فراس أبو هلال : تصحيح مسار الثورة السورية
تمر الثورة السورية بمرحلة حرجة سياسيا وعسكريا، في ظل استعصاء تحقيق انتصار عسكري كامل على النظام، أو الوصول إلى حل سياسي يحقق طموحات الشعب السوري، ويصل إلى مستوى التضحيات التي قدمها هذا الشعب خلال الثورة.
وإضافة إلى انسداد الأفق السياسي والعسكري، فإن الثورة على صعيديها العسكري والسياسي تشهد انحرافات عديدة، تجعل من الضروري توجيه الانتباه إليها، والعمل بكل السبل إلى التخلص منها.
فما هي أهم الانحرافات في مسار الثورة السورية؟ ولماذا يجب التنبيه إليها في الوقت الذي تحتاج الثورة إلى كل الدعم والمساندة؟ وما هي السبيل لتصحيح المسار؟
الأزمة السياسية
تعاني الثورة السورية منذ انطلاقها عدة أزمات سياسية، ولكن هذه الأزمات بدأت تتفاقم بشكل كبير مع استمرار الثورة وطول مدتها مقارنة بغيرها من الثورات أو الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدة دول عربية.
تشتت المعارضة السورية تعمق بظهور أسماء جديدة ومتزايدة من الهيئات المعارضة، لدرجة بات فيها من الصعب على أي مراقب أن يعدد أسماء وتوجهات وأفكار هذه الهيئات، فضلا عن معرفة دورها الحقيقي في الثورة |
ولعل الأزمة الأساسية التي تمّ الحديث عنها منذ اليوم الأول هي تشتت المعارضة وخلافاتها الكثيرة، والتي بدأت في الشهور الأولى للثورة بين الفريقين الرئيسيين في المعارضة آنذاك: المجلس الوطني وهيئة التنسيق الوطني.
ولكن تشتت المعارضة السورية تعمق بعد ذلك بظهور أسماء جديدة ومتزايدة من الهيئات المعارضة، لدرجة بات من الصعب على أي مراقب أن يعدد أسماء وتوجهات وأفكار هذه الهيئات، فضلا عن معرفة دورها الحقيقي في الثورة.
وإضافة إلى ذلك، فقد مثل تشكيل الائتلاف السوري المعارض مظهرا آخر من مظاهر الأزمة السياسية في صفوف الثورة، ودلالة على غياب البوصلة لدى المعارضة السورية، إذ إن تشكيل هذا الائتلاف كان رغبة وقرارا دوليا أكثر منه قرارا سوريا، ومع أن الهدف المعلن لتشكيل الائتلاف هو توحيد المعارضة إلا أنه فشل في تحقيق هذا الوحدة المنشودة.
وبالطبع فإن كل الثورات في التاريخ البشري شهدت نوعا من الانقسام وتعدد القيادات والهيئات، وهو أمر طبيعي في إطار التعدد والاختلاف في كل شعوب الأرض، وهو ما يدفع البعض للقول إن ما تشهده الثورة السورية ليس بدعا من الثورات.
والحقيقة أن معظم الثورات -وإن شهدت تنوعات واختلافات كبيرة- إلا أنها كانت تمتلك تيارا رئيسيا يمثل الأغلبية، ويتوسط التيارات المختلفة على يمينه ويساره، ويعبر عن تطلعات أغلبية الشعب، ويمتلك قدرة عسكرية وسياسية ومالية تؤهله لاتخاذ القرارات المصيرية نيابة عن الثورة، وفي بعض الأحيان فرضها، حتى إن كانت هذه القرارات لا تمثل كل التيارات الثورية.
أما في الحالة السورية، فإن الائتلاف الوطني فشل في تحقيق هذه المواصفات، فلا هو يمتلك الشرعية التي تؤهله للادعاء بأنه يمثل غالبية الفئات الشعبية المؤيدة للثورة، فضلا عن الشعب السوري بأكمله، ولا هو يمتلك الاعتراف الدولي كممثل شرعي و”وحيد” للشعب السوري، ولا هو يمتلك قيادة مؤثرة وقادرة على فرض أو إقناع أعضائه بإستراتيجية سياسية وعسكرية واضحة ومتفق عليها كما كان واضحا في اجتماع الائتلاف الأخير حول اتخاذ قرار من جنيف2، وهذا هو أخطر جوانب الأزمة.
ولعل اجتماع الائتلاف السوري الذي عقد في العاشر من الشهر الماضي لبحث المشاركة في جنيف2، يقودنا إلى أخطر جوانب الأزمة السياسية العسكرية للثورة السورية، وهي فقدان السيطرة للمعارضة السياسية على التشكيلات العسكرية.
