زملاء

صبحي حديدي : تركيا والنظام السوري/ تبصّر الواقع أم استيهام الضلال؟

يلتقي المرء، في باريس، معارضاً سورياً مخضرماً غادر سورية، سرّاً، قبل أسابيع قليلة ـ ويحدث، أيضاً، أنه أحد شيوخ ‘ربيع دمشق، صيف 2001، و’إعلان دمشق’، خريف 2005 ـ فيُطرح السؤال التلقائي: هل يقيم المعارض في فرنسا، أم في القاهرة مثلاً’ فيأتي الجواب، الذي صار شبه تلقائي، بدوره: في اسطنبول، أغلب الأوقات.
وقبل أن تصبح العاصمة ال

مصرية مستقراً لعدد من مؤتمرات المعارضة السورية، كانت مدن تركية مثل أنطاليا واسطنبول وأنقرة، محجّ شرائح واسعة من المعارضين السوريين، على اختلاف صفاتهم التمثيلية وانتماءاتهم السياسية او التنظيمية؛ وما تزال الحال هكذا، جوهرياً، فلم يتبدّل المحجّ ولا الحجيج.
هذه، كما سبقت الإشارة في سياقات مماثلة، لم تكن مصادفة جغرافية محضة، تنهض على الجوار الحدودي الطويل بين سورية وتركيا؛ كما أنها لا يصحّ أن تُعزى إلى سبب وحيد هو مرونة القوانين الناظمة لحرّية التعبير في تركيا. وليس صحيحاً، كذلك، أنّ المنابر التركية (وهي، في نهاية المطاف، ليست حكومية أو رسمية البتة) لا تشرع أبوابها إلا للإسلاميين، كما تردّد مراراً؛ إذْ شهدت المؤتمرات واللقاءات ولجان العمل حضور سوريين من مشارب شتى، من أهل اليمين واليسار والوسط، المتديّن فيهم مثل العلماني، والماركسي مثل الليبرالي، فضلاً عن التنويعات الإثنية والدينية والمذهبية كافة. ولقد حدث مراراً أن بدت الحكومة التركية ـ وهي، وإنْ كانت إسلامية مستنيرة تكنوقراطية، تعتمد على جمهور انتخابي متديّن في الرأي، وفي السلوك أيضاً ـ أكثر ليبرالية من ديمقراطيات غربية علمانية عريقة، في فرنسا وبريطانيا وأمريكا. 
هذا من حيث الشكل، الذي يعكس في واقع الأمر بعض علائم المحتوى أيضاً، في أنه أسبغ على تحركات المعارضة السورية صفة سياسية، وربما إيديولوجية، ليس من السهل التهرّب منها: أنّ الحاضنة الأولى لهذه المؤتمرات، بالمعنى القانوني والإجرائي على الأقلّ، لم تكن في عهدة شخصيات أو مؤسسات تابعة لـ’حزب العدالة والتنمية’ التركي الحاكم؛ وأنّ تلك الحاضنة شكّلت، بدورها، ميداناً عملياً لرأب الصدع الظاهري بين موقف الحكومة التركية من الانتفاضة السورية، وموقف الحزب الحاكم. في عبارة أخرى، ما يجد المسؤول التركي حرجاً في التصريح به، لن يتردد المسؤول الحزبي التركي في الإعراب عنه علانية، من خلال رعاية هذا أو ذاك من لقاءات السوريين على الأرض التركية؛ فلا تقع الحكومة التركية في محذور قد يحمّلها أعباء دبلوماسية وسياسية في غير أوانها، ولا يفوت المسؤول الحزبي أن يشبع تطلّع جماهير الحزب إلى مواقف أكثر صلابة في تأييد الشعب السوري، الجار في الجغرافيا، والشريك في التاريخ، والأخ في الإسلام.
