبلغ تعبير عن هذا الغرور الذي أرادوا أن يرسخوه في أذهان الناس.
كيف تفسر هذا التقاعس الغربي عن دعم الثورة السورية، ووقوفه موقف المتفرج أمام نظام يقصف شعبه ويدمر مدنه بالمدافع والدبابات والطائرات، في سابقة لم يعرف التاريخ الحديث لها مثيلاً؟
أكاد أقول إن هذا الغرب هو في مكان آخر عندما يتعلق الأمر بسورية، وكأنها في نظرهم الوجه الآخر للجهاديين المتطرفين الذين يدّعي مخافتهم. وبالتالي فإنه لا مانع لدى بعض دوائر القرار هناك من تدمير سورية وتفكيك مجتمعها.
أما الحجة في تقاعسه، فهي خوفه الكاذب من الوقوع في الفوضى والتطرف الإسلامي والانزلاق إلى الحرب الطائفية. فنحن هنا أمام مركزية غربية في النظرة إلى الشرق، تمتد جذورها الى القرن السابع عشر، والتي تستند إلى خلفية كولونيالية استعمارية متشربة بالعداء العميق للإسلام، أو ما يمكن تسميته مجازا بـ”ثقافة الرجل الأبيض”. هذه الثقافة لا تزال إلى اليوم تحاجج بأن العرب والمسلمين غير مؤهلين للديمقراطية. إنها تمعن في التأكيد على المقولة القديمة والسائدة حتى الآن: “الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا”. في حين أن نضالات الكثير من الشعوب في العصر الحديث، بما فيها نضالات شعبنا العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى ثورات الربيع العربي من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم، تؤكد إمكانية تلاقي الشرق مع الغرب على قاعدة مبادئ حقوق الإنسان التي أسس لها الغرب الحضاري، وعلى رأسها التأكيد على حق الإنسان في الحياة، وفي رد الموت عن نفسه وعن أطفاله.
قد يقول قائل هنا، كيف التفاؤل وأين النصر، وهناك مدن مدمرة بالكامل، وأكثر من أربعين ألف قتيل، ومئات ألوف الجرحى والمعتقلين وملاين المهجرين، وهناك نظام لا يزال يحافظ على قدر معين من تماسك قواته العسكرية والأمنية، وهناك تقاعس عربي ودولي، وهناك خطر الحرب الأهلية؟
بداية، أنا لا أعتقد أننا ذاهبون إلى حرب أهلية. هذا ما يريده النظام، وهذا ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية، لتبرر موقفها المتقاعس تجاه ثورة الحرية والكرامة، وإصرارها على إيجاد تسوية وفق منطق “لا غالب ولا مغلوب”. حقيقة الأمر أن الإدارة الأمريكية لا تقبل أبداً بالانتصار الكامل للثورة. فموقفها في المحصلة لا يختلف عن الموقف الروسي، إلا في كون الموقف الأمريكي ذكياً والثاني غبياً أحمق. هم يريدون إنهاك الطرفين لإيصالهم إلى حل على الطريقة اللبنانية، وفقا للمنطق الذي أشرت إليه: “لا غالب ولا مغلوب”.
في ظل هذا السياق يمكن أن تتحول “اتفاقية جنيف” إلى بازار بين الروس والأمريكيين، ثمنه التوافق على إزاحة بشار الأسد، والاتفاق على حكومة هجينة تحافظ على بعض مؤسسات النظام، مضافاً إليها بعض رموز المعارضة المدجنة. بهذا المعنى يمكن أن نفهم خلفية الطروحات التي يقدمها الوسيط الدولي ـ العربي الأخضر الإبراهيمي. وبهذا المعنى أيضاً يمكن للروس أن يحققوا بعضاً من طموحاتهم ومطالبهم. كما يحقق الأمريكان من خلال هذا النظام الهجين شيئاً من العودة إلى “الاستقرار” وضمان أمن إسرائيل.