ويعني ذلك أن المعارضة لن تكون قادرة على تطبيق أي اتفاق تصل إليه في أية مفاوضات مع النظام أو مع المجموعة الدولية، لأنها باختصار لا تمتلك السيطرة على من يحملون السلاح على الأرض، ولذلك فقد ربط الائتلاف مشاركته في جنيف2 بحضور المعارضة العسكرية لهذا المؤتمر.
وقد يقال هنا أيضا إن تاريخ الثورات العالمية قد شهد حالات مماثلة من غياب السيطرة الكاملة للقيادات السياسية على الكتائب العسكرية، وهو أمر صحيح إلى حد ما.
ولكن الصحيح أيضا أن التيار السياسي الرئيسي في الثورات يسيطر عادة على تيار رئيسي عسكري، مما يعطيه القدرة على فرض رؤيته السياسية على “معظم” التشكيلات العسكرية، وبالتالي يجعل القيادات العسكرية الخارجة عن سيطرته معزولة ومضطرة للقبول بالأمر الواقع في نهاية الأمر، وهو ما لا يتفق مع الحالة السورية في الوقت الحالي، حيث لا يستطيع الائتلاف السوري باعتباره أقوى تشكيل معارض أن يزعم أنه يستطيع فرض رؤيته على غالبية الكتائب المقاتلة، بل إن الائتلاف في بعض الحالات يكون مرهونا في قراراته لإرادة القوى العسكرية على الأرض.
وعليه يصبح الأمر معكوسا تماما، إذ تفرض القيادة العسكرية رؤيتها على القيادة السياسية، مما يجعلنا أمام “عسكرتاريا” في جبهة الثورة التي قامت لتنهي “عسكرتاريا” النظام الأمني الدموي!
الأزمة العسكرية
تتعدد وجوه الأزمة العسكرية في جبهة الثورة السورية كما هو الحال في الجانب السياسي، ومع طول الثورة وغياب القيادة السياسية الجامعة للجبهة المناهضة للنظام تزداد الأزمة في الجانب العسكري.
انحرافات بعض التشكيلات العسكرية تمثل خطورة أكبر من الانقسام على الثورة، لأن هذه الانحرافات تتصل مباشرة بحياة الناس اليومية، الذين يعانون أصلا ظروفا بائسة وغيابا للأمن وفقدانا للأمل بسبب عنف النظام وجرائمه |
وأول وجوه الأزمة هو الانقسام الكبير إلى درجة التشظي في صفوف المقاومة المسلحة للنظام، وعدم وجود قوة رئيسية تمثل “غالبية” الشعب السوري أو على الأقل غالبية الفئات المشاركة في الثورة.
فقد بدأت “عسكرة” الثورة كرد على المقاربة الدموية التي تبناها النظام، وكانت قائمة أساسا على الضباط والجنود المنشقين عن الجيش النظامي والذين شكلوا الجيش السوري الحر، وهو “التنظيم” العسكري الذي ظل متسيدا في الساحة الثورية العسكرية في البدايات، قبل أن يصبح مجرد تشكيل من التشكيلات العسكرية متعددة الأيديولوجيات والأفكار والخلفيات.
وكما هو الحال في الجانب السياسي، فإن غياب قوة عسكرية “مسيطرة” على أغلبية الساحة العسكرية يمثل خطرا على الثورة وتماسكها وانسجام قراراتها، ويجعل من الصعب تحقيق قرار عسكري ملزم لجميع الثوار المقاتلين على الأرض.
وعلى أهمية وخطورة هذه المشكلة، إلا أن انحرافات بعض التشكيلات العسكرية تمثل خطورة أكبر من الانقسام على الثورة، لأن هذه الانحرافات تتصل مباشرة بحياة الناس اليومية، الذين يعانون أصلا ظروفا بائسة وغيابا للأمن وفقدانا للأمل بسبب عنف النظام وجرائمه.
لقد بات معروفا مثلا أن بعض التشكيلات العسكرية التي تعمل باسم “الثورة” تستخدم قوتها للسطو على أموال الناس، وتنهب ممتلكاتها، في الوقت الذي يعاني فيه الناس من ضائقة مالية ومصاعب حياتية غير مسبوقة، فيما تقوم بعض الكتائب باستغلال قوتها للاعتداء على حقوق المواطنين دون وجه حق.
