زملاء
المفكر السوري طيب تيزيني يكتب عن الفكر النقدي والمعارضة
أثار المقال الأخير الذي كتبناه ردود فعل لدى بعض القراء، خصوصاً حين يوضع ما أتى في مقالنا ضمن الظروف التي تمر بها الثورة السورية، فلقد أتت هذه الأخيرة بعد ثلاثة منعطفات كبرى في البلد، أما الأول فقد تمثل في مرحلة الانتقال من الحكم الاستعماري الفرنسي إلى مرحلة الاستقلال الوطني عام 1946 والدخول في مشروع وطني تنموي، خصوصاً على الصعيدين السياسي الثقافي والاقتصادي، وقد تتوج ذلك لاحقاً في المنعطف الثاني، ليسجل تقدماً قومياً تمثل في تحقيق ما اعتبر في حينه، “وحدة بين سوريا ومصر”، ثم جاء سقوط الوحدة مقدمة لعدد من الانقلابات العسكرية، التي انتهت بتأسيس ديكتاتورية حزب “البعث” عام 1963 حتى عام 1970، وتوقفت هذه التغيرات مع الانقلاب الذي حققه حافظ الأسد، تحت اسم “الحركة التصحيحية”.
ومع تكرُّس هذه الأخيرة يكون الانتقال قد تم من “ديكتاتورية الحزب” إلى “ديكتاتورية الفرد”، أي حافظ الأسد، الذي أصبح بعدئذ “قائد المسيرة إلى الأبد”، عام 1970.ها هنا، يتوقف التاريخ عن أن يكون إطاراً لحافظ الأسد، ليصبح حقل تجلّي التاريخ وعقله، ويتشابك الماضي مع الحاضر والمستقبل لينبثق النموذج الأعظم للتاريخ الأسدي بذاته، الذي راح يفصح عن نفسه فيما لا يحصى من النماذج، التي ستكتمل في النموذج المهيئ لحافظ الأسد نفسه، نعني جلجامش، الذي “نصفه إله ونصفه الآخر بشر”، ومع تشخيص ذلك في قلب الأحداث، نجد جلجامش الأسد ملكاً ومالكاً وإلهاً، في السياسة والاقتصاد واللاهوت، وقد تحدد الأمر وتشخص أكثر، حين تشخص وتحدد في المكوِّنات التي قام عليها الاستبداد الأسدي (لدى الأب أولاً ولدى الابن ثانياً).
في ذلك كله تحددت مهمات النقد التاريخي، وتحددت من ثم مهمات الإنتاج النظري في سياق الثورة السورية على أيدي طلائعها، الذي ينبغي أن يتحولوا إلى جسد الثورة بكله مقدمة ومتناً ونتائج. ومن شأن ذلك أن لا يكون النقد في الثورة مهمة خاصة بـ”لجنة مركزية أو مكتب أيديولوجي…إلخ، في الثورة”. فهذا النقد المقصود يصبح مهمة الثورة كلها، وإلا سيُفضي الأمر إلى تشكّل نخبة مع مواجهة الكتلة العظمى. وهنا تبرز أهمية ذلك في أمرين اثنين أولهما يتمثل في العمل الدؤوب والمفتوح على تحقيق جميع أفراد المؤسسة الثورية حداً قائماً على التنامي النوعي والكمي المفتوح لمنظومة النقد العلمي، أما الأمر الثاني فيظهر في الوقوف بحزم ضد من يرى أن أمور ممارسة النقد شأن “يختص” به شخصيات دون غيرها، انطلاقاً من أن أولئك بما هم يتمتعون به من فضائل تتوافر في شخوصهم دون الآخرين، هم الأولى بالاستمرار في القيادة هذه أو تلك.
وحرصاً على الحفاظ على هذا الموقف، ربما كان شأناً في غاية الأهمية، أن تتحول دائرة المناصب القيادية إلى عملية مفتوحة دائماً ولأقصر الآجال الممكنة ثانياً: لنقل إذن إن المناصب القيادية كلها، هي خاضعة لقانون تعميمها على الجميع، بقدر ما هو ممكن، وإذ ذاك لا يحق لرئيس جمهورية أو لمدير عمل أو ما يدخل في هذا الحقل أن يستمر لأكثر من دورتين. ففي ذلك تكمن قيمة ثورية عظمى: قيمة ألا تتحول تلك المناصب إلى توريث وإلى الأبد”!