د. كمال اللبواني : داعش والنصرة… (ولادة دولة – أمة)
عادة يبدأ كل جديد كغريب ومستهجن، ثم يتمايز ويبلور صورته ليصبح مألوفا، وغالبا ما تتحفنا الطبيعة بمظاهر مفارقة لمضمامينها، وأحيانا توجد ظواهر بسيطة لكن لها دلالات كبيرة، تضيء مسارات التحولات التاريخية الكبرى … لكن دوماً هناك مقاربات مخالفة للمألوف، أو لما يطغى على العقل الجمعي من موضات يحركها تيار الإعلام السطحي المؤدلج، الذي تحركه مشاعر غريزية هيستيرية غير واعية.. لذلك على القارئ الذكي أن يهرب من الشائع ويتجاوز الأشكال ليغوص إلى عمق الأشياء ويراها بدلالاتها المنطقية، وهذا العقل لا يعتبر رأيا بل فهما محايدا، لأنه لا عقل من دون نزاهة وحياد وتجرد عن الهوى.
نعم تدفق من الخارج عدد من المجاهدين، لا يزيد عن عدة آلاف حتى الآن، للمشاركة في الحرب (الجهاد) في سوريا، قادمين من أرضية مختلفة، يحملون معهم وجهة نظر واستراتيجية متجاوزة لأهداف الثورة، وبعضهم ينتمي فكرا لتنظيمات إسلامية عالمية، ترى الصراع في أفق أوسع، كصراع على وجود الأمة الإسلامية ….. وانتشروا في بعض المناطق بين صفوف الثوار الذين يشاركونهم القيم الإسلامية (المتشددة ربما، لكن ليس التكفيرية ولا الإرهابية)، فهم لم يمارسوا الإرهاب على الأراضي السورية، بحسب تعريف الإرهاب الذي هو (استهداف المدنيين عشوائيا بأعمال عنف بقصد إثارة الهلع العام الهادف لتحقيق غايات سياسية). وهذا ما لم تمارسه أي من المنظمات الجهادية كمنظمات، مع الإقرار بحدوث خلل لكن على مستوى فردي، لكن هذه الجماعات ماتزال تلتزم حتى الآن سياسة الدفاع عن المجتمع والمدنيين، وليس مهاجمتهم وترهيبهم، بينما يمارس النظام الحاكم كل أشكال الإرهاب ضد شعبه، بشكل موسع وبإمكانات دولة، وقد ورط بعض من أبناء الأقليات بحربه هذه، واستعان بمرتزقة من دول أخرى، واستخدم أسلحة الدمار الشامل لترهيب الشعب بل لإبادته أو تهجيره، دون إدانة واضحة من المجتمع الدولي، فتهمة الإرهاب التي توصف بها هكذا مجموعات يبدو أنها غير مفهومة، بل غير مقبولة من الشعب السوري، و لا يجوز أن تنتقل جزافا بالقياس مع شكل الذقن واللباس السلفي، بل لا بد من تكرر سلوك واضح يبرر إطلاقها، وإن حدثت بعض ردود الفعل، فهي لا تقارن بالفعل المتسبب، لأن البادئ أظلم، ولأنه يحق لأي مجتمع الدفاع عن نفسه ضد العدوان بكافة الوسائل المتاحة، في ظرف غياب العدالة، التي عطلت عمدا بالفيتو الروسي الصيني.
نظريا لا تهمة الإرهاب، ولا حتى صفة الاستبداد، تنطبق على هذه المجموعات، فهي ليست إرهابية سلوكا ضد الشعب السوري (فقط من وجهة نظر النظام هي إرهابية ويتهم معها كل الشعب السوري)، وهي ليست مستبدة أيضا، لأن المستبد أناني يبيح لنفسه ما لا يبيحه للعامة، ويضع مصالحه على النقيض من مصالحهم، وتوصيفها السياسي المحايد أنها مجموعات دينية شمولية متشددة ديكتاتورية، جاءت من دول شقيقة لمساعدة الشعب الضحية، ولتنفذ ما تعتقد أنه واجب ديني، وما زاد على ذلك فقد طغى.