ليس غريباً، إذاً، ان تتعرّض القيادة التركية، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان شخصياً، إلى هجمات إعلامية مركزة ومنهجية، بلغت مراراً شأو كيل اتهامات قدحية صدرت عن بشار الأسد شخصياً؛ أو بالأحرى ظلت تصدر عنه بصفة منتظمة، أقرب إلى الهوس باستهداف الرجل وليس الوزارة، والخلفيات المذهبية قبل السياسات الحكومية. مؤخراً، في تصريحات لصحيفة ‘جمهورييت’ التركية، قال الأسد إنّ أردوغان ‘أبدى ‘الكثير من الصراخ دفاعاً عن الفلسطينيين في عام 2008 عندما هاجمت إسرائيل غزة، ولكن قبلها بسنتين ونصف لم نسمع هذا الصراخ عندما هاجمت إسرائيل لبنان’، وهكذا ‘أظهر خلفيته الطائفية، لأن الفرق [بين لبنان وغزّة] هو فقط الناحية الطائفية’؛ وكان مدهشاً أن يكشف الأسد قناعته بأنّ حرب إسرائيل لم تكن ضدّ لبنان بأسره، وهو بلد متعدد الأديان والطوائف، بل ضدّ الشيعة وحدهم، بدليل تقصير أردوغان (السنّي!) في نصرتهم. كما ذهب الأسد أبعد، حين اتهم أردوغان بالنفاق: ‘اليوم يبكي من أجل الشعب السوري بكاء المنافقين’، ولكن ‘لماذا لم يبكِ من أجل مَنْ يُقتلون في بعض دول الخليج وهم أبرياء وسلميّون ولا يحملون السلاح؟ لماذا لا يتحدث عن الديمقراطية في بعض بلدان الدول الخليجية؟’… مفترضاً أنه، أي الأسد، ظلّ طيلة سنوات رافع العقيرة دفاعاً عن قتلى الخليج، وحامل لواء الديمقراطية هناك!
وقبل أيام، في حواره مع قناة ‘الدنيا’ الموالية، انتقل الأسد من تأثيم شخص أردوغان، إلى تأثيم تركيا الدولة، وليس الحكومة الراهنة وحدها، فاعتبرها مسؤولة مباشرة عن إراقة دماء السوريين: ‘موقف الدولة التركية معروف، وهي تتحمل مسؤولية مباشرة في الدماء التي نزفت وسُفكت في سورية’. كان لافتاً، مع ذلك، أن يعرّج الأسد على ما أسماه اضطراباً طويلاً ومتوتراً بين البلدين، لأنّ علاقات النظام بحكومة أردوغان ظلت وثيقة وطيبة واستثنائية، حتى بعد أسابيع أعقبت انطلاق الانتفاضة السورية: ‘عندما بدأنا بتطوير العلاقة مع تركيا لم ننظر الى علاقة مع أشخاص أو حكومة عابرة، وإنما نظرنا إلى تاريخ علاقة متوترة مضطربة لنحو تسعة عقود تقريباً أردنا أن نمحوها، فهل نعود الى الوراء بسبب جهل بعض المسؤولين الأتراك؟’…
لعلّ العود أحمد، في ناظر الأسد، إذا راكم المزيد من الأوهام، والاستيهام، حول وقوف الشعب التركي معه، وليس مع حكومة أردوغان؛ الأمر الذي يبيح لأجهزته تصدير التأزم الطائفي إلى أنطاكيا (رغم الاختلافات الكبرى، الفقهية والثقافية والتاريخية، بين علويي تلك المنطقة، وعلويي الساحل السوري)؛ وتحريض جيوب تركية معارضة لـ’حزب العدالة والتنمية’، لكنها ضئيلة الحجم، محدودة الجمهور، وبين الأشدّ ابتذالاً من حيث خطاباتها السياسية. ولعلّ العود أقصر نظراً، أيضاً، عن سابق عمد وتصميم أغلب الظنّ، لأنّ الأسد تناسى أنّ سلسلة الاعتبارات التي حكمت العلاقة بين نظامه وتركيا المعاصرة، في عهد إدارة أردوغان بصفة خاصة، ترقى من الجانب التركي إلى مستوى المزايا الكبرى الجيو ـ سياسية والاقتصادية والإيديولوجية، على مستوى تركي محلّي، وآخر إقليمي وإسلامي، وثالث أوروبي وأطلسي.
كذلك تجاهل الأسد أنّ الحال تغيّرت، وكان لا بدّ لها أن تتغيّر، بعد انطلاق الانتفاضة السورية، ولجوء النظام الفوري إلى الحلّ الأمني وأعمال العنف الوحشية ضدّ المدنيين العزّل والتظاهرات السلمية، سيّما تلك التي وقعت في جسر الشغور والقرى المحاذية للحدود، وأجبرت آلاف السوريين على اللجوء إلى تركيا. وهكذا، كانت العلاقات التركية مع النظام السوري في أبهى أزمنتها، فأخذت تتدهور يوماً بعد آخر، وكلما حنث بشار الأسد بما قطعه من وعود لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان شخصياً. ولقد توجّب أن تنقلب اعتبارات الجوار من مزايا إلى تحدّيات، ومن مغانم إلى مخاطر؛ وان يرتطم تبصّر الواقع عند أردوغان، باستيهام الضلال عند الأسد.
