طارق شام : الرّقّة / المدينة التي تحكمها دولتان
” المواطن في الرقة اليوم عليه الخضوع لقوانين «دولتين» متناقضتين في السياسة متفقتين في انعدام الشرعية والإجرام، «دولة» نظام مجرم يقصفه ويقتل أبناءه ويدمّر البنى التحتية لبلاده ثم بكل وقاحة يطالبه بضرائبه المستحقة، و«دولة» أخرى هُلامية غامضة تقدم نفسها كظلّ الله على الأرض وتفرض عليه الضرائب أيضاً بوحشية لا تقلّ عن وحشية الدولة الأولى. “
- منذ لحظة تحرير مدينة الرّقّة، قبل نحو عامٍ تقريباً، فشلت القوى التي سيطرت على المدينة في إدارتها خدمياً واقتصادياً. النظام الذي خسر عسكرياً، نجح في فرض هواه على المدينة، وإن بطريقة غير مباشرة، ودون أن يكون له عنصر على الأرض لفرض هذا الهوى.
الواقع السياسي
بعد هزيمة قوات النظام من المدينة، توزّعت السلطة على عدّة أقطاب: القوة العظمى للكتائب الإسلاميّة، خاصة ’حركة أحرار الشام الإسلامية‘، والتي استحوذت على مصادر مالية ضخمة، خاصّة بعد سيطرتها على البنك المركزي في المدينة ومصادرة الأموال المودعة فيه (يتراوح الرقم بين 6-8 مليار ليرة سورية، بسعر صرف بلغ 90 ليرة سورية لكل دولار في تلك الفترة)، إضافة إلى ’جبهة النصرة‘؛ و’لواء ثوار الرقة‘؛ وأخيراً عدد من كتائب ’الجيش الحر‘ كانت في ذلك الوقت ذات حضور ﻻ بأس به. انشقّ تنظيم داعش (’الدولة الإسلامية في العراق والشام‘) عن ’جبهة النصرة‘، وأصبح القوة الثانية في المدينة، ثم بدأ بتصفية بقية الكتائب واحدةً تلو الأخرى، خاصةً تلك التابعة لـ’الجيش الحر‘، واستخدم في حربه ضدّها جميع أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة. وقد انتهت موجة اﻻشتباكات الأخيرة (التي بدأت بدايات العام الحالي) بفرض تنظيم داعش سيطرته الكاملة على المحافظة، وطرد كل من ’أحرار الشام‘ و’لواء ثوار الرقة‘ و’جبهة النصرة‘، وفرض البيعة على أيّ تنظيم آخر في المدينة، بما في ذلك العشائر طبعاً.
واقع خدمي شبه متوقف
بعد خروج النظام، وقبل إكمال فرع القاعدة البغدادي سيطرته على المدينة، كان ’المجلس المحلي لمدينة الرقة وريف المركز‘ يقدم خدمات النظافة بتمويل من إدارة المجالس المحلية وبعض المنظمات، وبتعاون من قبل بعض الحركات المسلّحة المتواجدة آنذاك، كـ’حركة أحرار الشام‘. قرّر تنظيم ’الدولة الإسلامية‘، بعد طرد منافسيه من المدينة، تغيير اسم المجلس المحلي إلى «دائرة الخدمات الإسلاميّة»، رغم أنه يطالب المجلس بالاستمرار بعمله الخدمي كالسابق، بما فيه السعي للتموّل من نفس الجهات التي يصفها بالـ«كافرة».
اليوم، ومنذ وقوعه تحت سلطة داعش المباشرة، يجد مجلس الرقة صعوبة كبيرة في إقناع جهات مانحة، مثل وحدة تنسيق الدعم التابعة لـ’الائتلاف الوطني‘ ومنظمات كـالمنتدى السوري للأعمال وكومينوكس العالميةوالمجلس النرويجي للاجئين، بالاستمرار بتقديم الدعم له، رغم ما قدمه المجلس، والذي يتبع إدارياً لوحدة المجالس المحلية، من دراسات ومشاريع تنموية وخدمية في المدينة، حيث يقف الواقع الجديد حاجزاً دون الحصول على التمويل اللازم. ومن الجدير بالذكر أن الدعم المُقدّم للمجلس المحلّي قبل سيطرة داعش كان معقولاً جداً بالنسبة للواقع السوري والمحافظات الأخرى.
التعليم ليس أفضل حالاً
التنظيم القاعدي المسيطر فرض على الطالبات لبس النقاب، واقتصر دوره على ذلك دون أيّ مجهود لترميم أو تأمين لوازم التعليم. منظمة اليونيسفقامت بتوزيع حقائب ومستلزمات التعليم على طلاب الحلقة الأولى من المرحلة الأساسية (من الصف الأول حتى الخامس الابتدائي).
وقد صرّح وزير إعلام الأسد أنّ وزارته ستقوم بتجهيز المدارس في الرقة وتأمين احتياجات العام الدراسي الجديد، وذلك في تصريح صحافي أدلى به الوزير على شاشة التلفزيون الرسمي السوري. بيد أن هذه التجهيزات لم تتجسّد إﻻ بمجازر متكررة للطيران الحربي الأسدي ضد المدارس والأطفال، كما حدث صباح 29 أيلول 2013 حين استهدفت القنابل الفراغية ثانوية ابن طُفيل متسبّبةً بجرح العشرات واستشهاد 14 طالبةً وطالباً1.
هذا وما زالت المدارس تدرّس مادّة «التربية القومية» التي تمجّد النظام والأسد الأب وابنه!
معظم المدارس التي كانت مقرّات كتائب أو مآوي لاجئين ‒باستثناء تلك القريبة من مقرات الكتائب‒ تم إخلاؤها، وذلك لإمكانية تعرّضها للقصف، مثل ثانوية الرشيد ومدرسة الأمين ومدرسة الخوارزمي (المطلّة على تخوم الفرقة 17)، وتمّت إعادة تجهيزها عبر ’المجلس المحلي‘ للمدينة بالتعاون مع ’رابطة المعلّمين الأحرار‘، والتي شكّلها معلّمون محلّيون للمساعدة في تسيير شؤون التعليم. ما زالت التعيينات والتنقّلات وإدارة العملية التربويّة تتمّ عبر وزارة التربية التابعة لنظام الأسد، كما لم يجرِ تبديل المعلّمين الذين فرّوا من المدينة، إﻻ أنّ بعض المعلّمين المفصولين من الخدمة تطوّعوا لسدّ الفراغ دون مقابل. لم تجرِ أيّة تغييرات على المناهج. نسبة الدوام تختلف بحسب وتيرة القصف واشتداده، لكنها لا تتعدى الـ50% في أحسن الحالات.
أجبر النظام طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية على السفر لتقديم الامتحانات في مناطق أخرى، لكن البعض لم يتمكن من السفر. قامت هيئة التربية والتعليم التابعة لـ’الائتلاف الوطني‘ بتنظيم امتحانات لطلاب الشهادتين وإصدار شهادات النجاح، لكن المعوّقات كبيرة في موضوع التسجيل في الجامعات، حيث حتى تركيا وليبيا اللتان اعترفتا بهذه الشهادات لم يتم حسم أمر التسجيل الجامعي فيهما حتى الآن، وتحول معوقات بيروقراطية وتقنية كثيرة دون ذلك.
الموظّفون في الرّقّة
الموظّفون يتقاضون رواتبهم من النظام من خلال السفر الى دير الزور، حيث يتعين عليهم الحصول على موافقة أمنية كل مرة يريدون قبض معاشاتهم، ومن الوارد طبعاً التعرض للاعتقال أثناء تسليم الراتب، إذ يكفي تقرير واحد لجعلك رقماً في سجلّ المفقودين في سجون الأسد وبشتّى التّهم. وبالفعل حدثت عدة حالات اعتقال لموظّفين أثناء توجّههم لقبض مستحقاّتهم. والنظام يتصيّد من هم مطلوبون لتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية أو المطلوبين للاحتياط. كما أن الطريق بحدّ ذاته مغامرة، إذ عليك تجاوز حواجز النظام وحواجز داعش وأيّ هفوة صغيرة قد توقعك في ورطة كبرى: على النساء أن يجلسن في الخلف، منقّبات لا يظهر من جسدهن شيء أثناء المرور على حواجز داعش، أما حواجز النظام فلا يجب أن تكون بطاقة الهوية مكسورة لدى صاحبها وإلا تعرض لاعتقال فوري (يظنّ عناصر النظام إلى اليوم أنها إشارة بين مسلّحي المعارضة بناءً على نصيحة من رجل الدين المعارض عدنان العرعور).
بعض الموظفين تم فصلهم بتُهم مختلفة، ولم يقم أحد بتعويضهم، وقد قدمت وعود كثيرة لهم لكن لا شيء منها تحقّق.
قطاع الصحة أيضاً يعاني
المشفى الوطني في الرقة، الذي يُعدّ عصب المدينة وشريانها الطبي الأساسي، يعمل بأدنى طاقته، لقلة الأدوية والمستلزمات. النظام يقدم بعض الأدوية عن طريق منظمة الهلال الأحمر بين الحين والآخر، وتم تقديم اللقاحات عن طريق تركيا ومنظمة اليونيسف، كما تقوم بعض المنظمات بالتبرع ببعض الأدوية والمستلزمات دون الوفاء بحاجة المدينة. بعد «تحرير» المدينة شكّلت ’حركة أحرار الشام‘ هيئة طبية كانت تؤمّن الأدوية والمستلزمات الطبية للمدينة بشكل مقبول عن طريق التواصل والتنسيق بين مختلف الجمعيات والمنظمات والهيئات. بعد خروج ’أحرار الشام‘ من المدينة تم حلّ الهيئة الطبية، وسادت الارتجالية والتخبّط في إدارة المشفى الوطني، ولا سيما في ظل نقص حادّ في الأدوية خاصة أدوية غسيل الكِلية ومرضى التلاسيميا والقلب. توفّي عدد من مرضى الكِلية في الشهر الماضي لعدم تمكّنهم من غسيل الكلى.
الطيران الحربي التابع لقوات سوريا الأسد قام يوم 20 حزيران 2013باستهداف المشفى الوطني، وقد نتجت عن ذلك إصابات بشرية طفيفة لكن الدمار أصاب غرفة العمليات الرئيسية وأخرجها من الخدمة. عناصر داعش يتجولون في المشفى بأقنعتهم وسلاحهم وأحزمتهم الناسفة، ومنذ شهر تقريباً قاموا بتصفية جريح من ’لواء التوحيد‘ داخل غرفة العمليات. أحد الممرّضين الذين كانوا متواجدين وقتها يروي: «دخل أربعة مسلحين من داعش غرفة العمليات حاملين بأيديهم مسدسات من نوع Glock (المعروفة به عناصر المكتب الأمني الداعشي) مزوّدة بكواتم صوت، طلبوا منا الاستدارة نحو الحائط وأفرغوا 6 رصاصات برأس الجريح ثم انصرفوا دون أن يقولوا أي شيء. إحدى المنظمات الداعمة قدمت 10 سيارات إسعاف لصالح قطاع الصحة التابع لمجلس محافظة الرقة، وهي مقدمة من قبل وحدة الدعم والتنسيق (ACU) للمجلس المحلي لمحافظة الرقة، 5 للمدينة و5 للريف. لكن داعش صادرت 7 منها بحجّة أنها كافرة وتابعة لـ«الإتلاف»! قيل إن السيارات السبع استُخدمت لتجهيز مشفى ميداني سرّي خاص بالتنظيم.
قطع الأعناق مع قطع الأرزاق
أيّ إغاثة يتم تقديمها لأهل المدينة تحصل داعش على 30% من قيمتها كضريبة مقابل السماح بدخول هذه الإغاثة. يتم إيقاف قوافل الإغاثة عند مدخل المدينة ومصادرتها، وعند تراجع الجمعيات مقرّات داعش يقوم التنظيم باقتطاع حصّته تلقائياً، وهذا ما تعرّضت له معظم الجمعيات والمنظّمات الإغاثية كـ’منظمة الهلال الأحمر‘ و’جمعية البرّ والخدمات الاجتماعية‘ بالإضافة لمعظم المنظمات الأهلية.
بعد إغلاق تركيا لبوابة تل أبيض إثر سيطرة داعش على المعبر، والذي يعتبر رئة المحافظة والمنطقة الشرقية عموماً، تشهد الأسواق في الرقة نقصاً حاداً في الموادّ التموينية والسلع الأخرى. السلطات التركية تقوم بين الفينة والأخرى ولساعات محددة جداً بفتح المعبر والسماح لبعض البضائع وشاحنات الإغاثة بالمرور.
دولة النظام ودولة التنظيم
التنظيم السلفي الجهادي الذي سيطر على المدينة بعد معركة شرسة ودموية مع فصائل ’الجيش الحر‘ و’جبهة النصرة‘ و’الجبهة الإسلاميّة‘، أعلن نفسه «دولة» على ما يحكمه، أصدر قراراته لفرض سلطة دولته الجديدة: إكراه النساء على النقاب، حظر التدخين والأركيلة، إغلاق الأسواق أثناء الصلاة، وسَوق الناس إلى الصلاة بالعنف، وتشميع محلّات الأفلام والأغاني، كما من قرارات «الدولة» الجديدة تعطيل الدوائر يومي الخميس والجمعة بدلاً من الجمعة والسبت. دولة التنظيم تريد أن تسيطر دون أن تستطيع، وتريد أن تحصل على الضرائب دون أن تقوم بإدارة أي شيء. قامت بفرض رسوم على الهاتف والمياه والكهرباء والأملاك المستثمرة، وبدأت بتحصيل الرسوم من الناس بقوة السلاح، حيث تعيّن على كل مشترك دفع 400 ليرة شهرياً بدل خدمة الهاتف، و400 أخرى للكهرباء، و200 ليرة للمياه، ويقوم مندوبون لداعش بأخذ الضرائب من المحالّ التجارية والبيوت، وفي حال عدم التسديد يتم قطع الخدمة عن المشترك ودفع غرامة إضافية.
لكن دولة النظام بدورها لم تقبل بتقويض سلطتها على المدينة التي طُردت منها، فهدّدت بحرمان الموظفين من رواتبهم مما أدى لتراجع التنظيم خطوتين. كما بدأت دولة النظام مؤخراً بمحاسبة موظفي القطاع العام على فواتير الهاتف من خلال خصمها من الرواتب لدى تسليمها، ولاحقاً عمّمت التجربة على باقي الخدمات.
حتى الزراعة…
قطاع الزراعة، وهو مصدر دخل المحافظة الأساسي، لم يكن بمنأى عن الصراع بين «الدولتين»، فقد أعلنت وزارة زراعة النظام استعدادها لشراء القمح بأسعار تشجيعية بشرط إيصاله إلى مناطق تسيطر عليها في محافظات أخرى، لكن لا يستطيع الرقّاوي بيع محصوله لدولة النظام وإلا اتُّهم بالعمالة وقُطع رأسه على الفور، ولا تستطيع و لا تنوي أصلاً دولة تنظيم البغدادي شراء أي محصول، فهي أصلاً تبيع المخزون الاستراتيجي من القمح الذي استولت عليه من مؤسسات القطاع العام (بحجة أنها تابعة لدولة الأسد) علماً أن المحافظة تشهد نقصاً حادّاً في توافر مادة الخبز!
والكهرباء؟
قطاع الكهرباء بدوره يشهد أيضاً تنازعاً بين «الدولتين». لم تلتزم الإدارة في الرقة بتقنين الكهرباء ساعات محددة على المدينة، لكن نظام الأسد هدّد بقصف جميع محطات التغذية الكهربائية في المدينة في حال توقف سدّ الفرات عن تغذية المحافظات الأخرى بالكهرباء، وقد قام فعلاً بقصف محطة التحويل الأساسية في منطقة الفروسية، والتي أصيبت بأضرار كبيرة تمكنت ورشات الصيانة التابع لمديرية الكهرباء بعد أربعة أيام من الانقطاع من تداركها. لكن كثير من المحوّلات بدأت تخرج عن الخدمة، وواحدة منها تدمّرت تماماً إثر قصف بصاروخ سكود على شارع 23 شباط (بتاريخ 27 تشرين الثاني 2013).
وفقاً لدراسة أجراها مختصون في مديرية الكهرباء بالرقة وقدّمت لمكتب الخدمات في المجلس المحلي للمدينة، تحتاج المحافظة إلى 640 ألف دولار لتجهيز محطة كهرباء 66/20kV وصيانة الأسلاك والمحولات لإعادة الكهرباء بشكل شبه طبيعي، حيث تشهد المدينة وريفها منذ فترة انقطاعات في الكهرباء قد تصل أحيانا إلى 14 ساعة يومياً.
لكن المواطن في الرقة اليوم عليه الخضوع لقوانين «دولتين» متناقضتين في السياسة متفقتين في انعدام الشرعية والإجرام، «دولة» نظام مجرم يقصفه ويقتل أبناءه ويدمّر البنى التحتية لبلاده ثم بكل وقاحة يطالبه بضرائبه المستحقة، و«دولة» أخرى هُلامية غامضة تقدم نفسها كظلّ الله على الأرض وتفرض عليه الضرائب أيضاً بوحشية لا تقلّ عن وحشية الدولة الأولى.
هذا التنازع على السلطة شكّل ما يشبه الانفصام الجمعي لدى أهل مدينة الرقة. أن تحكمهم دولتان معاً وبقوانين متناقضة وتحت وطأة ظلم وعدوان مستمرَّين، هذا يدفع إلى من حالة الجنون الجماعي ربما، وذلك في خضمّ بحث السوريين عن «دولة» لهم.
مجموعة الجمهورية