والفارق بين الإسلام السياسي الوسطي والإسلام السياسي المتشدد: هو أن الوسطي لا يتدخل كسلطة أمر ونهي وعقاب إلا بحدود الشريعة (وحدود الشريعة المطبقة في الأرض بواسطة اليد أي بواسطة رجال الشريعة والقانون- هي حفظ السلم الأهلي والنظام العام فقط)، ولا شأن لأي سلطة أرضية بالعلاقة بين الإنسان وربه، وبالتالي تعتبر الخطيئة الدينية غير خاضعة للعقوبات القانونية الدنيوية السلطانية، فلا تتدخل السلطة في عقائد الناس وعاداتهم وعباداتهم، ولا في سلوكهم إلا في حدود تهديده للمجتمع والسلم الأهلي، فهي سلطة مجتمع يبحث عن إدامة اجتماعه، وليس سلطة إله ودين يعمل لتسويد الحق والخير والتقوى، وهذا هو الفارق الذي يجب توضيحه بين الدين والدولة، وبين سلطتيهما.
أما ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حقل أبعد من حدود (تهديد السلم الأهلي) فتتم فقط بواسطة اللسان كدعوة للخير، وليس باليد كسلطة شرطة ومطوعين. فالشيطان باق إلى يوم الدين .. وحساب الإنسان على الله، ويكون على جملة عمله في الآخرة، وليس حسابه على البشر، وعلى كل صغيرة وكبيرة وبالمفرق في الحياة الدنيا، (فكل امرئ خطّاء وخير الخطائين التوابون)، ولا بد من إرجاء الحساب المادي على كل ما لا يهدد السلم الاجتماعي (وهو الإسلام الوسطي الذي يرجئ الحساب على الصغائر إلى الدار الآخرة) وهذا الإسلام الوسطي لا يتناقض فعليا مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو من حمى وجود التنوع والأقليات ورعاهم كشركاء طيلة قرون بالرغم من الهزات الكبرى التي حدثت في المنطقة (مثل اجتياح المغول والصليبيين والاستعمار). لكن عندما أصبح هذا الإسلام الوسطي مهددا بالزوال (هويةً ووجودا)، وبالتهجير والإبادة والخنوع (شعوبا). تحول للتشدد كحالة دفاع اضطرارية ضد خطر وجودي حقيقي وداهم، بدأ قبل الحرب العالمية الأولى واستمر بمنهجية طيلة القرن الماضي والحاضر.
يعطي التشدد الإسلامي للأمير سلطة تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل درجاته باليد والقوة، ليطبقه بواسطة رجال الشرطة المطوعين، مع رفض فكرة الإرجاء لأي تصرف منكر، ويرافق ذلك تشدد أيضا في تطبيق الحدود، كقطع اليد والجلد وقطع الرأس والرجم، إما برفض الأخذ بغايات ومقاصد الشريعة وليس حرفها وشكلها، أو حتى باشتراطاتها الفقهية الكثيرة التي تعطلها غالبا، و تبرر استبدالها بعقوبة التعزير ( الحبس) ، وبالتالي يميل الحاكم المتشدد لاعتبار نفسه ليس أمير الجماعة المؤتمن على حقوق الناس وحياتهم كجماعة، (قاض ومبشر ونذير .. وليس بمسيطر)، بل يعتبر نفسه مكلفا بتنفيذ إرادة الله، فهو خليفة الله وسلطانه على الأرض، وليس الأمير المكلف بإمارة الناس فقط. وهنا الغلو، المتجلي بافتراض سلطة دينية له على الناس، أي جعل سلطته المادية فوق ضميرهم الذي هو مسكن إيمانهم. (لأن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل) وهو ليس طاعة السلطان، و الخلل النظري هنا كامن في افتراض: أن الله لا يمارس سلطته على كل شيء، والتاريخ قد يسير رغم إرادته من دون عمل المؤمنين (و يؤوده حفظ السماوات والأرض، و ينتظر منا أن نفعل له، وليس لأنفسنا)، مع أنه سبحانه هو الغني الحميد الذي سبح له ما في السماوات والأرض طوعا وكرها. (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما).
أما التكفير فهو أعلى سوية من التشدد نصل إليها عندما نساوي بين الكبيرة والصغيرة، بتوحيد المبدأ: فالذي تسوّل له نفسه ارتكاب الصغيرة قد تسوّل له ارتكاب الكبيرة، وبالتالي نستنتج أن إيمانه لا يحركه ولا يضبطه، بل هواه، فهو عندما يعلم أنها خطيئة ويفعلها بإرادته ولو كانت صغيرة، فهو يتحدى الله ويفتري على نفسه، وبالتالي يدخل في باب الكفر فوق الخطيئة، ومن الناحية النظرية هذا منطقي، لكنه من الناحية العملية غير ذلك لأنه أحادي، فضوابط النفس ليست فقط نابعة من المنظومة الإيمانية اللغوية المحفوظة في الذاكرة، بل هناك ضوابط أخرى حسية وعاطفية مزروعة بالتربية والتجربة والغريزة، وكلها تعمل معا، وتعززها الأنا العليا الضميرية التي تجاهد لتسود على نوازع النفس المختلفة والمتناقضة ، والتي تكون سيطرتها على الصغائر أقل من الكبائر، فالأمر ليس فقط للمنظومة الإيمانية التحريمية المنصوص عنها في الشريعة التي نحفظها، بل أيضا للرغبات الموجودة في مستوى الحس والغريزة وتحت الوعي والوعي وصولا للأنا الأعلى، وللمنظومة النصية التي تتقمص ما تحفظه من الشريعة عند المتدين المطلع المفترض أنها تسكن هذه الأنا كإيمان يحرك الفعل، (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها …) فالنفس ساحة جهاد ومنازعة، ولا يقدّر التكفيريون قوة نوازع النفس وقدرتها على الإفلات من الرقابة خاصة في الصغائر (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). والخطأ الثاني المنطقي أنهم يستنتجون الكفر والشرك بالقياس والمثل والتأويل، وهذا لا يجوز إلا أن يكون تصريحا مقرونا بالسعي والنية عند الوسطيين. أما تطبيق حد الحرابة، فهو لا يرتبط بالقول، بل بالفعل المؤدي للأذى الاجتماعي الهائل، الذي يهدد بالفتنة والعودة للوحشية. ومشروط بالخروج المادي على سلطة القانون (الشريعة)، وليس على الحاكم السياسي، بالوسائل السلمية.
هذا التشدد الذي يصل أحيانا للتكفير، هو من إنتاج العقل الدوغمائي، الذي هو نمط تفكير ثنائي الحد أيديولوجي، متخصص في فترات التوتر والانفعال والخوف والأزمات الوجودية، التي تتردد على التاريخ. وعلاجه ليس إلا عبر تغيير الظروف وتغيير العقل القارئ للدين، لننتج قراءة أخرى مختلفة غير تكفيرية، والفارق ليس في النص الديني المقدس، بل بالعقل القارئ لهذا النص الخاضع لتغير الظروف وتغير المعارف والعلوم اللغوية والفلسفات، مع ثبات النص.
إن ظروف الحرب الرهيبة هي من وجهت الدعوة لهؤلاء للقدوم كمهاجرين، وهم من قدم نماذج قتال متطورة، وأفكارا عسكرية وتنظيمية فعالة، لكن المشكلة نشأت عندما شكلوا فصيلهم الخاص المتميز بالتنظيم والانضباط، وعندما أعلنوا ارتباطهم الافتراضي بالمنظومة الجهادية العالمية دون ارتباط فعلي مثبت، و عندما تطوع معهم عدد من الثوار الأنصار السوريين الذين انبهروا بأدائهم، أو أحيانا بسبب الوفرة التي لديهم.
حدثت المشكلة عندما تطورت إمكاناتهم على التمايز والترسخ كفصيل منفصل، وانتشرت سمعتهم بسرعة بالغة، عندما بالغت بعض الدول في عدائها لهم، وبالغ النظام وحلفاؤه في حجمهم وسلوكهم، مما أكسبهم هيبة وقوة، حتى تشجع فريق منهم على محاولة إقامة دولته (داعش كتفرع عن جبهة النصرة)، تلك الدولة التي يعتبرونها القاعدة التي لابد منها لانطلاق الثورة الإسلامية؟
وهكذا ركزت داعش على تجميع موارد هذه الدولة وتأسيسها، ولم تهتم بالمعارك التي تدور على الأرض مع النظام (سبب قدومها كنصرة جهاد)، واستطاعت الإفادة من الفراغ في المناطق المحررة (بسبب غياب سلطة المعارضة عنها) للسيطرة على موارد ومساحات واسعة جدا، ولفرض سلطانها فيها دون ممانعة من أحد، وكسبت بعض الرضا من فرضها للأمن وتأمينها لمستلزمات الحياة …. لكن قواعد قيام الدولة ليست فقط في الحواجز والمحاكم وآبار النفط، بل لا بد لها من بنية تحتية مجتمعية، وهو ما تفتقده داعش وستبقى تفتقده على ما يبدو، لأنها متشددة في تطبيق الشريعة لدرجة مرعبة ومنفرة، درجة تجعل الجماهير يعادونها قلبا وفعلا (التدخين مثلا).
مع أن تشددها لا ينبع عن عداء أو حقد على العامة، ولا عن رغبة في السيطرة والاستعباد كما يشاع، بل كتعبير عن فهم مختلف متشدد للجهاد، (فنصر الله لن يأتي ونحن نرتكب المعاصي ونهمل الفروض والسنن)، ولأننا في شدة وجب علينا التركيز على الطاعة التامة كبوابة للنصر، لكن هذا التشدد تسبب في فقدانها للقاعدة الشعبية الضرورية لأي سلطة. وهكذا بدأ مشروع هذه الدولة يتلاشى عاموديا رغم امتداده عسكريا (حواجز وطرقات)، وبدأت تتناقض مع القاعدة المجتمعية التي ستقيم عليها دولتها، وبدا مشروعها محددا لذاته، لغياب أهم مكون من مكونات الدولة وهو الشعب المتفاعل معها، وعليه لا يعقل أن تشكل هذه المشاريع السياسية خطرا حقيقيا على الشعب السوري ومستقبل الدولة، فتشددها المبالغ به، وبعض تصرفاتها المفرطة في القسوة. هي عنصر ضعفها، ولكي تستمر عليها أن تتغير وتقترب من الشعب الذي هو أقوى من أي مليشيا، وبمقدار ما تقترب من الشعب يتضاءل تشددها ويزول خطرها، وتضمحل هويتها.
في التقييم السياسي الثوري هي حتى الآن ليست أكثر من قوة أجنبية صديقة منعزلة متشددة، مشروط وجودها بظرف الحرب، وما يحدث الآن بشكل تلقائي هو انفصال حقيقي وثابت بين الشعب والدولة (داعش)، وفي داخلها انفصال بين عناصرها السوريين عن غير السوريين، وبالتالي يتجه مسارها نحو تقوقع المهاجرين غير السوريين وانعزالهم، ليعودوا كمجاهدين مهاجرين يساعدون أخوتهم (نصرة)، وهذا يحصل بتطور الأوضاع التلقائي والطبيعي، ولا حاجة لأي فعل آخر، سوى ملء الفراغ في السلطة والخدمات، وتقديم البديل عن سلطة هذه الدولة من سلطة (إسلامية بالضرورة في هذه المرحلة) يرضى عنها الناس وتعبر عنهم، واستعادة المقاتلين الذين يذهبون لأي مكان يجدون فيه الطعام والذخيرة، فالفراغ هو من أوجد الدولة (داعش)، ونقص الدعم عن الثوار هو من جعلها تضم الكثير من السوريين، والتهويل الغربي هو من قوّى شوكتها وشد عصبها، ونقص تنظيم المعارضة هو من جعلها تتفوق حيث توجد، ولا أعتقد أن عدة آلاف من المقاتلين الأجانب يستطيعون إقامة دولة، من دون قاعدة شعبية واسعة، وهو ما فشلوا في كسبه طواعية ولا يفيد كسبه قمعا.
لذلك وبالرغم من محاولة النظام ومسطحي العقول شيطنة وتهويل داعش، (في محاولة ضمنية لإيجاد وتبرير عناصر الوحدة مع المختلف في الطرف الآخر، عن طريق خلق عدو مشترك مضخم بطريقة أسطورية، يبرر به العودة لأحضان النظام) .. لا أرى ضرورة للمبالغة بالخوف منهم، ولا ضرورة للحرب معهم، بل لابد من التفكير في استيعابهم ضمن الثورة، ثم المجتمع، وهذا يتطلب مقاربة أخرى لموضع داعش، بينما قطعت النصرة معظم طريق عودتها لصفوف الثوار السلفيين السوريين، وتخليها عن فكرة السيطرة على الدولة بالقوة … ويقع على عاتق قادة السلفية الجهادية المهيمنة الآن أن يفتحوا الطريق أمام استيعاب داعش وتحولها نحو حلول وسطية وتدريجية لإنهاء حالة الانقسام، وتوحيد البندقية في هذا الظرف الصعب والتآمر الدولي الأخطر، مع السعي الجدي لدمج هؤلاء المهاجرين في المجتمع السوري، أما التفكير بطردهم فسيتسبب بمشاكل لهم ولدول أخرى، والمنطق والحكمة يقتضي التفكير باستيعابهم ودمجهم في المجتمع السوري المسلم المعتدل كونه قادرا على صهرهم في بوتقته المرنة الوسطية.
لا يوجد في السياسة أسود وأبيض فقط، فلكل ظاهرة حسنات وسلبيات ووجوه مختلفة، ومن وجهة نظر أخرى هؤلاء المجاهدون و أمثالهم المستعدون للقدوم للجهاد في سوريا، هم ورقة قوة وعنصر أمان يضمن هوية الشرق العربية الموحدة له، وبقاء مذهب أهل السنة والجماعة غالبا فيه وحاضنا لتنوعه، في مواجهة الشيعية السياسية الفارسية، إنهم عنصر التوازن الاستراتيجي الأخير في وجه الإيراني المدعوم من روسيا، الشريك مع اسرائيل في تقاسم المنطقة، والمتصالح مؤخرا مع الغرب، والذي يهدف لمحي هوية المنطقة واستبدالها بعرقيات وطائفيات، بواسطة حرب الإبادة والتهجير والتشييع السياسي، التي شنها ويشنها في العراق ولبنان وسوريا وغدا في كل الدول الخليجية التي بدأت شعوبها تستشعر الخطر الوجودي، بعد التقارب الفارسي الأمريكي الروسي المشبوه، وهو ما قد يفتح الباب نحو ثورة عارمة في كل المنطقة ضد الهيمنة والتآمر وضد حرب الإلغاء التي تشن على العرب السنة، من قبل تحالف غربي -شرقي رأس حربته هم الأقليات بكل أسف، الأقليات التي تقبل أن توظف في مشاريع غير وطنية، وتدفع لارتكاب جرائم وللتورط في قتل الناس وإبادتهم، دون أن تقدر حجم ردة الفعل التي ستحدثها عند الآخرين.
على ما يبدو .. أن الحفاظ على الشعب ووحدته والوطن وحدوده وسيادته، سوف يتطلب المرور بنوع آخر من الشموليات هو ديكتاتورية الأغلبية، التي ربما ستكون أعدل كثيرا من ديكتاتورية الأقلية التي فرّطت بالبلاد والعباد، بل ربما أعدل من ديمقراطية الأقليات، المشروطة بالتبعية والتحلل، والتي تضحي بالسيادة والهوية، أي أن هذه الشمولية ستتيح الفرصة لبقاء الأوطان مستقلة عزيزة حرة، وبالتالي تهيء الظرف لثورة داخلية ديمقراطية حقيقية أخرى.. من داخل التراث والهوية، وبيد الأغلبية التي سوف تجد مصلحتها في تطوير نظامها الوطني، دون التضحية بثوابت الوطن على مذبح ديمقراطية مكونات مزيفة تنتج التخلف وترتهن للتبعية، وهنا دور المثقفين الإسلاميين في إعادة قراءة دينهم بطريقة أكثر انسجاما مع العصر، وهو المدخل الإيجابي الوحيد المتاح لنا نحو الحضارة، وما عداه يبدو أنه عملية اندثار وغياب عن التاريخ كأمة.
