سوريا: صراع على العدالة / محاكم شرعية بلا شرعية
بدأت محاولات إنشاء المحاكم الشرعية منذ نهاية العام الماضي على يد دُعاة إسلاميين، إلا أنّ عدم استجابة الناس لها وتجاهل قراراتها أدى إلى إغلاقها تلقائياً. اليوم تعود المحاكم الشرعية مدعومة بتشكيل ما يُسمّى “الكتيبة الأمنية” التي تشرف على تنفيذ قرارات المحكمة.
تبث بي بي سي العربية تحقيقا وثائقيا حصريا بعنوان “سوريا: صراع على العدالة. عن ما يدور في مناطق إدلب وحلب. وقد كتب منتج الفيلم الصحافي، محمد علي، عن تجربة انتاجه:
عند أحد خطوط الجبهة في منطقة وادي الضيف جنوب إدلب، رافقنا أبو سومر قائد إحدى كتائب المعارضة المسلحة في جولة على مقاتليه الذين يُطبقون الحصار على القاعدة العسكرية الموجودة في الوادي. أخذ أبو سومر يشرح لمقاتليه أهمية إحكام الخطة وعدم إطلاق رصاصة واحدة في محاولة لاستدراج مقاتلي الجيش النظامي عبر إيهامهم أنّ المعارضين نفدت منهم الذخيرة.
التقيت أبو سومر خلال شهر آب/ اغسطس العام الفائت في الأيام الأولى من معركة حلب، ثم ترك المعركة هناك ومضى برفقة أصحابه إلى ساحات القتال في إدلب. سألته عما دفعه إلى التخلي عن حلب وهي ما تزال تحت نيران الجيش النظامي رغم ما بذله من جهد في ذلك الوقت وما خسره من رفاق السلاح، فأجاب: حاولت بعض الكتائب الإسلامية اغتيالي!
قبل شهور عشرة من اليوم كان أبو سومر برفقة مقاتليه ومقاتلين آخرين من غير الإسلاميين يتصدون لقوات الجيش النظامي عند جبهة صلاح الدين في مدينة حلب. حينها، لم يكن للكتائب الإسلامية دور يذكر في القتال الدائر. غالبية المقاتلين كانوا يريدون إسقاط نظام بشار الأسد وإقامة دولة مدنية يتم الاحتكام فيها إلى صناديق الاقتراع.
قرار أبو سومر بالخروج من حلب بعد ثلاث محاولات اغتيال جاء، كما أخبرني، لتفادي نشوب صراع بين المعارضين يعود بالفائدة على النظام في دمشق. وبعد عدة محاولات للتواصل مع الكتائب الإسلامية التي حاول أفراد منها اغتياله كان الجواب يأتيه دوماُ: “الشبيحة هم من يحاولون اغتيالك”.
ما حدث مع أبو سومر قبل سبعة أشهر لم يكن إلا مؤشراً على صراع مرتقب بين كتائب المعارضة، إلا أنّ احدا من المقاتلين المعارضين لم يكن يتوقع لهذا الصراع أن يبدأ قبل طي صفحة حكم الأسد.
رايات إسلامية ومحاكم شرعية
في جولتي الأخيرة في الشمال السوري بدا كل شيء مختلفاً. الرايات السوداء والبيضاء التي تمثل الفصائل الإسلامية تسود معظم المناطق، بدلاً من علم الانتفاضة المزركش بالأخضر، وصوت الإسلام السياسي يطغى على المشهد وللمقاتلين الإسلاميين الحظوة في كيفية إدارة المناطق.
في حضرة القاضي داخل إحدى المحاكم الشرعية في بلدة سراقب جنوبي محافظة إدلب، اقتيد مقاتل من المعارضة إلى غرفة القاضي ذو اللحية الطويلة والعمامة الخاصة بالشيوخ.
بدأ القاضي باستجواب المتهم في قضية جزائية حول حادث سيارة. بضعة أسئلة ونقاش بين القاضي والمتهم، يستشيط خلالها المتهم غضباً إثر طلب القاضي شهوداً آخرين لعدم تصديق روايته: “لتعلم أنّي إذا خرجت من باب المحكمة فلن أعود، ولن أستجيب لأي تبليغ من أيّة محكمة أخرى ولن أعترف بأي منها”.
يبادر القاضي إلى المتهم: أترفض شرع اللهّ! ثم يذكر له سيلاً من آيات القرآن التي تحض على طاعة القضاة وأولياء الأمر. يصمت المتهم ويحاول دفع الشبهة عن نفسه بأنه يؤمن بالله وسنّة نبيه، ثم يخرج من قاعة المحكمة بانتظار استكمال الشهود.