فعلى الصعيد الجيو ـ سياسي، كان على تركيا أن تتخلى عن ركائز كبرى في فلسفة وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو، وهي الناظمة للسياسة الخارجية التركية منذ نجاح ‘حزب العدالة والتنمية’ في حيازة أغلبية برلمانية مريحة. بين تلك الركائز مبدأ تطوير علاقات متعددة المحاور مع القوقاز، والبلقان، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأفريقيا، وجنوب شرق آسيا، والبحر الأسود، وكامل حوض المتوسط؛ وليس الاقتصار على علاقات أنقرة التقليدية مع أوروبا والولايات المتحدة، أو البقاء في أسر التلهف على عضوية الإتحاد الأوروبي.
ركيزة ثانية هي خيار ‘الدرجة صفر في النزاع’ مع الجوار، من منطلق أنه أياً كانت الخلافات بين الدول المتجاورة، فإنّ العلاقات يمكن تحسينها عن طريق تقوية الصلات الاقتصادية. وفي الماضي كانت تركيا تحاول ضمان أمنها القومي عن طريق استخدام ‘القوّة الخشنة’، واليوم ‘نعرف أنّ الدول التي تمارس النفوذ العابر لحدودها، عن طريق استخدام القوة الناعمة هي التي تفلح حقاً في حماية نفسها’، كما ساجل داود أوغلو في كتابه الشهير ‘العمق الستراتيجي: موقع تركيا الدولي’. وتدهور العلاقات مع النظام السوري يعني، أيضاً، هذا المقدار أو ذاك من تدهور العلاقات مع إيران، ومع حكومة نوري المالكي في العراق، و’حزب الله’ في لبنان…
كذلك، على الصعيد الاقتصادي، ظلّت تركيا حريصة على إدامة ميزان تجاري رابح تماماً بالنسبة إلى أنقرة، وخاسر على نحو فاضح من الجانب السوري، بلغ 2,5 مليار دولار في سنة 2010، بزيادة تقارب 43 بالمئة، وكان يُنتظر له أن يبلغ خمسة مليارات في السنتين القادمتين. الاستثمارات التركية في سورية بلغت أكثر من 260 مليون دولار، واحتلّت الشركات التركية المرتبة الأولى من حيث عدد المشاريع التابعة لجهات أجنبية. ولقد اتضح، طيلة أسابيع الانتفاضة، أنّ كبار التجار الأتراك تكاتفوا مع كبار التجّار السوريين، في حلب ودمشق بصفة خاصة، لإبقاء العاملين في مؤسساتهم بمنأى عن الحراك الشعبي، حتى إذا كلّفهم ذلك سداد تعويضات إضافية ومغريات مادية مجزية.
وفي المستوى الإيديولوجي، لم يكن ‘حزب العدالة والتنمية’ يملك الكثير من هوامش المناورة في ضبط مشاعر جماهيره وناخبيه، وغالبيتهم الساحقة من المسلمين السنّة، إزاء ما يرتكبه النظام السوري من مجازر وأعمال وحشية، وخاصة في مواقع ذات قيمة عاطفية ورمزية عالية مثل مدينة حماة، فضلاً عن دمشق التي تظلّ ‘الشام الشريفة’ في ناظر الجمهور التركي العريض. وكيف كان للفريق التركي الحاكم أن يسكت عن جرائم النظام السوري، فيضحّي بما اكتسبته تركيا من شعبية واسعة في الضمير العربي العريض، بسبب الموقف من العدوان الإسرائيلي على غزّة، وانسحاب أردوغان من سجال مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس في ملتقى دافوس، ومأثرة ‘أسطول الحرية’، وسواها؟
ويبقى الجانب الذي يخصّ المقارنة بين نظامين في الحكم، لا مناص للجارة تركيا من أن تشكّل مثالاً نقيضاً، وبالتالي قدوة حسنة، لمواطن سوري عانى طيلة ثلاثة عقود من نظام الاستبداد والفساد الذي ترأسه حافظ الأسد، ويعيش منذ 12 سنة ونيف في ظلّ النظام ذاته بعد أن ازداد سوءاً وصار وراثياً وأقرب إلى حكم العصابات والشبيحة. وفي الحساب الأخير، ألا تقوم الديمقراطية التركية على انتخابات حرّة، وتداول سلمي للسلطة، وحرّيات مدنية أساسية؛ كما أنها، وهنا الأخطر ربما، ديمقراطية لا يغيب عنها العسكر والجنرالات، وهي إسلامية المنشأ، آسيوية شرق ـ أوسطية؛ واقتصادها مزدهر متطّور، ينتقل من نجاح إلى نجاح؟
والحال أنّ ‘المعادلة السورية’، كما يقول البروفيسور إحسان بال، مدير مركز الدراسات الأمنية التركي، ‘تظهر كم هو خاطىء أن يصدر المرء حكماً، وهو يستند على أنصاف الحقائق’. فكيف إذا اتكأ، كلياً أو يكاد، على استيهام الضلال!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق