زملاء
سمر يزبك : حوار بيني وبين الخالة من الحولة
الخالة التي تجاوزت الستين من عمرها، ممتلئة قليلاً لكنها تغطي وجهها بوشاح أسود، تحدثني بصوت مبحوح لكنه واثق، تخبرني كيف رمت نفسها ف كومة قش، واختبأت، ونجت من المجزرة، عندما اقتحم الشبيحة ا”لحولة” وكيف أغمضت عينيها لأنها ظنت انها سترى مع أصوات الصراخ واصوات السواطير، كيف يُقتل الناس، لكنها اكتشفت أنها تستطيع فتح عينيها، وأنها لن تلمح سوى ألوان غائمة، لكنها تقول: ” انا سمعت صوت اللحم كيف بينفرم!سمعت صوت السكين بالجلد” الخالة التي لاتنتظرني لأسأل السؤال: وكيف أولادك؟ تقول بلهجة واضحة رغم أن صورتها عبر السكايب تغيب، وتتحول إلى سائل داخل الشاشة، نعم سائل يتماهى بين الأسود والأصفر، وأنا أمد أصابعي وهي تتحدث لأصدق أن ما أسمعه حقيقة: ” ولادي اتنين شباب ماتوا، قتلوهن الشبيحة بعد المظاهرة، ما كانو مسلحين ولا شي، بين الساعة اربعة وخمسة، دبحوهن” تتوقف عن الكلام، عندك ولاد؟ ” “عندي بنت” “الله يخليها يابنتي، الله يحفظها، ويفرحك فيها، أنا ولادي اتنين شباب، اتنين شباب متل الوردة دبحوهن!! وطيب بنتك متجوزة؟ ” أصمت قليلا، وأمد أصابعي ثانية الى شاشة الكمبيوتر،
” الله يصبرك يا خالة” تتحرك قليلا، ألمح كتلتها تتحرك. الصورة غير واضحة لكن الصوت واضح: “ودخلو ا علينا يابنتي وقتلونا تقتيل، ديحونا، جارتي الحامل بالشهر الثامن، دبحوها من بطنها، حدا بيدبح مرة حامل من بطنها؟ مات ابنها قبلها، وماتت المرة، بس ما خبرتيني انشالله فرحتي ببنتك؟ ” “لسه يا خالة” أجيبها بصوت مخنوق، فتقول بصوت حزين: ” الله يفرحك فيها يا حبيبتي، والله نحنا وأنتو أخوة، كنت اسهر مع جيراننا من ضيعة القبو، أنا وعيلتي، للساعة 12 بالليل، ونبقى عندهون، ويرجعونا بالسيارة، بالليل، وكنا نأمن عليهون ويأمنوا علينا، الله يلعنك يا بشار الأسد شو عملت فينا! ” تصمت الخالة قليلا، ربما تتحدث؟ تعود الصورة واضحة، أرى أنها تتحرك، استطيع الاحساس بصوتها رغم الصمت تميل برأسها، لكني لا أفهم ما تقول، فأشير إليها بيدي بأني لا أفهم، ينقطع الاتصال، ثم يعود فجأة صوتها بقوة ” والله يا بنتي بعد ما دبحونا وقتلونا، حاصرونا، بعد ما خلو بعيوننا الضو، منعوا عنا كل شي، يعني بعد كمان كم يوم ومنموت من الجوع، ممنوع يدخل لعنا شي، محاصرين من كل الجهات، والعالم كلو ناسينا، وبيعرفوا انو اندبحنا، ببس ما بيعرفوا انو عم يجوعونا؟ بس ما خبرتيني، بنتك صبية؟ الله يخليها ويفرحك فيها ولا يحرق قلبك عليها يارب، آآآآمين يا رب… دبحولي ولادي اتنين، اتنين شباب! اتنين شباب متل الورد! وكمان يا ريت بس هيك، شوفي شو عملوا بالنسوان ما بيكفي بهدلهون، كمان رموهن عرايا ودبحوهن، والله يا بنتي نحنا وانتو داائما حبايب” تتوقف الخالة عن الحديث، تشير لشخص بقربها أن يحرك السماعة التي تضعها، ثم تثبت الغطاء الأسود الذي يحجبها بالكامل عني” والله صحيح يا خالتي الله يصبر قلبك والله ليتحاسبوا واحد ورا التاني” أقول. “الله يحفظك يا بنتي ويفرح قلبك ببنتك، أنا ولادي اتنين..اتنين شباب متل الفل، دبحوهن..ما كان معهون سلاح، طلعوا مظاهرة بس، بين الساعة خمسة واربعة، الله يخلي ولاد الناس ، دبحوا ولادي وجيراني، وبنتك انشالله منيحة؟ ” ينقطع الارسال فجأة، تصير الصورة سوداء،” يا خالة يا خالة” أناديها، لا صوت. الشاشة سوداء، يا خالة يا حبيبتي، ردي علي: الشاشة سوداء، انتظر وانتظر، أترك الشاشة، اسمع صوتي يقول: والله انا اتنين من ولادي دبحوهن متل الفل شباب…انظر في الشاشة السوداء، اسمع صدى صوتها: الله يخليلك بنتك ويفرحك فيها.
أصمت.
بعد دقائق، كان أول خبر اسمعه: قصف مكثف بالهاون على “الحولة” تحديداً على احدى قراها التي كلمتني منها الخالة.
كان هذا منذ ثلاثة أيام، حيث اختفى صوت الخالة نهائياً. نهائياً وإلى الأبد.
حزيران (يونيو) 2012