المحاكم الشرعية جديدة على المجتمع السوري الذي اعتاد على المحاكم المدنية منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، فمن أقام هذه المحاكم وكيف تتشكل؟
في جميع المناطق التي مررت بها في الشمال السوري كانت المحاكم الشرعية تستبدل المحاكم المدنية السابقة، ودائماً ما تأتي الإجابة نفسها من الكتائب المقاتلة على الأرض: طبيعة المجتمع إسلامية لذا فإنّ النموذج الأنسب هو المحاكم الشرعية.
خلال حكم البعث لسوريا على مدار نصف قرن كانت المحاكم مدنية، وكانت كذلك أيضاً قبل حكم البعث على مدار عقدين إثر الاستقلال. الأغلبية السنية لم تختر آنذاك المحاكم الشرعية، فهل قررت ذلك اليوم؟
بدأت محاولات إنشاء المحاكم الشرعية منذ نهاية العام الماضي على يد دُعاة إسلاميين، إلا أنّ عدم استجابة الناس لها وتجاهل قراراتها أدى إلى إغلاقها تلقائياً. اليوم تعود المحاكم الشرعية مدعومة بتشكيل ما يُسمّى “الكتيبة الأمنية” التي تشرف على تنفيذ قرارات المحكمة.
والكتيبة الأمنية في سراقب هي نتيجة تحالف يضم الكتائب الموجودة في البلدة، والتي يغلب عليها الفصائل الإسلامية: حركة أحرار الشام، جبهة النصرة، لواء صقور الشام، بالإضافة إلى لواء شهداء سوريا وجبهة ثوار سراقب.
يذكر ابو قدامة، قائد الكتيبة الأمنية في سراقب، أن المحكمة الشرعية كانت موجودة قبل مجيئه، الا أن عدم وجودة قوة تنفيذية أدى إلى إغلاقها، وهو اليوم موجود مع عناصر الكتيبة الأمنية لحفظ الأمن ولدعم المحكمة الشرعية في المدينة.
محاكم المعارضين الشرعية
قاض بمحكمة شرعية تابعة للمسلحين ينطق بحكم
أبو قدامة أردنيّ الجنسيّة ينتمي إلى جبهة النصرة – وهي جزء من تنظيم القاعدة- تمّ إيفاده مطلع العام الحالي من قبل “الأمراء” على حد وصفه لإدارة ملف الحياة المدنية في مدينة سراقب.
في زحام مكتبه تجد مجموعة كتب فقهية وبجوارها ترجمات بينها كتاب “حرب العصابات” لتشي غيفارا.. تنتقل عيناي من عود المسواك في يده إلى عبارة على الحائط تنهى عن التدخين: (قال رسول الله: لا ضرر ولا ضرار.. لذا يمنع التدخين).
يأتي شخص إلى أبو قدامة يشتكي من أبو عكرمة الذي صفعه أمام العامة، وأبو عكرمة هو قائد آخر من جبهة النصرة أمضى عشر سنوات في أفغانستان ويتناوب مع أبو قدامة في المحكمة الشرعية.
يستمع أبو قدامة إلى الشاب مستفسراً عن سبب الحادثة التي يؤكد شهودها أنّ أبو عكرمة كان يوجه الشاب أن يقف في طابور الانتظار أمام المخبز الا أن الشاب رفض وتحدى أبو عكرمة: أنت أردني ولا سلطة لك عليّ في بلدي!
يوجّه أبو قدامة الشاب إلى حقه في الشكوى من أبو عكرمة نتيجة صفعه له، منوّها إلى حق أبو عكرمة في مقاضاته نتيجة عصيان أوامر الكتيبة الأمنية.
يزعم أبو قدامة أنّ الناس تؤيّد الحكم الشرعي، بل وأنّ جبهة النصرة إنما تدخلت في الشأن المدني بعد مطالبات المدنيين لها بالتدخل وإدارة الحياة المدنية.
رفض وتذمُّر
خارج المحكمة الشرعية، وقف أحد المدنيين متذمراً من عقوبة الجلد ومنتقداً المحكمة الشرعية التي تصدرها، بالنسبة له يمثل هذا امتهاناً لكرامة البشر، ويحكي لي كيف أنّه ذهب للاطمئنان على جاره الذي جُلد نتيجة تزويج ابنته وهي ما تزال في “العدّة الشرعية”، إلا أنّ جاره لم يفتح الباب فقد كان محرجاً ويشعر بالخزي بعد جلده أمام العامة.
يخاطب سمير أصدقاءه حوله مطالباً إياهم بالتحرك لمعارضة الحكم الشرعي، ويتساءل عمّن أعطى الشرعية للأجانب لحكم البلد، متسائلاً إن كانوا سيرحلون لاحقاً. أستوضح سبب رفضه للحكم الشرعي ما دام مسلماً، يجيبني أنّ الإسلام دينه، لكن هذا البلد لا يمكن أن يُدار بهذه الطريقة ووفق رؤية طائفة واحدة لأن المجتمع كالبناء “وحين تهمّ ببناء بيتك لايمكنك أن تراكم الحجر فوق بعضه، بل تحتاج إلى مواد بين الحجر لتجعله مرصوصاً، هذه المواد هي الطوائف والقوميات أو ما يسمى الأقليات، لا يمكن أن تبني وطنك بدونهم”.
شعارات الجدران من جديد
يمضي سمير في سبيله فيما أتابع على الجدران عبارات مناهضة للحكم الشرعي خطّها أشخاص خفيةً: “تسقط المحكمة الشرعية في سراقب”، “مَن نصّبكم حكاماً علينا؟” و”أين كان الإسلاميون حين بدأ العلمانيون الثورة؟”
قبل عامين حين بدأت الانتفاضة في سوريا وكانت قوات الجيش النظامي ما تزال تسيطر على البلدات والمدن، اتبع النشطاء أسلوب الكتابة على الجدران في بداية الاحتجاجات السلمية نتيجة خشيتهم من التظاهر العلني. اليوم يعود نشطاء مدنيون لاتباع ذات الأسلوب ضد الحكم الشرعي، وهو ما يوحي بأنّهم يخشون من المجاهرة بآرائهم على الملأ خوفاً من العقاب.
إلا أنّ نشطاء آخرين كمنهل يشعرون بالاستياء لرؤية العبارات المناهضة للحكم الشرعي على الجدران بعد شهور عديدة من مقارعة حكومة الرئيس الأسد. ويعتقد منهل، وهو أحد النشطاء المدنيين الذين عادوا إلى سراقب إبان السيطرة على المدينة من قبل قوات المعارضة، أنّ هؤلاء لم يتمكنوا من قهر الخوف الذي كان متجذراً في نفوسهم، معتبراً أنّه من المؤسف أنّ من قارع استبداد النظام السوري، على حد قوله، لم يتمكن من هزيمة الخوف حتى اليوم.
الا أنّ التظاهر، رغم خطورته في ظل القصف العنيف على المدينة، ليس متاحاً حتى وإن وُجد أشخاص لا يهابون سلطة المسلحين، فالكتيبة الأمنية أصدرت قراراً بمنع التظاهر حفاظاً على حياة الناس من القصف المتواصل على المدينة من قبل القوات النظامية.
تنسيق وعمل مشترك
خلال أسبوعي عملنا داخل سراقب، كانت مدفعية الجيش السوري تقصف البلدة بالدبابات والمدرعات بلا هوادة. في يوم واحد، وهو اليوم الذي بدأ فيه الثوار عملية محاولة اقتحام حاجز للموالين للأسد يبعد عن سراقب مسافة 7 كم، كانت مدفعية الجيش السوري تطلق 16 صاروخا في الساعة ما بين الواحدة ظهراً والساعة صباحاً. وما بين السابعة صباحاً والثامنة والنصف صباحاً سقط على المدينة ما لا يقل عن 150 قذيفة.
على خط الجبهة كانت بعض الفصائل الإسلامية تشارك في الاقتحام، في عمل مشترك من النادر أن تجده بين الكتائب جمعاء، فحسابات الغنائم والسيطرة على المناطق تكاد تكون الفيصل في أي عمل عسكري، وهذه الأمور تتحدد من خلال العدد والعتاد الذي يجلبه كل منهم.
بعد اقتحام الحاجز جلست مع مقاتلين من لواء جبهة ثوار سراقب. وبينما كانوا يشرحون لي كيفية سير العمليات دخل أبو دُجانة وهو أميركي من أصل عراقي انضم حديثاً إلى جبهة النصرة، ودار حديث بينهم عن رؤيتهم لمستقبل البلد في حال رحل الأسد. كان أبو دجانة مستاء لسماع مقاتلين سنّة يتحدثون عن دولة برلمانية وانتخابات تشريعية.
أبو دجانة يؤمن بدولة الخلافة الإسلامية التي بشّر بها الرسول في بلاد الشام (الأردن – سوريا- لبنان – فلسطين)، ولديه اعتقاد أنّ هذه هي اللحظة المواتية لإقامة الدولة الحلم. سألته إن كان ينوي العودة إلى بلده إن سقط الأسد فردّ بالنفي ملوّحاً إلى أنّه ماض في جهاده حتى تحرير فلسطين.
في اليوم التالي جلست معه للحديث عن خلاف دبّ حينها بين تنظيمين تابعين لحركة القاعدة وهما الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، وجبهة النصرة.
لم يكن لديه فهم عميق لجذور المشكلة، إنما كان مكتفياً بما سمعه من البيانات بين قائدي التنظيمين، وعلّق أنه في نهاية المطاف لن يكون هناك خلاف بين المجاهدين، وانهم في انتظار الكلمة الفصل من زعيم القاعدة أيمن الظواهري.
مقاتلو القصير
بينما كنا جالسين انضم إلينا مقاتل يقول انه أميركي الجنسية ويسمي نفسه أبو يوسف، وقد جاء لتوه من معركة القصير. سألته عن وضع المعركة هناك فبدا مستاءً من طبيعة المقاتلين، تحدّث عنهم بانزعاج معتبراً أنّ الله لن ينصرهم إن استمروا في حالة البعد عن الدين.
يصف أبو يوسف مقاتلي القصير بأنّ أغلبهم من كتائب الفاروق، يمضون اليوم في الاشتباك مع قوات موالية للأسد ثم يعودون مساء ليشاهدوا التلفاز ويقومون بالغناء. يتذكرهم ويستشيط غضباً من سلوكهم: “حين تعود لا تشعر أنك في ساحات الحرب، تشعر وكانك في حفلة!”.
يتابع أبو يوسف بأنه ترك القصير بعد أن يئس من إمكانية تحقيق شيء مع أولئك المقاتلين، وأنه بانتظار الحصول على تزكية من شخصيتين مرجعيتين في تنظيم القاعدة ليتمكن من الانضمام إليهم.
بينما كنت أجري مقابلة مع أبو يوسف حضر فجأة أبو البراء وهو مقاتل جزائري يتزعم إحدى تشكيلات الدولة الإسلامية في سوريا والعراق. فقد صوابه حين رأى المقاتل الأميركي يجري لقاء مصوراً معي، فجاء إلي وحاول مصادرة الكاميرا، ودار نقاش بيننا واتهمني بمقابلة أحد مقاتليه دون إذنه فذكرت له أن المقاتل عرّف عن نفسه بأنّه من جبهة النصرة وليس تابعاً لتنظيمه، تدخّل المقاتلون لحل المشكلة وانتهى الخلاف بمصادرة الشريط مني.
كان المقاتل الذي يقول انه أميركي يشرح له أنّ الحديث إلى وسائل الإعلام أمر طبيعي، فقام أبو البراء بزجره متوعداً إياه بالمحاسبة لاحقاً. سألت المقاتل إن كان يقبل بتسليم الشريط لأبو البراء فنظر إليه وقال: كما يشاء، القرار يعود له.
كان الانقسام واضحاً بين التنظيمين التابعين للقاعدة على خلفية إعلان زعيم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق أبو بكر البغدادي عن الاندماج مع تنظيم جبهة النصرة تحت راية الدولة الإسلامية في سوريا والعراق ومن ثم رفض زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني لهذا الإعلان، إلا أنهما كانا حذرين من حصول أي اشتباك بينهما.
حدثني أبو قدامة أن المجاهدين من كلا التنظيمين مستمرون في القتال، لكن من كان قد بايع البغدادي في البداية انضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية ومن بايع الجولاني استمر مع تنظيم جبهة النصرة، مضيفاً أن الجميع بانتظار الحسم من زعيم القاعدة أيمن الظواهري الذي بعث برسالة داخلية أنّب فيها البغدادي والجولاني واعتبر كلا منهما مخطئاً بالإعلان.
بينما تبدو الصورة قاتمة حول مستقبل الصراع بين الحكومة السورية وفصائل المعارضة، يستمر صراع خفي بين الكتائب المعارضة المقاتلة حول هوية الدولة المقبلة، وهو صراع مرشّح للانفجار في الأيام القادمة خاصة مع الحديث عن نية الغرب تزويد فصائل معينة من المقاتلين بالسلاح.
ليس عند أبو قدامة خشية من هذا الأمر، فأرض الشام مباركة كما يقول ولا حاجة للمقاتلين بالدعم الخارجي لحسم المعركة. بل إنه يستذكر ما حدث من تأخر في التدخل في الصراع السوري من قبل الغرب ويبدو ممتناً لهم: “لأكن صريحاً، أنا أشكر الغرب لعدم تدخله في الشأن السوري، لأنّ تأخرهم أحيا الإيمان في قلوب الناس، وأحيا حب الرسول والجهاد كفكر جهادي وليس فقط كحل مرحلي”.
“سوريا: صراع على العدالة” تحقيق وثائقي حصري، لبي بي سي العربية يبث الأربعاء الثالث من تموز يوليو 2013