هـــلا جــديد : العائدون من جحيم الموت ، النائمون في خيام البؤس
1- إعدام ميداني
كنت أسمع عبارة “إعدام ميداني” بشكل يومي تقريباً في الفترة الأخيرة من السنتين الماضيتين، أصبحت جزءاً من مفردات أخبارنا اليومية التي تشعرك أن الموت ينهش الوطن والإنسانية. لكنها تمر كما تمرّ مفردات اخرى إلى أن التقيت “أحمد” في الأردن، شاب في السابعة عشر من عمره من ريف دمشق.
حين كنت أسجّل حالته في المستشفى طلبت منه أن يحكي لي عن سبب قطع رجله اليسرى.
قال لي: “أطلقوا علينا الرصاص أنا وابن عمي !”
– “كيف أطلقوا عليك الرصاص يا أحمد ؟”
– “أعدمونا ميدانياً !”
فجأة توقف القلم وآلة التسجيل والكون بأكمله. نظرت في عينيه، لا أعرف إن كانت لحظات أم ساعات تلك التي فصلت بين لحظة نطقه لتلك الجملة، واللحظة التي عاد فيها الدم الى وجهي و الإحساس الى قدميّ.
سألته : “عفواً!”
– “إيه .. أعدمونا ميدانياً … ابن عمي مات وأنا أخفيت رعشتي وزحفت بعد أن رحلوا إلى أن شاهدني الثوار وأنقذوني … لم يكن بالإمكان إنقاذ ساقي لقلّة المواد الطبية المتوفرة فبتروها”.
مفردات اللغة تنتهي حين تكون وجهاً لوجه مع “العائدين من الموت”. مازلت أقف عند نفس الجملة كلما حاولت كتابة قصته.
2- اعترف
حين كنت أستمع إلى مساعد الطبيب النفسي وهو يسرد لي القصص التي لا يصدقها عقل ولا تحتملها روح، انتبهت إلى أنه كلّما كان يأتى على ذكر “علي” و “الطائفة “، لم يكن ينسى أن يقول: علي “كرم الله وجهه” و الطائفة العلوية “الكريمة”، في مَعرض قصص أقلّها ذبح وقتل واغتصاب. هو لم يكن يعرف مِن أيّة طائفة أنا، ولم يسألني عنها حتى.
طبعاً أنا في كلّ مرّة كنت أتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعني بسبب خوفي وضعفي وعجزي. أعترف أنيّ لم أملك القوة الكافية التي ملكها هو في تجاوز هذه التفاصيل الصغيرة التي أصبحت مؤخراً متل الختم على عقولنا.
رغم انهزامي، بيني وبين نفسي أحسست بنوع من الراحة والأمل. أحببت أن أصدق ولو للحظة أن سوريا ستكون بخير .
3- كطير ذبيح
في جلسة وديّة كنت فيها مع أربع نساء، نتحدث عن الموت والقتل والأهوال التي حلّت بالناس والبلد. نبكي تارة و نضحك اخرى، لنتأكد أننا مازلنا أحياء. لفت نظري أن من كان يضحك بينهنّ أكثر هي الفتاة التي تعرضت للاغتصاب! كانت “كالطير يرقص مذبوحاً من الألم!” كانت تضحك بصورة لافتة للنظر، لكن عينيها “الجميلتين” كانتا منكسرتين. لم تكن تقوى على أن تقاطع نظراتها بنظراتنا أكثر من ثوان.
وفي معرض الحديث رددت: “الحل الوحيد كي ننسى هو أن نرمي التراب فوق تلك الجيفة الميتة حتى تفتتها الأرض و تتلاشى رائحتها. كلّما رمينا التراب فوقها بكثرة و بسرعة كلّما سارعت عملية التفتت”.
حين سألتني ما اسم ابنتي خجلت أن أقول لها أن اسمها “عايدة ” كاسمها.
يارب رحمتك من كلّ هذا الوجع .
4- تصميم
تلك السيدة التي لن أنساها، لم تقل لي لماذا اقتلعوا عينها اليسرى. هي نفسها لا تجد أيّ تفسير لإجرام مماثل. فقط أخبرتني انها لفت وجهها والدم كان يسيل بشدة. أخذت ولديها الصغيرين ومشت ساعات وساعات إلى أن وصلت إلى الحدود الأردنيّة. هناك ارتمت من شدة التعب والنزف. إستفاقت لتجد نفسها في المشفى في حالة يرثى لها.
سيدة ميسورة الحال أشفقت على حالها و تبرعت بتكاليف عملية تضمن لها تركيب عين اصطناعية.
اليوم حين تزروها تُصرّ على أن تقدّم لك القهوة والشاي في بيتها المكوّن من حصيرتين وفرشتين. تستقبلك بكلمات الترحيب والشكر لله عزّ وجلّ الذي حمى لها عينها الثانية حتى تستطيع أن ترى النصر قريباً. يكفيني ما فهمته هذه اللحظة، فأنا على يقين تام بأن شعب كهذا لن يُهزم .
5- عايدة
– “بس أنا ما قربوا علي. .كنت أسمع أصوات باقي الفتيات وأتكور على نفسي من الخوف… كنت خاف أشرب أو آكل مشان ما يكونوا حاطين لي شي بالأكل… كنت سدّ اذنيي مشان ما أسمع أصوات هالبنات عم يصرخوا… بس أنا الحمد الله ما قربوا عليي”.
– “الحمد الله” …
– “بس هداك المجنّد حماني ترى … إيه هو منن فهمتي عليي بس حماني … هو رفيق ابن عمي من زمان وقال لي ما رح يصير عليكي شي اطمني إنت متل أختي …والله الايشارب ما لمسوا لي ياه.. شوفي هلأ هنن مو كلن نفس الشي .. في منهن المنيح و في منهن العاطل ..والله كان في واحد عم يحرسني وكان يقول لي: أنا ما برضى يعملوا فيكي شي عاطل اللي بيمسّك بسوء بكرا ممكن يعمل نفس الشي مع أختي… بس أنا ما قربوا عليي ترى … الحمد الله”.
– “الحمد الله” .
– “أنا رفقاتي العلويات كانوا يبكوا عليي وقت اللي كنت مخطوفة وكانوا يقولوا لأهلي إذا بيصير عليي شي والله ليبعتوا أخواتهم الشباب ورايي .. الحمد الله اللي ما صار معي شي “.
– ” إيه والله الحمد الله “.
مقطع من حديث إحدى الفتيات التي اغتصبوها أمام عيني أبيها ….
6- أم
يَعتذر المعيل الأردني الجنسية عن ضيق كراجه الذي هيأه لتلك العائلة التي حدثوه عنها. ينتظرهم بفارغ الصبر، كي يعرّفهم على المكان الذي سيصبح بيتهم “المؤقت”.
– ” انا آسف ربما البيت صغير عليكم أنتم والأولاد”.
لم يكن يعرف أن كلمة “أولاد” لها هذا الوقع المدوّي الذي جعل تلك الأم الشاحبة الوجه تصرخ و ترتمي أرضاً. أعتذر منه الأب وقال وهو يحاول إيقاظ زوجته من غيبوبتها: ” لا تقلق لم يعد لدينا أولاد. كلّهم ذبحوا أمام أعيننا. ذبحوهم وتركونا كي نعيش كالأموات بقية حياتنا!”
تروي جارات تلك الأم الثكلى، أن خيال إمرأة يقضي ساعات وساعات في زاوية الكراج المقابلة لفتحة الضوء ينتظر وينظر إلى العدم !
7- حين يبكي الرجال
لم يكن أحد الأطفال الخمسة من كان يبكي وراء باب تلك الغرفة، التي يسمونها الآن “بيت”، والذي يعيش فيه ثلاث عائلات تفصل أسرّتهم وخصوصياتهم “جلالة قطنيّة”.
