زملاء

عبدالله أمين الحلاق : حوار شامل مع الباحث والمناضل السوري الكبير ياسين الحاج صالح

 

  •  لم يعد هناك حلٌّ داخلي في سوريا ونحن في هاوية الحرب الطائفية وليس على شفيرها الطوائف غبيّة وغير أخلاقية والإسلام محتاج إلى انعطاف تاريخي كبير وإلا تحوّل إلى دين فاشل
 وُلدت فكرة هذا الحوار الطويل مع ياسين الحاج صالح بعد حوار قصير أجريته معه قبل أشهر، وأيام قليلة من اختطاف أعضاء مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، ونُشر الحوار يومذاك على موقع مركز “سكايز- عيون سمير قصير” حيث يعمل كاتب هذه السطور. يومها، لم يكن هنالك متّسع من الكلام للإفاضة في أي أسئلة خارج موضوع اعتقال/ اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل وناظم الحمادي على أيدي ظلاميين قالوا إنهم يريدون إسقاط النظام من دون ان يقولوا إنهم يريدون الحرية. اليوم، ومع هذا الحوار الذي استغرق مني ومن ياسين نحو شهرين، ومن دون أن يطرأ أيّ تغيّر على قضية حرية سميرة الخليل ورفاقها، وحرية الشعب السوري عموماً من عدوه التاريخي، النظام، وأعدائه المستحدثين، الجماعات التكفيرية، ذهبتُ وياسين خارج ما هو يومي ولَحظيّ في السياسة والثقافة إلى ما هو أبعد من ذلك، فكان حواراً في الثقافة والسياسة والإسلام والمجتمع، وسط الانسداد السوري الرهيب الذي استعصى على حل لا يريده من بيدهم هذا الحل. هذا الحوار هو احتفاء بالثقافة وبالمثقف الضمير، وهو تحية إلى رزان زيتونة وسميرة الخليل وفائق المير ووائل وناظم الحمادي والأب باولو وكل معتقلي الموقف والرأي في سوريا اليوم.

■ دعني أبدأ معكَ من خروجكَ من سوريا إلى تركيا. أنتَ كنتَ معارضاً بشدة لخروجكَ، وعملتَ في ظروف أمنية صعبة، وتنقلتَ بين أماكن سورية عديدة، من دمشق المدينة إلى غوطتها ثم إلى الرقة، وبعدها إلى خارج البلاد. ما الذي جعلكَ تتخذ القرار. هل هي ضغوط الإسلاميين بحكم وجودكَ في الرقة خلال الفترة الأخيرة من إقامتكَ في البلاد؟
– لم يكن قراراً. حين أسترجع المسار الذي آل بي إلى الخروج من البلد، يبدو لي عملية دفع إلى الخارج لم أستطع التحكم بها مذ تركتُ دمشق في 3 نيسان 2013. كدت أختنق في العاصمة بعد عامين من التواري، ولم يعد بقائي فيها مفيداً لأيّ غرض عام. ذهبتُ إلى الغوطة بغرض أن أكمل طريقي إلى الشمال. لم تكن الرقة خرجت من سيطرة النظام وقت بدأت التخطيط، وكنت أفكر في الذهاب إلى مناطق حلب وإدلب. هناك، فكرتُ، يمكن أن أكتسب خبرات جديدة وأتعلم، وربما أساعد في شيء ما. لكن صارت الرقة مقصدي الطبيعي بعد خروجها من قبضة النظام في 3 آذار 2013. وحين وصلت الرقة بعد نحو خمسة أشهر على زوال سيطرة النظام عنها اضطررتُ فوراً إلى التواري لأن اثنين من إخوتي كانا مختطفين عند “داعش” (فراس لا يزال)، وكانت الفائدة العامة من بقائي فيها محدودة، لا تعدل شيئاً من احتمالات الأخطار الشخصية، على ما أثبت اختطاف صديقي اسماعيل الحامض بعد 3 أسابيع من مغادرتي الرقة والبلد. في المحصلة، وجدتُ نفسي مدفوعاً نحو الخارج منذ تركت دمشق.
اليوم أفكر أنه كان يجب أن أبقى في الغوطة، ليس بغرض البقاء في البلد فقط، وإنما من أجل أن أكون مع سميرة. نبقى معاً أو نغادر معاً، وما يجري لواحد منا يجري لكلينا. سارت الأمور بعد خروجي من الغوطة في اتجاه أن يكون ذلك القرار خطأ مصيرياً، أقرّ بالمسؤولية عنه.

في الإسلام والإسلاميين!

■ منذ سفركَ إلى تركيا لاحظ كثيرون، وأنا منهم، أنكَ صرتَ تتوجه في كتاباتكَ ضد الإسلاميين بشكل أكثر من ذي قبل أثناء الثورة. صارت كتاباتك أشبه بتنظيراتك في “أساطير الآخرين” قبل الثورة. ما رأيك بهذا الكلام وما السبب في هذا التحول؟
– نعم، لا شك أن الشحنة الانفعالية في كلامي عن الإسلاميين أقوى اليوم من السابق. في “أساطير الآخِرين” ومواد أخرى كنت أنتقد الإسلاميين والفكر الإسلامي بنبرة هادئة وغير شخصية. بعد اختطاف فراس، ثم سميرة ورزان ووائل وناظم، وقبلهم الأب باولو دالوليو واسماعيل الحامض، طفح كيلي الشخصي والعام. فوق ما تسبب به هؤلاء الإسلاميون من تحطيم لقضيتنا، يكمل تحطيم النظام للبلد والمجتمع، تسببوا لي شخصياً بأشد الأذى.
ربما يقال: ليس كل الإسلاميين. صحيح. وأرى أن نحرص على التمييز بين تياراتهم ولا نُجملهم تحت عنوان واحد، لكن أقرّ أني شخصياً على نفور مشتد من الجميع. لم ألمس تضامناً من معتدلي الإسلاميين المفترضين، أو أدنى حد من الاهتمام بقضية خطف زوجتي وأصدقائي، وقبلهم أخي وأصدقاء آخرين.
يبدو لي على كل حال أننا نرى تحولاً واسعاً في موقع الإسلاميين ودورهم في الحياة السياسية السورية يقطع مع موقعهم ودورهم طوال جيل كقوة تغيير من حيث المبدأ، وهذا بالتوازي مع إعاة هيكلة للمجمل الإسلامي لمصلحة السلفيين ضد “الإخوان”، والعسكريين (أو “الجهاديين”) بين السلفيين ضد الدعويين منهم. الأمر ببساطة أن الإسلاميين انتقلوا من موقع كنا شركاء فيه، موقع المقموعين المضطهدين، إلى موقع المعتدين المتسلطين. الموقف يتغير بداهة مع تغير الموقع.
لن يتأخر الأمر في تقديري عن ظهور تيارات سياسية وفكرية تحررية، تجمع بين النقد الجذري لكل الديني والسياسي. في الجيل السابق للثورة كان لدينا نقد غير تحرري للديني والجماعات الدينية، تجد أصحابه في صفّ نظم الطغيان أو ساكت عنها، وكذلك نقد للسياسي ونظم الحكم بلا عمق فكري وأخلاقي، ما يقرّبه من إسلاميين غير تحرريين، وما يفقر السياسة ذاتها من عمق ثقافي. حاولتُ الانفلات من هذا الشرط في شغلي في السنوات السابقة للثورة، وأعتقد أن الجيل الذي تمثل الثورة تجربته المكوّنة سيطوّر نقداً فكرياً وسياسياً أكثر شمولاً وجذريةً من جيلنا.

