زملاء

يوسف بزي : ثمن الكيميائي

1-44910_437829328020_7190489_n
شاعر وصحافي لبناني

يصرّ بشار الأسد أن يكون شبيهاً بصدام حسين. وبدرجة الإصرار نفسها، تكرر الولايات المتحدة (والمجتمع الدولي)، في تعاملها مع نظام الأسد، الأخطاء ذاتها التي ارتكبتها في التعامل مع نظام صدام حسين.
إثر حرب تحرير الكويت، التي غزاها صدام حسين في آب 1990، منيت القوات العراقية بهزيمة كبيرة، وتلقى النظام العراقي ضربات هائلة أصابته بضعف شديد قارب الانهيار التام. وإزاء هذا الضعف، رأى الشعب العراقي فرصة سانحة للتخلص من نظام أخذ العراقيين إلى التهلكة بمئات الألوف، في حربيه المدمرتين الإيرانية والكويتية. فبعد أن رأى الشعب العراقي تلك الهزيمة في حرب لا مبرر لها، ورأى خراب بلاده على يد ديكتاتور، قبل أن يكون على يد “تدخل خارجي”، وشعر بوهن النظام وتضعضه وفقدانه للسيطرة، انتفض العراقيون في مطلع آذار 1991، وشملت خروج المواطنين في تظاهرات سلمية قامت بمحاصرة معسكرات الجيش والأمن داعية إلى إسقاط النظام (قبل “الربيع العربي” بعشرين عاماً)، وانضم إلى الانتفاضة قطعات كاملة من الجيش العراقي وقوات الشرطة، بالإضافة إلى “المعارضة المسلحة” (فيلق بدر في الجنوب، والبشمركة في الشمال). وشملت تلك الانتفاضة 14 محافظة عراقية من أصل 18 محافظة، أي الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي. خلال يومين فقط، كان معظم العراق قد تحرر وخرج عن سيطرة نظام صدام حسين، الذي سرعان ما ردّ على هذه الثورة بكل ما أوتي من وحشية وقوة نارية، مستعيناً بفرق النخبة والحرس الجمهوري والميليشيا البعثية. في تلك اللحظة، سمح الأميركيون لصدام حسين، طالما أنه وقّع اتفاقية وقف إطلاق النار معهم، باستخدام الطوافات العسكرية داخل العراق، التي سيستخدمها صدام حسين بـ”إبادة” المتمردين واستعادة السيطرة على المدن المنتفضة. ونعني بكلمة إبادة، لجوء النظام إلى أسلوب فحواه أن تواجد معارض واحد للنظام في مكان ما سبب كاف لقتل أهل المنطقة بأسرهم. وحسب وثائق علي حسن المجيد (علي الكيماوي)، قتل صدام حسين خلال 14 يوماً (مدة الانتفاضة) أكثر من 300 ألف شخص، بمعدل 20 ألف قتيل في اليوم الواحد.
وبالأسلوب ذاته الذي سيعتمده بشار الأسد، روّج صدام حسين للعالم، بأن هذه الانتفاضة طائفية “ظلامية”، من ناحية، و”انفصالية كردية” من ناحية ثانية، موحياً أنها لتنفيذ أجندات خارجية مشبوهة، ما أثار ريبة وتوجس الجيران: دول الخليج، تركيا، سوريا، الأردن، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وحلفائها. وعليه، وقفت القوات الأميركية عند حدود مدينة البصرة تتفرج على المجزرة، وهي التي تمنّعت عن إكمال مسيرها في نهاية شباط 1991 نحو بغداد لإسقاط صدام، بحجة أنها لا تملك “تفويضاً” أبعد من تحرير العراق، تاركة العراقيين لمصيرهم المشؤوم. وكانت النتيجة أن استعاد صدام حسين هيمنته وجدد حكمه الدموي لسنوات عديدة إضافية.
كان لتأجيل إسقاط صدام حسين من العام 1991 إلى العام 2003، عواقب كارثية. ففي هذه الفترة كان لنتائج العقوبات الاقتصادية أثراً فادحاً على الشعب العراقي وعلى الدولة ومؤسساتها، والأهم هي الانتكاسة الكبرى التي أصابت أرواح العراقيين الذين باتوا أكثر فقراً وأمّية ويأساً، وزادت عزلتهم عن العالم وعن روح العصر، وارتدّوا إلى ما قبل المدنية، وإلى أشد أنواع العصبيات الدينية تزمتاً وتطرفاً.
في أثناء ذلك، قايض العالم (بقيادة الولايات المتحدة) بقاء صدام حسين بتسليمه السلاح الكيميائي، وقبل صدام حسين تدمير مخزونه من أسلحة الدمار الشامل مقابل ضمان بقائه وعصابته في السلطة. وكان الثمن حرية الشعب العراقي وحقوقه.
على الدرب ذاته، يسير اليوم بشار الأسد، وتسايره أيضاً الولايات المتحدة، التي كما حدث في العراق، تتناسى الدم السوري وحماية المدنيين وحقوق الإنسان، في صفقة فحواها: ترك السوريين لمصيرهم المشؤوم أمام آلة القتل الفاشية، مقابل تسليم النظام سلاحه الكيميائي. كذلك تعمد الولايات المتحدة إلى الأخذ برواية النظام ذاتها التي روّجها صدام حسين عن انتفاضة العراقيين، بأنها انتفاضة تكفيريين وإرهابيين من صنف تنظيم “القاعدة”، كتبرير للتملص من واجبها السياسي والأخلاقي، بوصفها قائدة لـ”العالم الحر” الذي أخذ على عاتقه، بعد انتهاء الحرب الباردة، صياغة مبدأ “التدخل الإنساني” بوصفه قانوناً أسمى من مبدأ “السيادة الوطنية”، والعمل به في إدارة السياسة الدولية وفي شروط الأمن الدولي ومعاييره.
وحال “سوريا الأسد” اليوم، كما حال “عراق صدام” بعد حرب الكويت، فهي منذ قانون “محاسبة سوريا” الأميركي، ثم القرارات الغربية والدولية والعربية منذ بداية الثورة، تعيش سوريا تحت وطأة عقوبات سياسية واقتصادية، يُضاف إليها التدمير المنهجي الذي يمارسه النظام للعمران وللمجتمع.. وإذا استمر هذا الحال لسنوات مقبلة ولم يسقط النظام سريعاً، فإن أي تدخل دولي متأخر سيكون بعد فوات الأوان، أي بعد أن يكون النظام قد أتى على البقية الباقية من سوريا الدولة والمجتمع والعمران والإنسان، تماماً كما حدث في العراق عام 2003، عندما بدأنا لأول مرة نشاهد عبر الشاشات والصور العراقيين وهم ينهبون بلدهم بالذات هائمين في الشوارع في هيئات مزرية وحال بائسة. كانوا كتلاً بشرية معطوبة وقد نالها الخراب من داخلها، منفلتة على عنف أعمى وعبثي وعلى فساد يائس وأعمار ضائعة وأرواح محطمة لم تعرف ماذا تفعل بتلك “الحرية” التي جلبها “الاحتلال”، ولم تعرف حتى اليوم ماذا تفعل بحريتها حتى ما بعد الاحتلال.
في نهاية المطاف، سيذهب الأسد عاجلاً أم آجلاً، لكن الخوف هو أن ينجح أيضاً في التشبّه بصدام حسين بأيامه الأخيرة، أي أن يأخذ معه سوريا نفسها إلى الخراب العميم.

المستقبل

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق