زملاء

آية القزاز : دعوني أشكر الحرب

عندما دخلت المصعد، ذلك الذي شهد على اغترابي، شعرت بأنني أغادر الحياة، أغادر الأرض، أغادر كل الأشياء.. حتى أنا.. غادرتني. اللاصوت الذي يهاجمني، وكأنه ثورة فوق رأسي، يخبرني أنه سيكون جليسي في غربتي. ما إن تغترب حتى تعلم أن الوطن ما هو إلا روح تسكنك، تعلم أخيراً أن الجغرافيا التي تقطنها لم تكن إلا نبضك. أرض وطني ليست جميلة كما يجب، لكنها أرضي، نشأتي، طفولتي، هي كل الأشياء الجميلة.. هي أنا..

يأخذني الحنين هناك، فتداعب ذاكرتي أصناف الطعام التي لطالما رفضتها، “صحناً من الحمص، حبات متناثرة من الزيتون، رائحة الفلافل، فرض المنسف يوم الجمعة، وكأس من الشاي تسبح به أوراق الميرمية”.. كلها أشياء أرجو لو عادت، لو أعيشها ثانية، لو أشمها فقط. قابعة كلها بحلوها ومرها تحت ثقب القلب، تعيش معي، تؤنسني، تطبطب على كتفي، وتخبرني بـ أنها “الأقدار”.

وحدها السماء تشبه شيئاً من هناك، فهل يدركون عظمة الامتداد في السماء كما ندرك؟ هل يحدق بها أحدهم ذات مساء؟ هل يرسلون السلام لنا عبرها كما نفعل؟ أم أن لعنة التأمل تلازمنا نحن فقط؟ يا للرعب! أي عالم هذا الذي تفتح أمامي فجأة؟ أي نوع من النضج وهبتني الأيام؟ أي ملامح البشر قادرة أنا على تفسيرها؟ أي مكان أنا أتيت؟ وأي غربة تلك التي غُربت؟

الآن.. دعوني أشكر الحرب.. الحرب التي جمعتني بمن باعدت بيني وبينهم الدماء، بمن جمعتني بهم في بلاد هي ليست لي أو لهم. الحرب التي أخرجتهم من ديارهم، حملتهم إلى هنا، وهدأت من ألمي. بعد حرب دامت 6 سنوات، لم أعد أذكر من أوطاني سوى ملامح وبعض ذكريات، فكيف أنت تذكرني؟ كيف تعرفني؟

دخلت إحدى المطاعم التي تقدم الطعام السوري في مصر، لأرى أمامي رجلاً كنت في الأعوام السابقة أدخل إليه وأطلب مما لديه. والآن، ها هو، إنه هنا، يسألني عن حالي وكأنه يعرفني، وبكل بهجة أجيبه وكأن روحي عادت، هَدَأت نفسي واستقرت، كأنني لم أغترب، وكأنَّ نسائم البلاد عادت بنفحاتها تنعشني. هي الأقدار تفرقنا ثم تجمعنا على حال لم نكن نتوقعه، ولعلنا أيضاً لا نريده.

أن تكون زائراً في وطنك خير لك ألف مرة ومرة من أن تغترب في رحمه، من أن تحمله على الورق وفي داخلك وطن آخر، أن تشرب من مائه وبحر وطن آخر يستقر في أوردتك، أن تعيش فيه وتفتش بداخله عن غريب يشبهك ومن ذات موطنك. الآن فقط أشعر بألمك يا رسول الله، اليوم فقط أتشرب الألم من كلماتك، وأعلم ما معنى أن تخرج من وطنك مجبراً لرسالة هي أعظم من الوطن والأهل والناس أجمعين. الآن فقط أعلم أن كل الألم القابع في الروح، لا يذهب إلا إن عدت لوطنك وخيراتك تسبقك إليه.

لعلي في لحظات يأسي لا أريد من أحدهم إلا أن يشد أذناي للوراء، أن يعيدني طفلة، تطهو الفراغ في الهواء، تطعم الباربي، وتنام ممسكة يد دميتها الحسناء، فلا تلبث الفكرة أن تتمكن مني حتى اقتلعها من داخلي، وأربي ذاتي على أن جمال الوطن لن يظهر إلا حين نبذل له الصعاب، ولأنه يستحق، سأفعل.

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق