فادي سعد : قراءة اجتماعية للطائفة وللبيئة العلوية
1 ـ اقتراح لتعريف الطائفة: هل من الممكن أن نوجد تعريفاً للطائفة؟ تعريفاً اجتماعياً على الأقل؟
الطائفة في اللغة العربية هي المجموعة، فكل مجموعة يربطها رابط ما، هي طائفة، سواء كانت حزباً أو ناد رياضي أو مجموعة من ذات الجنس أو المهنة أو الهواية، لكن مصطلح “الطائفة” ارتبط تاريخياً بالمجموعة الدينية أو المذهبية، لهذا يحق لنا ان نسأل جملة من الأسئلة في هذا المجال:
أولاً: هل الطائفة ـ مرتبطة بفكرة دينية أو مذهب ـ يمكن أن تكون كياناً اجتماعياً أو أن تكوّن على أساس الخلفية الدينية، وجوداً اجتماعياً قائماً بذاته مستقلاً عن سواه؟
وثانياً: هل تتعيّن الطائفة بانتماء عقائدي فقط أم بسيرورة تاريخية اجتماعية تكسبها خصائص متمايزة عمّا يجاورها أو يشترك معها في المكان والزمان من طوائف أو مجموعات؟
وثالثاً: في حال أشكل تعريف حالة أو شيء بسبب الشك بوجوده المستقل، فهل يجوز التعريف في هذه الحالة؟ وهل يمكن أن نعرّف أو نحدّد ما ليس له وجود متجانس ومستقل بذاته؟
ورابعاً: هل يمكن أن يكون لطائفة ما في حالة اجتماعية متجانسة أو مختلطة ومركبة موقفاً سياسياً ثابتاً تجاه ما يمكن أن ينالها من تطورات اجتماعية سياسية عامة تجري في محيطها وجوارها؟ أوليس من الضرورة التمييز بين الطائفة والمذهب؟ أوليس بالضرورة التمييز بين الطائفة والطائفية أيضاً؟
ولو سألنا هل العلويون هم طائفة بالمعنى الديني وبالمعنى الاجتماعي؟ لكان الواجب يقضي ـ قبل تقديم الإجابة ـ أن نجري بحثاً حول العلويين في كلا الاتجاهين الديني والاجتماعي، لنعيّن بدقّة ونحدّد الفرق بين المعنيين.
لا نملك تعريفاً نهائياً في حال الحديث عن العلويين، طائفة أم ديناً، لكن أفضل ما نفعله، أن نقترح تعريفاً أولياً مجملاً للطائفة العلوية، على أنها مجموعات غير متجانسة اجتماعياً، يربطها رابط العقيدية الدينية العلوية، ويمكن ان نتلمّس لهذه المجموعات ما يمكن أن نسميه فضاءً ثقافياً، فالعلويون يتشاركون حالة ثقافية إذا صحّ التعريف، هي “العلوية” التي هي مجموعة عادات ومفاهيم ناتجة عن ظرف تاريخي وعن عقيدة وأفكار التصقت بمجموعة القيم المتكونة لديهم عبر مئات السنين، في مكان وزمان محددين بالنسبة لكل مجموعة علوية تعرّضت لتأثيرات مختلفة أو متباينة عن مجموعة علوية أخرى؟
ولتوضيح التعريف السابق نضرب مثلاً شبيهاً في اعتقادنا، هو رابط العروبة، فالعروبة لا تملك تعريفاً واحداً وليس لها هوية واحدة، بل هي فضاء ثقافي، يجمع من هو عربي بالعرق مع من كان من أعراق مختلفة، كلهم يتحدثون العربية المختلطة مع لغات قديمة محلية، إن هذا أفضل تعريف للعلويين إنهم فضاء ثقافي أو حالة اجتماعية مفتوحة من حيث تشارك بعض سماتها مع تجمعات أخرى وغير مغلقة.
هذا التعريف بمحتواه وتمييزه بين العقدي والاجتماعي وتاريخ التكوّن وتعدّده يكاد ينطبق على مجموعات أخرى مثل المسيحيين و المسلمين، ففي حين يمكن إيجاد تعريف واضح للمسلمين أو المسيحيين بإطار جامع ومن منطلق الثبات لكن لا يمكن ان نعرّف العلويين كمجموعة، إلا من منطلق حالة السلب، أي انهم مجموعة لا تجمعها سوى المظلومية التاريخية والخوف من الآخر، وهو تعريف بالطبع يختلف عن تعريفنا للمسلم أو للمسيحي أو العلوي كأفراد، فالتعريف الأول يقع على المجموعة أو المجموعات التي يصح عليها هذا التعريف أي هو تعريف اجتماعي أو أقوامي، بينما التعريف الثاني هو تعريف على الفرد ويقع على الفرد المؤمن أي هو تعريف ديني. والفرق بين المجموع والفرد كالفرق بين الحياة وبين العقيدة، أو بين المادي والمعنوي، أو المتعّين والمثال، أو المجسّد والفكرة. فكما أنه لا توجد هوية إسلامية واحدة أو قومية إسلامية واحدة أو مجتمع إسلامي واحد، فكذلك الحال بالنسبة للعلويين، فلا هوية واحدة ولا مجتمع واحد متجانس، على الرغم من وجود الصلب العقيدي الواحد؟
المشترك التصوري عن الذات:
لكن من الظلم أن نقول إنه لا يوجد شيء أو أشياء تجمع العلويين بشكل لا يشترك به الآخرون معهم، والحقيقة أن العلويين مجموعة لها تصور نفسي مشترك عن الذات أو مخيلة مشتركة، لكن ليس تصوّر واحد أو مشترك واحد عن الذات، “نحن علويون” وهذا التصوّر لم يكن متجانساً من حيث الشدّة أو الدرجة وتخالطه تصورات أدنى محورها المذهب العلوي ـ كلازي أو حيدري ـ أو العشيرة خييطي أو حدادي، وربما القومية أو اللسان ـ علوي سوري أو علوي تركي أو كردي ـ أما من حيث الالتزام بهذا التصور من حيث أن العلوية هي دين مثل الدرزية مثلاً فأمر مشكوك فيه كثيراً وهو خاص بأفراد لهم هذه الدرجة من القناعة، لأن هناك تصورات خاصة ومتعددة عن “النحن” العلوية وإحداها أنها فرقة شيعية، وهو تصور حديث ومتأخّر حصل بسبب التأثير الإيراني، وقد يرتبط عند مجموعة أخرى بتصوّر آخر كطائفة أو حالة اجتماعية منفتحة لها أصول عقائدية مختلطة ما قبل إسلامية أو إسلامية متمرّدة. (1)
إن الحالة العلوية الاجتماعية جسم قيد التشكّل، كما أنه “لا جسم” بل “هيولى” غير قابلة للتشكّل بحالة واحدة، إنه مجمع العقائد والنزعات، مثلما هو مجمع أعراق وقوميات وثقافات، هذا لا ينطبق فقط على العلويين كاسم يجمع تحته قوميات عدّة تركية وكردية وعربية وسوى ذلك، بل يصح وصف العلويين بالمجمع في سورية هويته الأساسية المظلومية التاريخية أولاً والتمرّد ثانياً، والرغبة بتجاوز أو اجتناب المحيط المتخلّف الإسلامي الذي اضطهدهم عموماً، لذلك سنجد المثقفين والمتعلمين من أبناء هذا المجموعة من أشد الناس رغبة وعملاً للتواصل مع الحداثة.
ولكننا هنا نتحدث عن العلويين كحالة سياسية اجتماعية وليس عن العلوية كعقيدة دينية، وهناك فرق كبير بين الحالة الاجتماعية السياسية وبين العقيدة الدينية، فالعلوية شيء والعلوي شيء والمنحدر من منبت علوي شيء ثالث، والمثقف العلوي شيء رابع، وهكذا …
الأكيد ان لا ماهية اجتماعية واحدة للعلويين فليس في العلوية تشريع سلوكي حياتي، وهي إن احتوت على بعض التشريع فهو غير ملزم، فهي أقرب ما تكون إلى الفكرة والتراتيل والمحببات والمكروهات غير الملزمة، وحينما حاول بعض العلويين الاقتراب من الحالة الشيعية تحولوا إلى شيعة وتحوّل البعض إلى علويين يصلّون الأوقات الخمس في محاولة لإدخال بعض الاصلاحات على السلوك اليومي من حيث إبطال بعض المعتقدات والمقولات الشعبية الدارجة، وافتتاح بعض المساجد، حيث دعمت إيران والسعودية وعدد من تجار حلب بناء مساجد في معظم البلدات العلوية المتوسطة والكبيرة في الساحل خصوصاً.
اما الحالة الاجتماعية والخيارات الاجتماعية، فمتعددة بحسب المجتمع والبيئة: علويو حمص غير علويي اللاذقية وعلويو جبلة مختلفين عن علوية السلمية.
المشترك التصوري عن الآخر:
ربما المشترك التصوري الوحيد بين العلويين هو فكرة المظلومية والاضطهاد التاريخي والخوف من الآخر، إضافة لشعور التحرر، بمعنى أن كل الأشياء والأفكار والمسالك مباحة باستثناء الشراكة بالنساء والاموال، والمشترك الاجتماعي: البساطة والعفوية، وهو أمر وشعور يختلف بين علويي القرى وعلويي المدن، بل بين علويي الجبال وعلويو المناطق السهلية الزراعية، كما أنه يختلف بين علويي السلطة والوظائف وبين علويي المعارضة وعموم المثقفين غير المرتبطين بوظائف في الدولة، هنا نزعم أن القناعات والتصورات المختلفة عن الهوية أو “الرابطة العلوية” داخل الفضاء الاجتماعي العلوي مرتبطة بالموقع والتموضع الذي يخص كل فئة أو مجموعة اجتماعية من أبناء الانتماء العلوي.
لكن من الظلم أيضاً أن نترك المسألة على هذا النحو من التبعثر والضبابية، فلو قمنا بجهد بسيط لرأينا أن العلويين يمكن أن يقسموا أفقياً إلى مجموعتين: المجموعة الأولى وهي الأكثر عدداً في كل التجمعات والبيئات العلوية، هم العلويون بالولادة، ويتكون هؤلاء من الذكور الذين ولدوا من أبوين علويين أو من أب علوي وأم غير علوية، ولم يتلقنوا الطريقة الدينية الباطنية، وتضم هذه المجموعة كثير من المثقفين وطلاب الجامعات في المدن، كما تضم هذه المجموعة كل النساء العلويات، لأن النساء وفق العقيدة العلوية لا يجوز أن يتعلمن الدين، فهو أمر محرّم قطعياً عليهن،(2) الثانية: وهم المجموعة التي تلقنت الطريقة، وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم ملتزم بشكل كامل وأغلبهم من الفقراء في الجبال والمناطق المهمشة وممن لهم مصالح، وقسم غير ملتزم وهؤلاء من أبناء البرجوازية والأغنياء والمثقفين والمتعلمين خريجي الجامعات. من اللافت هنا، أن نذكر موقف المثقفين العلويين من محاولة تحديد انتماءهم أو هويتهم أو تسميتهم باسم “علوي” أو “علويين”، فهؤلاء لاسيما البارزين منهم ومن كان له تجربة في الأحزاب المعارضة للنظام، يرفضون رفضاً قاطعاً ـ يصل حد التبرؤ ـ وصفهم أو تسميتهم “علويين”، لأنه باعتقادهم لا فرق بين هذه الصفة وبين الطائفية.
باختصار العلويون هم اولئك الذين يجمعهم الشعور بالمظلومية التاريخية والخوف من الآخر السني، حتى لو لم يكونوا يؤمنون بعقيدة أو مذهب ديني علوي، أو لم يشتركوا بمجموعة تقاليد اجتماعية، وبهذا فهم لا يكوّنون طائفة بالمعنى الديني لأن الشروط الواجبة للطائفة الدينية غير متوافرة.
(1) بعض الباحثين يميلون للقول عند الحديث عن العقيدة العلوية أنها مركّبة من أصول عقائدية، دينية وفلسفية شتّى، تبدأ من الشيعية الاثني عشرية مروراً بعقيدة التناسخ البوذية وفكرة الفيض الافلوطيني، وليس الافلاطوني، مروراً بأفكار التصوف الاسلامي وتنتهي عند المسيحية واليهودية…
(2) وهو خلاف ما نجده في عقائد باطنية أخرى كالدرزية والاسماعيلية، كما هو خلاف الديانتين الاسلامية والمسيحية حيث يمكن للسيدات ان يتعلمن اسرار الديانة إسوة بالرجال، المجموعة بالتالي يصبح السؤال مشروعاً ما الفرق بين أي امرأة علوية وبين أي شخص من خارج الطائفة، عن كان لا يمكن للمرأة أن تكون علوية بالدين فهل هي علوية بحكم البيئة والرابطة الاسرية الاجتماعية والفضاء التربوي والثقافي للمجموعة التي تعيش بها؟ ولو فرضنا ان امرأة علوية لم تعيش معظم حياتها في بيئة علوية ولم تتأثّر بقيم واخلاق هذه البيئة فهل يمكن اعتبارها علوية اجتماعياً فقط لكون والدها علوي ؟ والسؤال مشروع تجاه رجل من والد علوي لكن لم يتلقّن الديانة، أو لم يتأثّر بتربية وأخلاق البيئة العلوية، هل يعتبر علوياً في الحالتين ؟ الجواب باعتقادنا له مستويين سيكون علوي في حال اعتبر ذاته كذلك، على الرغم أن علويته ستكون ناقصة بالنسبة لمن هم علويين بالدين، وربما لمن هم علويين بالبيئة والمحيط.
كلنا سوريون