■ تقول في “أساطير الآخرين”: “هناك واحد من نموذجين اثنين لضبط العلاقة بين الشرعيتين الإسلامية والحداثية في مجتمعاتنا: نموذج حكم إسلامي أو علماني في دولة واحدة علمانية أو إسلامية – كونفيديرالية دينية، أو نموذج استقلال الدين الذاتي في المجتمع المدني مع كون الدولة علمانية. أما الإكراه فلا يحل أي مشكلة، فقط يحل مجتمعاتنا ويَنذرها للحروب الطائفية”.
– يبدو أن مجتمعاتنا قد انحلت وانتهى الامر، في سوريا والعراق وغيرها. ماذا بقي من الكونفيديرالية الدينية في ظل قوى راديكالية لا تعترف إلا بالقسر وتوحيد المجتمعات قسرياً كما كان يفعل البعث في هذه المجتمعات رافعاً راية “العلمانية”؟
ما قلته في الكتاب جاء أصلاً في إطار التفكير في وضع محتمل مشابه لوضعنا اليوم. يريد إسلاميون أن يفرضوا بالقوة حكمهم الإسلامي على الجميع، وهذا ما لا يقبله كل غير المسلمين، وكل غير السنّيين، وغير قليل ممّن هم مسلمون سنيون سوسيولوجيا. في المقابل يشعر مسلمون سنّيون مؤمنون بالاستلاب إن لم يعيشوا في ظل ما يعتبرونه شرع الله الملزم. ما العمل إذاً؟ إن أردنا تجنب حرب لا نهاية لها، نخترع نظاماً ثناني القانونية، تتعايش فيه سلمياً جماعة “شرع الله” وجماعات شرائع الإنسان باختيارهم. ونرى ماذا يقول الزمن في شأن هذا التعايش.
كان هذا تمريناً فكرياً الغرض منه توضيح المشكلة وليس بالضرورة معالجتها وحلّها. تصوري أن معالجة مستدامة تقتضي إعادة ترتيب علاقات السيادة بين الدين والدولة، بحيث تستأثر الدولة بالعنف الشرعي والولاية العامة، فيما يستقل الدين بأمر نفسه في “المجتمع المدني”. هذا ما يتوافق مع نظام الدولة العالمي المعاصر (وهو “خير عام”، لا يمثل نموذج الإسلاميين، سواء أكان “تطبيق الشريعة” أم “الحاكمية الإلهية”، ثورة عليه من أجل خير أكبر، بل نكوصا غير تحرري عنه)، وما يوفر حرية أكبر لعموم السكان. وليس في هذا الترتيب المقترح ما يحول دون أي إسلاميين والعمل السياسي.
عدا ما يقتضيه ذلك من إصلاح في الدولة في اتجاه أن تصير دولة عامة مؤهلة لاحتكار العنف، وإصلاح الدين بحيث يطوّر أبعاداً روحية وأخلاقية ورمزية تنال من شهوة الإسلاميين للسلطة، يتطلب الأمر في سوريا الفصل بين الإسلاميين والإسلام من جهة، وبين الإقلية التي هي الإسلاميون والأكثرية السنّية المتنوعة والممتنعة على التطييف من جهة ثانية. حق الإسلاميين في الوجود السياسي لا ينبغي أن يكون شرعياً أكثر من حق غيرهم، ولا أقل. وهو مشروط في كل حال باعتبارهم تنظيماً سياسياً مثل غيره، وليس أكثرية اجتماعية جاهزة من جهة، ولا محتكري الإسلام و”ممثليه الشرعيين الوحيدين” من جهة ثانية.
نحن على كل حال، أمام أوضاع بِكْر وغير مسبوقة، تتحدانا لتطوير أدوات نظرية ومقاربات عملية ناجعة لها. يجب ألاّ تكسر عيوننا عن التفكير في هذه الشؤون تصورات أنتجت في الغرب أو غيره، نفرضها قسراً على أوضاع مغايرة. القسر في اتجاه يفتح باب القسر في كل اتجاه. والقسر باسم الحداثة أو العلمانية يفتح باب القسر باسم الشريعة، والعكس صحيح.