مع ذلك فالمسألة الكبرى اليوم ليست فيما تسعى إليه بعض الدول الكبرى، بل فيما يجري على أرض المعركة داخل سورية. من هذه الزاوية علينا أن نلاحظ ما يلي:
1 ـ تحول المعركة لصالح الثورة، التي تحقق يومياً انجازات هامة في توسع رقعتها وتحرير المزيد من الأراضي.
2 ـ بنيتا النظام، الآلة العسكرية والآلة القمعية، في طريقهما إلى التفكك والانهيار. فهما في المعركة على الأرض منهزمان باستمرار، ولم يبق لهما سوى القوة النارية من الطائرات والمدفعية والدبابات وراجمات الصواريخ. فهي في المحصلة تؤخر تقدم الثوار لكنها لا تلغيه.
3 ـ سلوك النظام المتوحش الذي يستهدف السكان العزل، والذي وصل إلى درجة الإبادة، قد حطم كل الجسور التي يمكن أن تؤدي إلى مخارج سياسية يرتضيها الشعب والثوار. وهذا سيؤدي في النهاية إلى هزيمته رغم فداحة الخسائر البشرية والمادية التي أشرت إليها في سؤالك. لكن هذا القناعة لن تمنعنا من أن نطالب المجتمع الدولي القيام بواجبه الإنساني للجم آلة القتل، وإيقاف حملة الإبادة التي يتعرض لها شعبنا، والتي ننظر إليها كأولوية انطلاقاً من المبدأ الإنساني والقاضي بحق الإنسان السوري في الحياة ورد القتل عن نفسه.
ما هي برأيك اليوم أولويات الثورة، في ظل التقاعس الدولي وإجرام النظام المنقطع النظير والثمن الباهظ الذي لا ينفك شعبنا عن دفعه؟
إن أولى الأوليات كانت ومازالت: إسقاط النظام، مهما غلى الثمن وكبرت التضحيات. وإذا كانت المهمة الملحة التي تتقدم على كل شيء اليوم، هي إيقاف القتل والإبادة، فلا شك أن أقصر الطرق وأسلمها لتحقيق ذلك هي في تسريع إسقاط النظام، وليس في إيجاد الحجج والعراقيل لإطالة عمره، كما يفعل العديد من الدول. فالأهوال التي تحيق بشعبنا، يُسأل عنها ويتحمل مسئوليتها المجتمع الدولي، ومن خلفه بعض الدول الكبرى التي وقفت تتفرج على شعبنا وهو يقصف ويباد بالطائرات والدبابات والبراميل المتفجرة، في سابقة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً. ورغم ذلك تدفعنا بعض الدول الكبرى إلى تسويات تشكل في مضمونها خيانة لأهداف الثورة.
لكن سورية هي اليوم في صلب المعادلة الإقليمية والدولية، فنحن محكومون، شئنا أم أبينا، بأخذ التوازنات الدولية بعين الاعتبار. يكفي أن نتذكر في هذا الإطار أن استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي كان محكوماً هو الآخر بمعادلات نهاية الحرب العالمية الثانية وبالتنافس الإقليمي بين الإنكليز والفرنسيين؟
سؤالك فيه شيء من الصحة، لكنه يعود إلى حقبة تاريخية تختلف عما نعيشه الآن، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي. فالتسوية التي تسعى إليها الولايات المتحدة ضارة جداً، ولا أعتبرها مخرجاً سياسياً إذا قسناها على ما يجري في أرض المعركة، والتي تشير إلى إمكانية إنزال الهزيمة بهذا النظام. يضاف إلى ذلك يأس حلفاء النظام الذين أعطوه فرصاً عديدة، لكنه ينتقل من فشل إلى فشل، ومن وحشية إلى وحشية أشد، الأمر الذي سيبرر الحاجة إلى الخلاص منه وإسقاطه. أعتقد أن المخرج السياسي السلمي الآن يتلخص في البحث عن طرق تؤدي إلى نقل السلطة إلى قوى الثورة، تبدأ من إزاحة الأسد والدخول في مصالحة وطنية عبر مؤتمر وطني يضع الأسس الدستورية والقانونية للانتقال إلى النظام الوطني الديمقراطي، الذي يوفر الحرية والمساواة والعدالة بين جميع مكونات المجتمع السوري (القومية والدينية والمذهبية) محافظاً على وحدة الأرض والشعب والقرار الوطني المستقل.
في ظل تآكل السلطة المركزية في مواجهة الثورة، وتفكك قبضتها العسكرية والأمنية من الأسفل شيئاً فشيئاً، هل هناك خطر من أن تنهار الدولة السورية مع انهيار السلطة الإستبدادية، كما يتخوف البعض؟
موضوعة تفكك الدولة السورية هي كذبة كبيرة. وعلينا هنا التفريق بين أمرين، دولة المؤسسات والمصلحة العامة والتكنوقراط الشرفاء والكوادر البشرية المؤهلة، فهذه كانت قبل حافظ الأسد وستبقى بعده. أما الدولة السورية التي تعنينا هنا، بمعنى مشروعية وشرعية احتكار العنف وقوننته، فهذه الدولة تفككت منذ مجيء حافظ الأسد إلى السلطة. بل يمكنني القول إن إرهاصاتها بدأت مع انقلاب 8 آذار (مارس) 1963. لقد بنى هذا الدكتاتور دولة تسود فيها إرادة الرئيس بدلا من سيادة الدستور والقانون والمؤسسات ذات الوظائف المتنوعة. على أرض الواقع أقام الأسد دولته على ثلاث ركائز، ترتبط مباشرة بشخصه خارج أي إطار دستوري أو قانوني: أمن خارجي ـ اقليمي يتكفل به الجيش، الذي تحولت وظيفته من جيش وطني إلى محتلّ في لبنان أو مشارك تحت الراية الامريكية في “عاصفة الصحراء”؛ وأمن داخلي، تتكفل به أجهزة المخابرات المنتشرة كالسرطان في جسم الوطن؛ وأمن اقتصادي، ينهب ثروات الوطن والمواطنين ويسخرها لخدمة الطغمة الحاكمة، التي عاثت فساداً لا يطاق على مدى أكثر من أربعين عاماً. ففي ظل هذه الدولة الأمنية المستبدة لم يحصد شعبنا سوى الإذلال والقهر والتسلط والإفقار، ومن الطبيعي بعد نصف قرن أن يثور هذا الشعب ليعيد بناء دولته على النمط الذي قامت عليه بعد الاستقلال.
وُجهت لك في الآونة الأخيرة اتهامات من بعض أطراف المعارضة المجتمعة في الدوحة، ومن بعض الدبلوماسيين الامريكيين والفرنسيين، ومن بعض الصحف العربية، بأنك تحمل عقلية ديكتاتورية، وأنك حاولت عرقلة ولادة الائتلاف الوطني. ما هو ردك؟
حقيقة لا أريد الدخول في هذه المتاهات، لكنني أريد أن أقول إنني منذ خروجي من السجن كنت في صفوف الداعين إلى التجديد، وتخليت عن مناصبي الحزبية كأمين أوّل لحزب الشعب الديمقراطي السوري، وعدت الى حيث أريد وأنتمي، بعيداً عن الأضواء والمناصب والصفوف الأمامية. من هنا فان أساس الخلاف مع بعض أطراف المعارضة سياسي، وليس صراعاً بين أشخاص. فأنا أرفض أن أنجر إلى مماحكات لا طائل من ورائها، كما أعتبر هذا الهجوم شرفاً لي بصفتي ملتزماً بما قرره ويسير عليه الآن “إعلان دمشق”، في جميع معالجاته السياسية، في هذه المرحلة الدقيقة من حياة البلاد. فالتاريخ هو الذي سيحكم في النهاية، خاصة حول مدى دقة، وصحة، المواقف السياسية التي سرت وأسير عليها.
كيف تقيّم اليوم تجربة “المجلس الوطني”، وهل تعتبر أن “الإخوان المسلمين” كانوا أكثر براغماتية من “إعلان دمشق”، بصفتهما القوتين الأساسيتن المشكّلتين للمجلس الوطني؟
يؤسفني القول إن “المجلس الوطني” بُعيدَ تشكيله لم يقم بالدور المطلوب منه في دعم الثورة، ولم يتحول إلى ممثل حقيقي لها، كما كانت تأمل فعالياتها. لقد تلهى بفتح دكاكين وخلق شلل وزعامات مصطنعة أدت إلى ظهور اصطفافات غرضها الرئيس السيطرة على هذا المكتب أو ذاك، والعمل لتحقيق مكاسب حزبية أو شخصية. لقد بادر “إعلان دمشق”، في رسائل عديدة، إلى تنبيه قيادة المجلس من المخاطر الضارة إزاء هذا السلوك، لكن النصائح والتحذيرات كانت تلاقي الصد والإهمال. لقد فضل الكثير من قياداته طرق أبواب السفارات ووزارات الخارجية طلباً للدعم والتأييد والمعونات، وحبذا لو اهتموا بالجاليات السورية والعربية وللمجتمعات المدنية التي يتواجدون فيها.
أما سؤالك عن براغماتية الإخوان المسلمين، فأعتقد أنهم يتحملون المسؤولية الرئيسية عن أغلب السلبيات التي أشرت إليها. هذه ليست براغماتية، وأخشى أن تصل معارضة الخارج إلى هذه النهاية المؤسفة، والتي يمكن أن يعبر عنها أفضل تعبير قيام “الائتلاف الوطني” الجديد.
ما هي تحفظاتك على الائتلاف الوطني الوليد؟ وكيف، ولماذا، وافق ؟المجلس الوطني” على الانضمام إليه في النهاية؟
الائتلاف الوطني هو عبارة عن تشكيل سياسي لقوى وأفراد متناقضين في الموقف السياسي من الثورة، فهو إذاً عملية سياسية غير مضمونة النتائج. أنا شخصياً لم أكن متحمساً له، وإن حقق في ظاهره ما تدّعي وتدعو إليه الولايات المتحدة الأمريكية، أي “وحدة المعارضة”. كنت ولا أزال متخوفاً من مستقبله، ومتوجساً، خصوصاً أنه أُسقِط بمظلة دولية. عدا هذا وذاك، الائتلاف يرتكز في واجهته على أفراد يسهل التعامل معهم، وليس على قوى وأحزاب سياسية فاعلة على الأرض.
“إعلان دمشق” لم يعترض على ولادة الائتلاف بعد أن أضيفت نقطتان هامتان إلى بيان التأسيس، وبالضد من رغبة الأمريكيين وبعض من يلوذ بهم، هما: إسقاط النظام بالكامل، وعدم الحوار معه. كذلك تمّ وضع شروط تتعلق بتشكيل الوزارة، بما يتناقض مع طلبات الدول الغربية. من هنا، و رغم الوعود الكثيرة بالإغاثة والتسلح المشكوك به، فأي محاولة لجرّ الائتلاف إلى عملية تفاوضية مع النظام ستسقطها الثورة.
للأسباب المذكورة أعلاه، لا أعتقد أن هذا الائتلاف سيشكل واجهة سياسية بديلة من “المجلس الوطني” الذي يُراد إسدال الستار عليه، وفقاُ لرغبة الأمريكيين. وكل الخوف أن تكون مهمة الائتلاف الحقيقية هي جرّ بعض المعارضين المدجنين إلى تسوية مع النظام، أو بعض أطرافه.
ما هي برأيك الخطوات الملحة اليوم، لتنظيم قوى الثورة، ولضبط العلاقة بين الداخل والخارج؟
المطلوب، اليوم، تشكيل مجالس تمثل فعاليات الثورة كافة، في كل حي وقرية، لتنظم شؤون الناس على الأرض في ظل غياب السلطة، وتوحيد فعالياتها على المستويين المدني والعسكري. وكما أعلم، تشكلت مجالس عديدة في أغلب المحافظات. لكن الأمر الهام هو في تشكيل مجالس على مستوى المدينة والمحافظة، وصولاً إلى مجلس أعلى يمثلها على مستوى البلاد.
أما السياسيون في المهجر فدورهم الأساسي يتحدد في تقديم الدعم السياسي والمادي والإعلامي لتنظيمات الداخل، بالتنسيق مع مجلسه الأعلى. فمركز ثقل الثورة السياسي، يجب أن يبقى في الداخل.
لكن عاملاً جديداً دخل في معادلة الثورة، يبدو مغيَّباً من كلامك. أعني به المقاتلين الجهاديين الذين يمتلكون أجندات خاصة، يحاولون أحياناً فرضها على الآخرين بقوة السلاح، وليس لهم أية مشروعية تمثيلية، ولا يؤمنون بأهداف الثورة في الحرية والكرامة، ولا يخضعون إلى أية آليات للمحاسبة أو الرقابة الشعبية؟
علينا أن لا نستبق الأحداث، وليبق نصب أعيننا أن هدف الثورة هو إسقاط النظام. أما صورة النظام السياسي لسورية المستقبل، أظنك توافقني أن المنتصرين هم الذين سيصنعونها. لذلك لا أنفي هذا القلق الذي أبديته في سؤالك، واسمح لي أن أضيف إليه قلقاً آخر، عندما تتحدث قوى خارجية عن بناء سورية الغد استناداً إلى المحاصصة الطائفية، أو كما يتحدث بعض الأكراد عن فدرالية في سورية.
هناك إذاً مخاطر محتملة، علينا أن نواجهها في حينها، هذا أولاً. وثانياً، علينا أن نثق بشعبنا الذي ثار من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية. وثالثاً، وهو الأهم، إذا انتصرت الثورة ستدخل سورية في العملية الديمقراطية، بمعنى أننا لن نلامس الديمقراطية فوراً، كأننا نغلق باب الاستبداد ونفتح باب الديمقراطية. لعل أهم مهمة لشعبنا، بعد الانتصار، هي أن نعمل على نفي أي استبداد آخر مهما كانت خلفيته أو شكله. ولا أدري كم سيطول الوقت لننعم بديمقراطية حقة، بعد حقب طويلة من الاستبداد التي مرت على بلادنا. مصلحتنا إذاً، كما أرى، هي ألا ندخل في أي صراع جانبي خلال المرحلة الحالية، حفاظاً على وحدة قوى الثورة.
كيف أصبحت العلاقة بين المعارضة الديمقراطية والحركة الكردية؟ ولماذا نشهد الآن فتوراً للحركة الكردية تجاه الثورة، مع تزايد المطالب بالفيدرالية؟
بعد أحداث 2004 تطورت العلاقة بين الحركة الكردية القومية والمعارضة السورية على نحو إيجابي، عبرت عنه وثائق “إعلان دمشق”، ثم وثائق “المجلس الوطني السوري”. إنها تتلخص في “الاعتراف بالحقوق القومية المشروعة للإخوة الأكراد ضمن وحدة سورية أرضاً وشعباً، وإلغاء القوانين التمييزية الجائرة التي طبقها نظام الاستبداد”. باعتقادي أن هذه المواقف المذكورة زادت من اللحمة بين الإخوة العرب والأكراد. بل يمكن القول أن هذه الطروحات كانت أكثر تطوراً وتقدماً من مناهج وطروحات الأحزاب الكردية. أما في ظل الثورة السورية، يبدو أن العلاقة بين الطرفين تراجعت، وسادها الفتور بسبب ترددات العديد من الفصائل الكردية وتحفظاتها تجاه أهداف الثورة. والأسوأ من ذلك أن البعض عمل على عرقلة حركة الشارع الكردي الثائر المنسجم مع الحراك الشعبي السوري العريض.
وبسبب التحالف بين “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” والسلطة، تشكلت ما سُمّيت بـ”لجان الحماية الشعبية”، التي تسلمت من النظام إدارة معظم المدن والبلدات في الشمال السوري. وبسبب سلوكهم الضار هذا، تشكلت بالمقابل “الجبهة العربية في الجزيرة”، الأمر الذي أجج الخلاف والصراع بين العرب والكرد. إن رفع سقف مطالب الإخوة الأكراد تحت مسميات كثيرة، غير واقعية ومرتجلة، ستؤدي إلى صراعات جانبية ليست في مصلحة الثورة ولا في مصلحة الكرد. فالمصلحة الوطنية العليا تتطلب توحيد جميع مكونات محافظة الحسكة، وصبها لصالح الثورة وتحرير هذه المحافظة من قوى النظام.
وباعتقادي أن قوى الثورة سوف تحرر جميع المواطنين عرباً وأكراداً من أسر النظام، وسوف تلبي المطالب المشروعة للإخوة الأكراد ضمن وحدة سورية أرضاً وشعباً.
ماذا بقي اليوم من النضال السلمي في الثورة السورية؟، وهل مازال للثورة السلمية من دور في ظل عسكرتها؟ ولماذا يحاول البعض وضعها في علاقة نفي متبادل مع النضال المسلح؟
لنكن واضحين في هذه المسألة. المبدأ الأخلاقي يدفع باتجاه النضال السلمي، فهو الأفضل والأسلم للجميع. الثورة بدأت سلمية، لكن النظام بعنفه دفعها نحو العسكرة، والثوار دُفِعوا دفعاً لحمل السلاح ليردوا القتل عن أسرهم. المشكلة اليوم أن البعض يحاول نزع حقك في الدفاع عن النفس، بحجة النضال السلمي. فالتوجه السلمي كان ولا يزال جزءاً لا يتجزأ من ثورتنا السورية، ففي كل مرة استطاع السوريون التظاهر بعيداً عن قصف الدبابات والطائرات، رأيناهم فاعلين. فالنضال المسلح إذاً حالة مؤقتة واضطرارية. نأمل بعد أن يسقط النظام ألا نلجأ إلى العنف في حل مشاكلنا، وأن نجمع السلاح ونسلمه للدولة.
كيف تفسر عودة الطائفية والعنف والكراهية، إلى قلب السياسة والاجتماع السوريين؟
السبب الرئيسي لهذه الظاهرات أتى من شهوة الحكم وتكالب آل الأسد على السلطة، كملكية خاصة وليس شأناً عاماً تتداوله قوى المجتمع نتيجة انتخابات عامة، فهم بتمسكهم بالسلطة مستعدون لاستباحة كل المحظورات للمحافظة عليها. علينا هنا أن لا نهمل الجانب التاريخي المتعلق بالتمييز الطبقي والديني والطائفي، فنحن للأسف نحمل إرثاً قديماً من المظالم والأحقاد. فليس أمامنا سوى التحول الديمقراطي الذي يمكن أن يحل هذه التناقضات، ويعالجها وفق مبادئ المواطنة والمساواة والعدل.