وإضافة لذلك فإن بعض الكتائب المنتمية للاتجاه الإسلامي تحاول فرض بعض الأجندات الاجتماعية والدينية على الناس في المناطق المحررة، واتخاذ بعض القرارات غير المفهومة باسم تطبيق الشريعة، مع أن تطبيق الشريعة بحاجة إلى دراسة معمقة من أهل العلم لتحديد معناه وآلياته، ولدراسة الظروف المواتية لتطبيقه، ولتأصيل نموذجه ليتوافق مع الرؤية الصحيحة للإسلام لا التفسيرات المبنية على قراءة ضيقة للدين، خصوصا في بلد لا يزال يشهد حربا طاحنة بين النظام والثوار، أتت على الأخضر واليابس فيه، وجعلت حياة الناس جحيما لا يطاق.
الثورة بين التحصين والتصحيح
ثمة ميل لدى مؤيدي الثورة السورية إلى رفض انتقاد ممارساتها، أو الإضاءة إلى انحرافاتها، باعتبار أن الثورة في حالة حرب أو اشتباك مع النظام الذي لا يمكن بأي حال المقارنة بين جرائمه وأخطاء من ينتمون للثورة.
ومن الطبيعي في مرحلة من مراحل خوض المعارك أن يحرص مؤيدو كل جانب من جوانب هذه المعارك على دعمه والتجاوز عن أخطائه، أو تأجيل نقاشها إلى حين انقشاع غبار الحرب، ولكن المشكلة أن طول الثورة السورية لا يتيح الفرصة لاتباع هذه المقاربة، لأن الأخطاء التي لا تصحح اليوم قد تجرّ أخطاء أشد وأكثر خطورة في الغد.
ولنا درس في التجارب التاريخية في بعض الثورات ومنها الثورة الفلسطينية سواء في عقد الثلاثينيات أو بعد إنشاء منظمة التحرير، إذ تشير هذه التجربة إلى أن التغاضي عن أخطاء الثورات أو من ينتمون إليها ستقود حتما إلى انحراف الثورة بشكل كامل، وربما وصولها إلى مآلات تتناقض تماما مع الأهداف التي قامت لأجلها.
ولذلك فإن حماية الثورة السورية تكون بنقدها من موقع الحرص لا بمحاولات تحصينها من النقد، وبمحاصرة أخطائها قبل أن تتضخم لا محاولة التغاضي عنها باسم دعم الثورة في مواجهة النظام الدموي.
وإلا فإن الثورة ستتحول شيئا فشيئا إلى هدف بدلا من أن تكون وسيلة، وستصبح “صنما” جديدا مع أنها جاءت لتهدم فكرة الدكتاتور “الصنم”.
من الأطراف القادرة على المساهمة في نقد الثورة النشطاء المؤيدون للثورة من الشباب المستقلين، الذين لا ينتمون لأحزاب أو تجمعات سياسية، ولا تربطهم مصالح أو طموحات شخصية بأي طرف من أطراف الثورة أو داعميها |
ويبقى السؤال: مَن هي الأطراف التي يمكن أن تساهم في نقد الثورة وتصحيحها؟ وكيف يمكن لهذه الأطراف ممارسة النقد في ظل “سلاح” التخويف والتخوين الذي يشهر أحيانا لمنع الحديث عن أخطاء الثورة؟
من المهم هنا للإجابة عن هذا التساؤل الإشارة إلى أهمية دور النشطاء المؤيدين للثورة من الشباب المستقلين، الذين لا ينتمون لأحزاب أو تجمعات سياسية، ولا تربطهم مصالح أو طموحات شخصية بأي طرف من أطراف الثورة أو داعميها، وهم بهذه الاستقلالية يمتلكون القدرة على الإضاءة على انحرافات الثورة بشقيها السياسي والعسكري، كما يمكنهم أيضا أن يمثلوا ضغطا شعبيا على قيادات الثورة.
ويمكن طبعا أن يكون هؤلاء النشطاء من السوريين المقيمين في الخارج، الذين يلعبون دورا في دعم الثورة عبر إسهاماتهم الفنية والأدبية والسياسية والإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي وفي كافة المنابر الإعلامية المتاحة لهم.
ولكن الدور الأكبر هو لأولئك النشطاء الذين ظلوا صامدين على الأرض داخل سوريا ويمارسون دورا تعبويا أو إعلاميا أو ثوريا لدعم الثورة، وهؤلاء بفعل صمودهم وتضحياتهم ومساهماتهم على أرض الواقع يمتلكون رصيدا أكبر يؤهلهم للمساهمة في نقد انحرافات الثورة دون الخوف من المزايدة من أحد.
ومع أهمية دور النشطاء في الداخل والخارج، إلا أن المهمة الأساسية تبقى ملقاة على عاتق الشعب السوري، فهذا الشعب الذي بثت فيه الثورة روح التمرد والرفض بعد عقود من الخوف، يمتلك القدرة والجدارة لتصحيح مسار الثورة التي قامت أصلا لتحريره من الاستبداد، لا لتقييده باستبداد من نوع جديد.