■ ما هو موقع الإسلام كــ”دين” من الإسلاميين السوريين “وغير السوريين” على تنويعاتهم ومذاهبهم؟ وهل ترى أي احتمالات للتنوير والإصلاح الديني في سوريا والانتقال لكي يكون “الله متحرراً من الإسلام” كما قلت في كتاباتك؟ وما دور الإسلاميين، إن كان لهم دور، في ذلك؟
– يستند الإسلاميون إلى الإسلام الدين، وليس هناك سبب وجيه لافتراض أنهم غير مخلصين في ذلك، لكنهم يعيدون هيكلة المجمل الإسلامي في اتجاهات تتضمن أساساً تطلعهم إلى السلطة. مشروعات الإسلاميين منشغلة جداً بكيف يحكمون ويسيطرون على غيرهم، وليس بكيف تتحقق الحرية، أو كيف ننتج الثروة، أو كيف نسير نحو أوضاع اجتماعية وقانونية عادلة، أو كيف يتحقق احترام أكثر بين الناس المختلفين.
الإسلام ذاته كدين يتشكل أو تعاد هيكلته بحسب نوعية المطالب الموجهة له من مسلمين عيانيين يعيشون أوضاعاً عيانية معاصرة من جهة، وبحسب التطلعات السلطوية لنخب إسلامية، تستخدم الاسم الإسلامي في صراعها من أجل السلطة والنفوذ من جهة ثانية.
أعتقد أن الإسلام يفقد كثيراً من شكله تحت تأثير هذه الضغوط والطلبات المتناقضة، مثل إناء “ينطعج” من كل جانب بفعل الصدمات، فلا تعود تعرف ما هو. القول إن الإسلام دين ودولة وقانون وجيش وسيف وأخلاق وحزب وثقافة وهوية…، والحل الصالح لكل المشكلات الممكنة في كل زمان ومكان، لا يدل إلا على فقدان الإسلام أيّ شكل يساعد على تصوره وتعقّله. وما لا شكل له هو إما الله، وإما كائن مستحيل كالغول. وبما ان الإسلام لا يمكن أن يكون الله، لا يبقى ألا أن يكون اليوم غولاً. أليست “داعش” هي المستحيل، وقد تَحقق فعلاً؟ غول؟
إصلاح شكل الإسلام يعني أنسنته، تشكله وفق منطق إنساني. كي يمكن النجاح في ذلك، يلزم أن تخف الضغوط عليه وأن نستطيع توجيه طلباتنا إلى اقتصاد منتج يتطور، وإلى جيش يحمي البلد، وإلى مؤسسة أمنية توفر الأمن فعلاً للناس، وإلى سلطة عمومية توفر تمثيل المحكومين وتوفر خدمات معقولة، وإلى ثقافة غنية تشبع حاجاتهم المعنوية، وإلى تربية للإنسان ترتقي بضميره وذوقه. وإذ يخفف هذا الضغوط عن الإسلام، ربما تيسر له أن يحوز شكلاً أنسب: شكل الدين الذي يساهم في تلبية حاجات المؤمنين الروحية.
الإسلام محتاج إلى انعطاف تاريخي كبير، وإلا تحوّل إلى دين فاشل، يعوّض عن عجزه عن تلبية الحاجات الروحية للمؤمنين بالتوسع في العنف والعدوان. قد نكون اليوم في غمار العملية التاريخية التي ربما تسمّى يوماً “الإصلاح الإسلامي”. يحتمل لعمليات إعادة التشكل أو الهيكلة المستمرة الجارية أن تستقر يوماً على أشكال للدين أكثر توافقاً مع حاجات المسلمين إلى العيش في العصر والرسوخ في العالم، من دون أن تكون أقل إسلامية.
تقديري أن هناك حاجة إلى إعادة هيكلة داخلية، تؤول المتون الإسلامية في اتجاهات توفق بين حاجات المسلمين المعاصرين وروح المعتقد الإسلامي (التوحيد والعدل والرحمة والأخوة وعمران الأرض)، وإعادة هيكلة خارجية تعيد ترتيب العلاقة بين الدين والدولة بما يفصل الدين عن السيادة (العنف والولاية العامة).
يبدو لي مهماً أيضاً الخروج من الوضعية الفقهية التي تواجه المستجدات بفتاوى جديدة إلى علم كلام جديد يعيد بناء العقيدة وتنظيمها، ويفكر من جديد في العلاقة بين الله والإنسان والشيطان.
لا أرتاح لمفهوم التنوير، ويبدو لي في سياقاتنا مفهوماً تسلطياً ونرجسياً، يحيل في مضمونه على فعل ثقافي منفصل عن الصراع الاجتماعي والسياسي، يقوم به مثقفون متنورون في عين أنفسهم، يغلب أن يُقرِّعوا عموم الناس وكل من لا يشبههم على أنهم لا يشبهونهم. وفي كل لحظة حاسمة يجد التنويري النمطي نفسه أقرب إلى ما أسمّيه “العالم الأول الداخلي”، من جابر عصفور إلى أدونيس.
أتصور الكفاح ضد الهيمنة الدينية فعل صراع اجتماعي سياسي وفكري، لا يختلف في شيء عن الصراع ضد هيمنة طغم “علمانية”، إلا ربما بحضور أقوى للبعد الفكري فيه. لكن أليس ضعف البعد الفكري في صراعنا ضد الطغم الأخيرة هو أحد مصادر تعثره؟ أليس لهذا الضعف الفكري ضلع في صيرورة “الإسلام” فكراً للكفاح ضد هذه النظم الطغموية؟ فكر غير ملائم قطعاً.
في كل حال، لا غنى عن الانخراط الشخصي في الصراع. أما التـّـلي- تنوير، التنوير عن بعد، فهو ضرب من الوحي يأتي به أنبياء من غيب لا نعيشه. لا يغيّر من الأمر شيئاً أن يكون اسم هذا الوحي هو الوعي، واسم الغيب هو “الغرب”. هؤلاء الأنبياء الجدد ليسوا أهلاً للثقة.

سرديّات غربية “استشراقية”؟

■ هناك خطاب سائد يقول بتحميل المعارضة السياسية والإعلاميين السوريين الداعمين للثورة، المسؤولية عن عدم اختراق خطاب الثورة السورية للرأي العام الغربي، إلى جانب عدم اقتناع معظم “الغرب” بأن ما يحدث في سوريا هو ثورة ضد طاغية. يردّ البعض ذلك إلى تغوّل نموذج “البديل الإسلامي”. ما رأيك بهذا الخطاب وخصوصاً في ظل تموضع جزء كبير من الرأي العام الغربي حول سرديات وأفكار كتابات روبرت فيسك وسايمور هيرش وآخرين؟
– عتبة تعاطف الغربي المتوسط معنا مرتفعة لأسباب يلتقي فيها افتقارنا إلى ما يولد التعاطف من عدالة واحترام لأنفسنا وغيرنا، أو من تواضع واجتهاد في نيل تعاطف الغير، مع نظام من المصالح الاقتصادية ومن السيطرة الغربية غير عادلين. عموماً أرى وجوب نقل النقاش عن علاقتنا بالغرب من مجال “الاستشراق” والإسلام و”الحضارة” إلى مجال السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية. هذا يساعد على عقلنة العلاقة وعلى إصلاحها. أما الحب والقرب… فهذا يأتي أو لا يأتي. ولا ينبغي في رأيي أن ننشغل به كثيراً.
في تكوين الغرب عناصر كونية وعامة وعناصر خاصة وطائفية. يبدو لي أن العناصر الطائفية قوية اليوم، ومنذ نهاية الحرب الباردة، ولنا بعض ضلع في ظهورها عبر الأصولية الإسلامية، التي كان للغرب ذاته دور في تغذيتها في سياق صراعه مع المعسكر الشيوعي. هناك ميل قوي عند الغرب الخاص لرؤية مجتمعاتنا بمنطق طائفي، وتصوير صراعاتنا بأنه لا يحركها غير الدين والانتماءات إلى طوائف لا تكفّ عن التقاتل لمجرد اختلافها.
أو قد ترى أوضاعنا من جهة اعتبارات جيوسياسية طويلة الأمد: إسرائيل والبترول، وإيران والسعودية وتركيا…، “الشرق الأوسط”.
في كل حال، تفتقر المقاربة الغربية السائدة لشؤوننا، إلى البعد التاريخي من جهة، وإلى المعرفة بشؤوننا الاجتماعية والسياسية والفكرية من جهة ثانية، وإلى رفض الاستماع لأصواتنا الراهنة من جهة ثالثة. يبدو ممثلنا النموذجي هو الحاكم الطاغية وأتباعه (بشار وبثينة شعبان…)، أو هو الإسلامي المتشدد بلحيته الطويلة (أبو بكر البغدادي وما شابه)، أو هو “المخبر الأهلي” الذي يقول ليمينيي الغرب ما يحبّون أن يسمعوه عنا (وفاء سلطان وآزر نفيسي وما شابه). أمثالنا غير موجودين بكل بساطة.
أرى أيضا أنه يجب الفصل بين اختراق الرأي العام الغربي، وبين أداء المعارضة الركيك. يبدو لي أن الربط بينهما، وما يقال عن عجز المعارضة عن تحقيق الاختراق العتيد، ينطوي في أكثر الأمثلة التي أعرفها على موقف معادٍ لقضية المعارضة وغير معادٍ لقضية النظام. أو لنقل إنه يصدر من جهة معارضي المعارضة، ذلك الصنف من المشتغلين بالشؤون العامة في سوريا الذين لا يستطيعون القول إنهم إلى جانب النظام، فتجدهم دوماً، وعبر السنوات والعقود، ثابتين على معارضتهم لمعارضيه الأكثر جذرية. لا يتوجه هذا النقد نحو تدارك عيوبنا ونواقصنا، بل نحو النيل من قضيتنا ذاتها.

■ هناك مِن “المثقفين السوريين” مَن فضّل المساواة بين النظام والثورة، أو بين النظام و”الأزمة” كما يسمّونها، في استنساخ داخلي لظاهرة الموقف الغربي العمومي مما يحصل في سوريا. أنتَ اعتبرت مرةً أن في داخل كل من هؤلاء “غرباً داخلياً”. هل يفسر ذلك بالخوف أم بالانتهازية أم بالنفاق، أم هو ذو علاقة بــالثقافة التي يحملها كل منهم تجاه “المجتمع المسلم المتخلف بالضرورة”، وهل بلادنا جاهزة للديموقراطية فعلاً بفعل ثورة؟
– ليس أن في “داخل” كل من هؤلاء المثقفين “غرباً داخلياً”. قلت إنهم إيديولوجيون للغرب الداخلي، أو أفضّل للعالم الأول الداخلي، تجنباً لتفسير ثقافوي للكلام. العالم الأول الداخلي شرائح من أصحاب السلطة والثروة والامتيازات، يناظر موقعها في الداخل السوري موقع العالم الأول الغربي في العالم. وتكلمت على مثقفين سوريين بعينهم، تحولوا منذ عشرين عاماً أو ربع قرن إلى دعاة “تنوير” أو مبشرين بـ”الحداثة”، وهذا مفهوم منحاز إلى ما هو منظّم ومضاء ومركز وفوق ودولة في البلد، على حساب ما هو غير منظم ومعتم وهامش وتحت ومجتمع. هذا يضعهم في موقع المغتربين الخائفين من أكثرية المجتمع السوري المهمشة التي لا يعرفون عنها شيئاً. يعيشون خارج البلد (إن لم يكن فعلياً، فنفسياً)، ويأتون زواراً إلى العاصمة أو إلى مجتمعاتهم الأهلية الخاصة. مثالهم الاجتماعي والسياسي كمتنوّرين هو في رأيي “الاستبداد المستنير”: نظام مثل النظام الأسدي، لكن يؤمل منه أن يقمع الإسلاميين وحدهم، ويشجع أمثالهم هم. المشكلة أن غاية ما يبذله لهم نظام نرجسي مثل النظام الأسدي هو ندوة أو أمسية كل بضع سنوات تحت صورة بشار الأسد وأبيه.
أعتقد أن توكيل المثقف نفسه ناطقاً باسم الحداثة، أو التقدم في جيل أسبق، بدل الدفاع عن العدالة والحرية هنا والآن، يتوافق في كل وقت مع مواقف منحازة للقطاعات العليا والمنظمة من المجتمع، ومغتربة عن عموم السكان. هذا ما أنتقده، وأدعو إلى القطيعة معه.
ليس هناك بلد في العالم جاهز للديموقراطية بعد ثورة أو بدون ثورة. التحول نحو الديموقراطية سيرورة صراع وتعلّم واكتساب متعرجة وغير خطية، تتحمل انتكاسات وتعثرات وإخفاقات كبيرة. المجتمعات لا تتعلم من تاريخ غيرها، وقلما تتعلم من تاريخها ذاته، إن لم تتوفر لها من أبنائها مجموعات ثقافية وسياسية مخلصة، تساعد على استيعاب التجارب وتحويلها إلى معان وعِبر عامة. لكن الظاهر أن عموم النخب السورية المشتغلة بالثقافة والسياسة غير مؤهلة للقيام بهذا الدور، إما لتعاليها على الجمهور العام وتفضيل تقريعه على تعليمه والإصغاء إليه، وإما لكون قضيتها هي الأنا.
نتقدم نحو الديموقراطية بقدر ما نكافح، هنا والآن، من أجل العدالة والحرية، وننحاز للأكثر حرماناً من السكان. تصوّرنا للديموقراطية ينبغي أن يكون مفتوحاً على سجل هذا الكفاح، وقابلاً للمراجعة على ضوئه.