كان رجلاً في الستين من العمر قال لي: “لا أريد صناديق طعام .. أريد ان أعود إلى بيتي الذي هجّروني منه بعد أن هتفت حرّية “.
8- طبيب ميداني
” كطبيب… من أصعب الأمور التي اضطررت أن أقوم بها خلال السنة والنصف في حمص هي قطع أطراف الشباب الصغار في العمر، بسبب نقص المواد لمعالجتهم. هل تعرفي ماذا يعني هذا ؟ جيل كامل معاق يامدام… جيل كامل معاق !”
كانت عيناه تقولان كلّ شيء دون أن تتحركا. لم يكن قادراً على البكاء، رغم انفجارنا نحن بالبكاء. لم يبكِ لأنه بكى طوال هذه السنة والنصف عن عمره وعمرنا، لكن عينيه ظلتا سارحتين خلف الأفق البعيد.
9- عبد الله
عُمره نِصف عُمري تماماً. رصاصة حاقدة اخترقت جسمه الأبيض النحيل، لتشلّ أطرافه الأربعة. كان يقول للطبيب: “كي لي أن أتوجّع وأنا مشلول يا دكتور؟! ألا يفقد المشلول إحساسه بكلّ شيء ؟”
اقتربت يَدي من يدهِ. ودون أن أشعر، أردت أن أمسكها وأمرّر من خلالها نِصف ما تبقى من عمري، تمنيت لو يمرر لي ولو نصف الوجع، وأن يسامحني لأن قدميّ مازالتا قادرتين على المشي بعد كلّ ما رأيت!
10- الطفولة في زمن الحرب
مرّ يوم الطفولة العالمي منذ يومين. لم ينتبه له أحد ربما. أو ربما لأن الطفولة الآن في إجازة، إجازة طويلة لا نهاية لها!
هناك في سوريا حيث الأطفال لم يختاروا حرق مراحل حياتهم، ولم يختاروا أن يتحولوا إلى رجال دون سابق إنذار!
ذكّرني بهذا التاريخ ابني حين أخبرني عن بعض حقوق الأطفال التي تلتها عليهم مدرّسته اليوم.
وهو يُسمعني إياها تذكرت “محمد”، طفل بعمر ابني “علوش”. قابلت محمد في الأردن في موقف كان محرجاً بالنسبة لي أكثر منه بالنسبة له. هو ابن أخت الصبية التي تم اغتصابها أمام عيني والدها!
كانت تروي لي حادثة الاعتقال وتتطرق بخجل إلى “الاغتصاب” على أساس أنها قصة “ابنة جيرانهم”. كنت مشدودة إلى القصة لدرجة أنيّ نسيت أن طفلاً يلعب في الغرفة نفسها. فجأة، نظرت إليها بذعر وأشرت إليه: -“عايدة …! ابن أختك …!” نظرت هي بدورها دون أن تتفاجىء وتابعت: “آه محمد … عادي … سمع كتير قصص قبل ما نهرب من حمص … قتل وموت وذبح”.
– ” كيف ايه عادي ؟!”
لم أعرف أين أخفي إرتباكي وإصفرار وجهي. فعاودت لطمأنتي واتجهت إليه بالسؤال: ” ولك محمد مين صوّب عليك بحمص وكان رح يقتلك؟”
دون أن يترك اللعب يبتسم محمد ويجيب: “شبيحة بشار الكلاب …القناصة اللي فوق البناية … بس أنا ما خفت .. أنا رجال”.
نظرت الي وقالت: شفتي .. قلت لك عادي”.
هكذا يَكبر الأطفال اليوم في بلد اسمه سوريّا، هكذا تتغير المفاهيم للرجولة وللطفولة وللوطن !
هلا جديد / ناشطة سورية … اعدت هذه السرديات اثناء تجولها بين مخيمات اللاجئين والنازحين السوريبن في الأردن