كان بالإمكان الضغط على الأنظمة المستبدة الموالية للغرب لفتح باب الإصلاحات، أو للانتقال لشكل من أشكال ديمقراطية الأقليات (السياسية والطائفية) على هشاشتها في بداية الثورة بمساعدة خارجية، لكن إهمال الغرب لمسؤولياته ودوره، واستخفافه بإرادة الشعوب العربية بالتغيير والخلاص من حالة التبعية والهوان والخنوع، وخوفه المبالغ به من الإسلام ومن وحدة المسلمين، رغم أننا في عصر الاندماج الكوني، وعصر الدول المتجاوزة للقوميات، ثم قدرة النظام المجرم على تحويل المعركة مع الثورة، لحرب إقليمية، وحرب إبادة ضد الأغلبية، وتوريطه البعض من الأقليات فيها، كل ذلك قتل هذا الاحتمال، وأجبر الثورة على السير بطريق أبعد وأطول، للصمود في وجه الطغيان والذل وحرب التهجير والفناء، ثم إعادة بناء الوطن السيد الحر، وبعدها السعي لتطوير نظامه باتجاه الديمقراطية التي لا تكون على حساب الوحدة والهوية والسيادة.
ما أقوله للإسلاميين: إن الشكل المطروح حاليا لوحدة الأمة الإسلامية ربما ليس هو الشكل العملي المناسب، لكن مجرد طرح الفكرة أو التفكير فيها هو شيء ضروري وهام، ليس فقط لتجاوز حالة الهوان التي تعيشها الأمة المقسمة، بل لأن الأمة الإسلامية هي الوحيدة التي يمكنها أن تحمل رسالة أخلاقية، تجعل من وحدة هذا العالم مبنية على مقدسات وقيم، وليس على هيمنة الأكثر وحشية والأقل أخلاقا، لأنه انتصر في حرب عالمية استعمل فيها أسلحة الدمار الشامل، الذي يقود العالم من أزمة إلى أخرى ويعجز عن إدارة أي ملف حضاري.. لا اقتصادي ولا سياسي ولا حقوقي، ولا أمني .. ثلاثة على الأقل من الدول ذات الحق بالفيتو متغطرسة، ولا تحترم إلا مصالحها القومية. تطيح بكل القيم والقوانين من أجل أنانياتها .. فكيف يمكن لبقية الشعوب أن تنضم للمجتمع الدولي من دون منظومة قيم تحفظ حقوق الضعيف..
وما أقوله للغرب: يخطئ كثيرا من لا يقدر حجم المعاناة التي يعانيها كل مواطن سوري عايش النظام، وحجم خيبة الأمل الذي يحدثه التساهل مع المجرم، ومقدار شعبية من يقدم لهم أي نوع من المساعدة، فما حدث ويحدث رهيب وقبيح واستثنائي لدرجة تثير الجنون…… كما أن الإمعان في سياسة التفرقة والهيمنة والتقسيم وإثارة النزاعات المحلية التي تهدف لتدمير العدو المحتمل، وهو هنا الأمة العربية والإسلامية، هو بالضبط ما يسرع الخطى نحو تبلورها، فالشعوب التي ثارت ضد الهوان لا تهزم بل تغير أيديولوجياتها، وكما كانت سياسة الغرب في دعم الاستبداد العسكري لوقف المد الشيوعي خاطئة، ستكون السياسة العدائية التقسيمية خاطئة أيضا وقصيرة النظر ، لكونها لا أخلاقية ، ولكون الأخلاق هي قانون وجود التكوين الاجتماعي الإنساني، القانون الطبيعي الذي يجعل كل من يخالفه يدفع الثمن مضاعفا.
والبديل الأرقى عن سياسات العداء والهيمنة التي لن تولد سوى العنف وعدم الاستقرار، هو التنافس الأخلاقي والتعاون بين الشعوب، عملا بقوله تعالى:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
زمان الوصل