كيف تفسر بقاء جزء هام من الطائفة العلوية خارج الثورة؟
إذا ألقينا نظرة على ثورات العالم، نجد أن أياً منها لم ينجح في جذب كل فئات المجتمع للانخراط فيها. مع ذلك أظن أن الثورة السورية حققت نسبة عالية من المشاركة الشعبية. فدوائرها مازالت تتسع على مختلف المستويات الطبقية والاجتماعية. لنتذكر جميعاً أقوال المشككين في البداية، الذين كانوا يعتبرون غياب مدينتي حلب ودمشق عن المشاركة كأحد الأدلة على ضعف الثورة واحتمال فشلها. فماذا يقولون الآن بعد أن دخلتا بقوة في معمعانها؟
من هنا ليس علينا إلا الصبر والتفاؤل في أن غالبية إخواننا العلويين سيدخلون الثورة عاجلاَ أو آجلا، رغم محاولات لبنظام المستميتة لتجنيدهم من حوله، وربطهم به من خلال شبكة من المصالح والولاءات. نحن إلى اليوم لم ندخل في حرب أهلية ولكننا نُدفع اليها دفعاً، وعلينا أن نعي أن خدمة أهداف النظام، وهي أيضاً خيانة للثورة، تكون بتعميم منطق طائفي يرى في الثورة السورية صراعا سنياً ـ علوياً، ويقوم على إلغاء طرف للطرف الآخر. من هنا علينا أن نكون غاية في اليقظة والحذر من الوقوع في مطبات الطائفية، مهما قسى النظام ونكل بالمواطنيين، ومهما خرج الناس العاديون عن طورهم وانزلقوا في مهاوي الطائفية.
لذلك ليس علينا سوى الصبر والتفاؤل تجاه الفئات الأخرى التي لم تنخرط بعد، ولا أعتقد أن النظام سينجح في مصادرة الطائفة العلوية، وهي ستتخلى عن النظام لأن مصالحها الأساسية هي في العيش بسلام مع باقي الطوائف، وخاصة بعد سلوك السلطة المتوحش. وسيسارع العقلاء من أبناء الطائفة، لإيجاد مخارج من شأنها أن تمنع النظام من مصادرة طائفتهم.
هل تعتقد أن “إتفاق طائف” على الطريقة اللبنانية، يمكن أن يرى النور في سورية؟
المعركة في سورية تدور ضد الاستبداد، وليست صراعاً بين الطوائف. فأي محاولة محلية أو عربية أو دولية لمقاربة الثورة السورية بمنطق المحاصصة والتسويات بين الطوائف على الطريقة اللبنانية، سيكون مصيرها الفشل. فبعد المعاناة والأهوال التي يلاقيها المجتمع من هذا النظام المتوحش، من الصعب الحديث عن حلول لا تستجيب لتطلعات شعبنا في الحرية والديمقراطية، في وجه نظام لم يعد يملك الحق في البقاء بعد كل الجرائم التي ارتكبها.
ثورتنا هي ثورة على الظلم والقهر والاستعباد، لذا فالثورة منتصرة حتى لو تعثرت أو حاول إفشالها التآمر الدولي. هذا النظام سائر، وينبغي أن يسير، نحو الزوال. وإذا كان إرساء نظام ديموقراطي في سورية ما بعد الأسد ليس بالأمر السهل المنال، فإن القوى الثورية ستدخل العملية الديمقراطية، وستعمل على نفي أي استبداد جديد، وستؤسس للمصالحة الوطينة، وستبني دولتنا على أساس دستور مدني ديموقراطي يساوي بين الموطنيين بصرف النظرعن قوميتهم أودينهم أوتوجههم السياسي.
سبق لك، في مقالة شهيرة عنوانها “لن تبقى سورية مملكة الصمت”، نشرتها في هذه الصحيفة، أن طلبت من بشار الأسد: إما أن يعدل، أو يعتزل. ترى هل هناك، بعد كل الأهوال التي عاشها ويعيشها شعبنا السوري، من شيء تريد أن تقوله له؟
بشار الأسد جزء من هذا النظام الذي أسسه والده، وما سيقع على النظام سيقع عليه في النهاية. من هنا لا شيء عندي لأقوله لهذا الدكتاتور الابن، وهو في خريف عمره السياسي، سوى أن يتنحى ويسلم السلطة لقوى الثورة، حقناً للدماء وحفاظاً على ما تبقى من مقدرات البلاد، وبالتالي يبقى الصراع في سورية وليس عليها، وإلا سيلقى مصيره الأسود
القدس العربي ٧ كانون الاول ٢٠١٢