■ أين هو الموقع  الصحيح للمثقف، في رأيكَ، مما يحدث في بلدنا بعدما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من تمزق وفوضى واحترابات داخلية ليس النظام طرفاً في كل منها بالضرورة، وإنما أيضاً بين قوى عسكرية محسوبة على الثورة؟
– أعتقد أن المثقفين السوريين حكموا على أنفسهم بالتشتت وقلة الأثر حين اختار بعضهم أن يشتغلوا كسياسيين، واختار بعض آخر منهم، بذريعة الفكر أو الثقافة، النأي الكامل بأنفسهم عن السياسة والصراع الاجتماعي، واعتصموا بحبل الصمت، وفضّل بعض ثالث العمل كمحرّضين ودعاة طائفيين وناشري كراهية زاعقين. تقول حال من صار سياسياً، إنه لم يعد مثقفاً، وإن السياسة، وليس الثقافة، هي التي تعرّفه اليوم. وتقول حال مَن صمت، إنه ليس للثقافة قولٌ في شأن التعذيب والقتل والمذابح وتدمير البلد، بشراً وعمراناً ومعنى، وهذا ليس أقل من استقالة فكرية وأخلاقية، بل موت. وتقول حال المحرّض الموتور إنه لا يجد في الفكر  والأدب والفن ما يروي غليله. الأول، السياسي، يلغي استقلال الثقافة ويستتبعها للسياسة. الثاني، الصامت، يفصلها عن الصراع الاجتماعي (الواقع أنه ضد الثورة طوال الوقت ومنذ البداية). والثالث، داعية الكراهية، يجفف منابعها القيمية ويهين مفهومها ذاته.
هذا كله بينما يلزم من المثقفين، كمثقفين، بالأحرى، أن يتدخلوا بقوة، في الشؤون العامة، وأن يقاتلوا لإسماع كلمتهم، وأن يصونوا كرامة هذه الكلمة.
هل، بعد حين، يرجع السياسي الطامح إلى الثقافة، والصامت الحرون إلى الكلام، والمحرض الموتور إلى العمل المثمر؟ ربما. لكن هل سيجدون أحداً في انتظارهم؟ أشك في ذلك. ولست متأكداً أنهم سيرجعون على كل حال.
هناك نموذج رابع، كاتبات وكتّاب، عملوا في ظروف شاقة على صون كرامة الثقافة وكرامة الثورة وكرامتهم الشخصية. ويبدو لي أنهم وغيرهم من الجيل الذي تمثل الثورة تجربته المكونة يشكلون نموذجاً مغايراً من المشتغلين بالثقافة. جيل منخرط أكثر في الصراع الاجتماعي والسياسي والفكري، وأفكاره غير منقطعة عن تجاربه وخبراته، مع الحرص على استقلال الثقافة وأصول العمل في ميادينها المختلفة.

الثورة – الحرب الأهلية- الطائفية

■ إلى أي درجة وصلت الاحترابات الحاصلة في سوريا اليوم إلى شفير حرب طائفية واسعة: سنّية – شيعية أو سنية – علوية؟
– أظن أننا في هاوية الحرب الطائفية، وليس على شفيرها اليوم. إيران هنا و”حزب الله” اللبناني (حالش)، وتشكيلات عراقية متنوعة. كيف يمكن ألا نرى الصفة الطائفية لهذا التحالف الذي تشارك فيه أيضاً مجموعات أصغر، من بلدان أخرى؟ كل المجموعات السلفية في سوريا طائفية، وطائفيتها مبدئية ومقاتلة. لا تقتصر مقاومة التحالف الأسدي عليها، لكنها صادحة الصوت ومشهدية الأداء أكثر من غيرها. وتداعى الوعي الوطني بالصراع بالتوازي مع تداعي الإطار الوطني للصراع خلال العامين الأخيرين.
للصراع امتداد إقليمي يشمل البلدان الضعيفة الدولة: العراق وسوريا ولبنان، مع لاعبين أبعد، إيران والسعودية بخاصة.
لكن هذا الصراع الأغبى من كل صراع والأكثر تدميراً هو استئجار لمذاهب ورموز من أجل الصراع على السلطة المحلية والإقليمية بين مجموعات ودول، النظام الأسدي منها، وهو الذي يجعل سوريا ساحة لهذا الصراع الذي كان يمكن تجنبه. الطوائف كلها غبية وكلها غير أخلاقية. وفي منطقتنا الدول كلها أيضا كذلك.

■ هل النظام السوري نظام “طائفي”، بمعنى أنه علَوي، وما موقع العلويين اليوم، وهل هم مسؤولون وداعمون للنظام كــ”طائفة” فعلاً، على ما يسوّق الكثيرون؟
– ظاهر أن عتبة تماهي عموم العلويين بالنظام أدنى من غيرهم، أي يوالون النظام بإقبال ودونما حاجة لبذل أي جهد، ويشعر أكثرهم أنهم في بيتهم في حضرته. هذا واقع مصنوع سياسياً، لا نستطيع أن نفهمه من دون الأخذ في الاعتبار أن ركائز النظام السياسية والأمنية تتحدر من الوسط العلوي من جهة، وأن شبكة المحسوبية العلَوية (علاقات الواسطة والتنفيع والاستتباع) المكونة من أمنيين وعسكرين وسياسين كثيفة ونافذة من جهة ثانية، وأخيراً أن الدولة الأسدية توفر فرص عمل ونفوذ لنسبة من العلويين أكبر من الجماعات السورية الأخرى.
من ناحية ثانية، أرى مفيداً جداً التمييز بين الدولة الظاهرة في سوريا، من حكومة وإدارة وتعليم وجيش عام، والدولة الباطنة المكوّنة من المركب السياسي الأمني، وتشمل الأسرة الأسدية والأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية المولجة حماية النظام. وبقدر ما إن الأولى سورية عامة، فإنها لا تملك شيئا من السلطة الفعلية. فيما الدولة الباطنة أسرية وطائفية، والسلطة الفعلية في يدها، وآلية صنع القرار فيها غير معلومة للعموم. الدولة الباطنة (أو الخاصة) أشبه بمنظمة سرية، تحتكر وسائل العنف وتتعامل مع عموم السوريين بقسوة وكراهية وتعالٍ، وتتمتع بحصانة تامة حيالهم. الدولة الظاهرة هياكل مؤسسية وإيديولوجية جرى تحويرها بحيث تحجب وجه الدولة الباطنة. وما رأيناه من انشقاقات عن النظام بعد الثورة أصاب الدولة الظاهرة حصراً. تهتك الحجاب فيظهر الوجه الحقيقي للدولة الباطنة: أسرة ومخابرات وشبيحة…، وتحالف طائفي إقليمي.
تطور النظام في عقود حكم حافظ الأسد في اتجاه خصخصة الدولة وتعميم الطائفة التي يشغل منحدرون منها موقعاً امتيازياً في الوظيفة الأمنية، والدولة الباطنة عموماً. لدينا في المحصلة وضع مقلوب: الدولة خاصة (سوريا الأسد) والطائفة عامة، ينتشر أبناؤها في كل مكان من البلد، من دون أن تكون دواع عامة هي سبب هذا الانتشار. واقع الدولة الخاصة تحجبه الدولة العامة أو الظاهرة. أما الطائفة العامة فتحتجب وراء احتكار النظام لتعريف الوطنية وتوجيه هذا التعريف بصورة أساسية ضد النظر في وقائع الطائفية، يحتجب كذلك وراء وضع الطائفة العامة الدينية، وهو يضع تعريف الإسلام بيد سنّيين، ويعود على مديري الأجهزة السنية بهيمنة عامة على مستوى التعليم الديني والأحوال الشخصية والحضور الرمزي في الفضاء العام.
عبر هذه الأدوات قاربتُ مسألة الطائفية في سوريا، المسألة التي أتصور أنها ملمح أساسي في “الدولة السلطانية المحدثة”. لسوريا وضع خاص بين البدان العربية من حيث أنها “جمهورية” تطورت إلى مملكة، ومن حيث ازدواج الدولة (ظاهرة وباطنة) من جهة، والازدواج الطائفي (طائفتان عامتان، سياسية ودينية، العلويون والسنيون)، وضرب من تقاسم السيادة بين الدين والدولة.
لكن حين نتكلم على نظام طائفي فنحن نتكلم على نظام، على ترتيب خاص للسلطة والنفوذ والامتيازات، وليس على طائفة أيا تكن. لعموم العلويين موقع خاص في الدولة وعلاقة خاصة بها من دون ريب، لكن هذا لا يعني بحال أن رفاه العلويين وخيرهم هما محركا النظام وسياساته.
على مدى أطول يبدو لي أن العلويين متضررون من النظام مثل غيرهم لسبب بديهي: الأكثر تماهياً به مرشحون لأن يخسروا أكثر من غيرهم عند زواله، علماً أن النظام لم يُرسِ أوضاعاً عادلة، وبقي نظام استثناء لا يمكن أن يدوم مهما طال به الأمد.
منذ الآن نتبين وجهاً مهماً للضرر، يتمثل في ما ألحقه النظام من تخريب عميق بالوعي العلوي العام، وإضعاف العناصر التحررية والديموقراطية فيه (مقارنة بما كانت الحال في ستينات القرن العشرين وسبعيناته) ولمصلحة منطق التبرير ومعاداة التغيير أو تكثير الاشتراطات عليه، ثم التمزق النفسي الذي لا يصعب تبيّنه عند عموم معارضي النظام العلويين. مبعثه في تقديري أنهم يريدون التخلص من نظام يعلمون كم أنه مجرم وفاسد، لكنهم يخشون الأخطار على أهلهم وبيئة حميمة نشأوا فيها.
وخشيتهم في محلها اليوم للأسف.

■ في سجال سابق لك مع حازم صاغيّة قبل الثورة، وكان عام 2010 على ما أعتقد “هل سوريا مرشحة للزوال ما لم يكن حكمها استبدادياً؟”، أعطيت لما هو سياسي متعلق بالأنظمة دوراً أكبر من الثقافي المتعلق بثقافة المجتمعات العربية في ما يخص الطائفية وبروزها وعوامل تفكك مجتمعاتنا. اليوم، وبعدما فعلت الثورة فعلها بالقبضة الأمنية وخلخلتَهْا… طَفا على السطح ما كان مخبوءاً لعشرات السنين وربما مئات السنين من “طائفية دفينة”. ألا يفسر هذا بالثقافة أيضاً وإلى درجة كبيرة وليس بالسياسة فقط؟
– لا أوافق على أن شيئاً “طفا على السطح” بعدما كان “مخبوءا” طوال عقود أو قرون، أو “مدفوناً” تحت السطح، أو على أن ما ظهر من طائفية بعد الثورة كان كامناً كبذرة في مكان ما من كياننا، ولا تنتظر إلا أن تتهيأ لها الظروف لتنتشر وتنمو إلى شجرة طائفية مثمرة. هذه استعارات عضوية، مضللة كثيراً في تصوري.
“الظروف” عامل مُحدِث وليس مساعداً فحسب، على ما تضمر هذه النظرة التي تنتمي إلى عقائد الحتمية. بلى، كانت التطورات الطائفية التي رأينا، ممكناً من ممكنات تطورنا التاريخي، لكني لا أؤمن بأن حتمية ما كفلت أن يتحقق هذا الممكن دون غيره. ما حقق هذا الممكن هو العنف المتوحش والطائفي الذي واجه به النظام الثورة. لو أظهر استعداداً لتسوية تاريخية تكلمتُ عليها في أسابيع الثورة الأولى، وتكلم عليها غيري، لكنا تجنبنا جانباً على الأقل من المآلات الكارثية الراهنة.
لا أؤمن بالحتمية سواء أُسندت إلى القدر الإلهي أو إلى مذهب المادية التاريخية أو إلى إيديولوجيا الذهنيات أو الرؤوس، أو إلى اعتبارات جيوساسية على ما يفعل القوميون. لا أعتقد أن كل ما حدث كان لا بد أن يحدث ولا يحدث غيره. هذه منطق ديني أيا يكن قناعه الإيديولوجي. ما كان ثمة حتمية تقضي بأن يقتل النظام 11 ألفاً من محكوميه تحت التعذيب حتى آب من العام الماضي (بالمعدل نفسه يبنغي أن يكون قد سقط تحت التعذيب أكثر من 4380 بين آب 2013 واليوم)، أو أن يقصف المدن بصورايخ سكود أو الأحياء المأهولة ببراميل المتفجرات أو يفتح البلد لإيران وتابعها اللبناني وأتباع عراقيين.
الثقافة توفر شروط إمكان أو استعدادات، وليس أسباباً فاعلة، في ثقافتنا استعدادات طائفية، وشروط إمكان “القاعدة” و”داعش” موجودة بقوة في الإسلام السنّي السلفي. لكن تلزم أوضاع واقعية بعينها كي ينتقل ما كان ممكناً بين ممكنات إلى حيز التحقيق، وكي تُلغى ممكنات أخرى. السياسة أو قرارات الفاعلين السياسيين أساسية في هذه الأوضاع الواقعية، بخاصة حين يحتكر هؤلاء الفاعلون السياسيون السلطة والقرار العام في البلد، ولا يدانيهم أحد سلطةً وحرية وموارد وحصانة.
عدا عنف النظام، وعدا تلاعبه السابق بسلفيين جهاديين وتحرير معتقليه الجهاديين بعد شهور قليلة من تفجر الثورة، وهو يعرف “برنامجهم” (أعني ما هم مبرمجون عليه، وكذلك ما يعملون على تطبيقه، إلى درجة أنه تكلم على “إمارات سلفية” بعد أقل من أسبوعين على الثورة)، هناك التمويل الخليجي الدولتي ودون الدولتي، وهناك تصدير السلفية السعودية، وهناك من جانب آخر تصدير التشيع الإيراني وحملات التشييع الممولة إيرانياً، وتمويل حرب “حزب الله” الطائفي ومجموعات شيعية عراقية ضد السوريين الثائرين. وهناك قبل هذا وذاك، نظام قائم على التمييز الطائفي منذ جيلين تقريباً، ولد في ظله ما قد يتجاوز 80 في المئة من السوريين. هذه هي الشروط الواقعية لتحول أحد ممكنات ثقافتنا إلى واقع.
لكن عن أي ثقافة نتكلم؟
الواقعة الأساسية في العقود الأخيرة في رأيي هي تراجع تحكّم أكثرية السكان في بلدنا ومنطقتنا بشروط حياتهم أو انفلات هذه الشروط من قدرتهم على الإمساك بها وضبطها. الدولة تحولت إلى عصابة مسلحة لا قانون لها، مؤسسات التعليم العام تتدهور، أكثر المثقفين يتعالون على عموم الناس ولا يبذلون أدنى جهد لمساعدتهم، معدلات الفقر تتزايد، ورامي مخلوف يصبح مليارديراً عبر عمليات متعددة، منها عملية نصب تاريخية علنية أثارت اعتراضات معلومة، أودت بأصحابها إلى السجن.
تحول الدين إلى حد للفقر السياسي في بلد يعاقب الناس فيه إذا قالوا آراءهم في الشؤون العامة ولو في جلسة خاصة، ويمنعون من التجمع ومناقشة القضايا العامة، ولو في مساكن خاصة. فهل هذا من الثقافة أم من السياسة؟ وهل “جدار الخوف” الذي يتكلم عليه السوريون، الجدار الذي يعزلهم عن بعضهم ويدفعهم للانكفاء على حيواتهم الخاصة، هل هو ثقافة أم سياسة؟ وهل “الشرطي الداخلي” الذي يتكلم عليه المثقفون سياسة أم ثقافة؟ وهل “انكسار العين” خوفاً والبعد عن كل شأن عام من ظواهر علم البصريات أم من ظواهر سياسة طبيب عيون ورث الحكم عن أبيه الطاغية؟ وهل الامتناع عن توقيع بيان يدعو للإفراج عن معتقل ما، ثقافة أم سياسة؟ وهل تجويع مخيم اليرموك أو المعضمية مثلاً، وقتل معتقلين جوعاً مثلاً، هو سياسة أم ثقافة؟ أم ربما اقتصاد؟ أليس “جدار الخوف” استثماراً سياسياً بالغ الأهمية للنظام؟ أليس هو السياج الذي تبنيه المخابرات حول الناس وبينهم، كي يبقوا منكسرين، تشلّهم ذكريات التعذيب والإذلال والقتل في مقارها؟ أليس “الشرطي الداخلي” هو الرقابة الذاتية التي نمارسها على أنفسنا خوفاً من قوة مخيفة فعلا، تعتقل وتعذب وتقتل؟ عن أي ثقافة نتكلم إذاً؟
لا أعرف شيئاً أسوأ من هذا الوباء الثقافوي الذي أصاب قطاعاً لا بأس به من المثقفين السوريين، ولا أراه منقطعاً هو ذاته عن الطائفية. أشك كثيرا أن ثقافتنا تشجع على الطائفية تشجيعاً خاصاً، لكن لا شك عندي أن قطاعاً من المثقفين يشجعون عليها كثيراً، هم أنفسهم من يفسرون الطائفية، والاستبداد والفقر وكل شيء، بـ”الثقافة” (العقل، والرأس وصندوق الرأس، ونسيج العقليات، والذهنيات…). هذا التفسير أسوأ من خرافة، أظنه هو ذاته أداة من أدوات الصراع السياسي والفكري ضد الشرائح الأكثر حرماناً والأدنى حصانة في مجتمعنا، ضد العالم الثالث الداخلي.

■ هل من أفق في رأيك لانتصار الثورة السورية اليوم وقيام نظام توافقي بديل بعد كل ما حدث؟
– تحطم الإطار الوطني للصراع السوري منذ وقت ما في النصف الثاني لعام 2012، فلم يعد لسوريا داخل وطني من جهة، ولم تعد إيران والعراق ولبنان وتركيا والسعودية وقطر، فضلاً عن أميركا وإسرائيل، خارجاً لسوريا من جهة ثانية. وتالياً لم يعد هناك حل داخلي. الحل الممكن إقليمي ودولي. وفي الشروط الراهنة لا يبدو أن هناك توافقاً إقليمياً ودولياً على شيء، وحتى إذا جاء هذا التوافق في أي وقت منظور فسوف يكون على حساب عموم السوريين وليس لمصلحتهم. المستفيدون المرجحون هم أمراء الحرب مثل بشار وزهران وحفنة من آخرين، وربما الخليفة إبرهيم البغدادي. عموم اللاجئين، وعموم السكان في الداخل الذي دفعوا ضريبة باهظة في زمن الثورة، وغير الداجنين من النشطاء السياسيين والمثقفين، خارج الحلول الممكنة.
لذلك أتصور أننا نحتاج إلى تفكير جديد واستراتيجيا جديدة، إعادة بناء تصورنا للسياسة والعمل العام، وصنع القضية السورية كقضية إنسانية تحررية، وبناء حركة تحرر وطني، تعمل على تحرير سوريا من المحتلين الأجانب وعملائهم المحليين من جهة، وإعادة توحيد البلد، وتوحيد السوريين من جهة ثانية. هذا عمل كبير ويحتاج إلى سنين. وأعتقد أن جيلاً من السوريين، الجيل الذي انخرط في الثورة ودفع أفدح الأثمان، هو المؤهل للقيام بهذا العمل.

■ سؤالي الأخير: إلى أي درجة أثّر فيك شخصياً غياب سميرة ورزان ووائل وناظم؟ وهل ترك غياب سميرة أثراً وتغيرات في كتاباتك ومواقفك السياسية والفكرية، وخصوصاً أن الجهة المتهمة بالخطف التي يرجح أنها هي من خطفتهم، تعتبر من “فصائل الثورة العسكرية”؟
– لا أستطيع المبالغة في تأثير اختطاف سميرة ورفاقها، العام والشخصي. سميرة التي ناضلت ضد النظام، وجاءت لاجئة إلى الغوطة هرباً منه، تُختطف وتغيَّب، من دون معلومة مباشرة لي أو لوالديها المسنّين، أو لأحبائها الكثيرين، هذه جريمة شنيعة، وتستحق مكاناً مرموقاً في سجل العار في التاريخ كله.
كنت أتمنى لو تجنبت هذه الكأس المرة. سميرة اختارت لنفسها دُوما، وكانت صاحبة قرار، لكن تغييبها بهذه الصورة يفوق كل حد. فإذا أضيف اختطاف فراس قبل سميرة، ثم اضطراري للخروج من البلد من دون استعداد مسبق، صار هذا امتحاناً لا يطاق.
آمل أن أرى سميرة وفراس، ورزان ووائل وناظم، واسماعيل وباولو، وفائق وجهاد، وكثيرين آخرين، في وقت قريب. وطالما هم غائبون سأروي قصتهم وأساهم في صنع قضيتهم، قضيتنا.
وبالتأكيد تأثر شغلي مضامين وأسلوباً باختطاف سميرة خصوصاً. تعرف أنه لم تكن لديّ أعماق عكرة حيال الإسلاميين، لكن حين تختطف مجموعة منهم أخي وأصدقائي، وتختطف مجموعة أخرى زوجتي وأصدقائي، فقد صاروا أعدائي مثل النظام الأسدي (وليس خصومي). ويعزز اعتبار عام وجيه هذه الاعتبارات الشخصية: فقد حطم الجماعة قضيتنا التحررية بقدر ما حطم النظام بلدنا ومجتمعنا.
لم تعد المسألة الجمع بين نقد تفكيرهم والدفاع عن حقهم في الوجود والعمل العام، كما كانت الحال منذ بدأتُ الكتابة في مطلع القرن وحتى بداية الثورة. اليوم المسألة هي شرعيتنا نحن كيساريين وليبيراليين وعلمانيين، وحقّنا في الوجود العام والعمل العام. قلت في إجابة سابقة إن موقع الإسلاميين تبدل من ضحايا، سجناء ومنفيين، وشركاء لنا في الموقع، إلى قوى متسلطة وفاشية، وهذا بالتوازي مع تصدر السلفيين المشهد الإسلامي. بينما بقينا نحن (ليس كلنا!) في الموقع نفسه: موقع من يعملون على تجديد منظورات التفكير والسياسية، ومَن يُسجنون ويُعذَّبون ويُقتَلون. ويُهجَّرون.
هذا ينعكس بالطبع في عملي، وهو أصلا منفتح على التجربة وتغيراتها، وليس قولاً سابقا للتجربة، لا يكفّ عن مشابهة نفسه، ويدعو العالم إلى أن يشابهه.
من حيث الأسلوب أظنني أشد غضباً اليوم، ولا أحاول التحكم بغضبي في الكتابة بقدر ما كنت أفعل من قبل.
انخرطت في الثورة منذ البداية ليس من أجل التغيير العام وحده، ولكن من أجل أن أتغيّر أنا أيضاً. لم أرد أن أنجو من التجربة، لكنها جاءت بالغة القسوة.
تغيرتُ فعلاً، والسجل لا يزال مفتوحاً.

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق