سعد كيوان: بشار الأسد في المحكمة الدولية
لم يحتفل لبنان، لأول مرة في تاريخه، بعيد الاستقلال الواحد والسبعين، لا خطابات ولا استقبالات ولا عروض عسكرية. وتعالت أصوات، من هنا وهناك، تتباكى على حال البلاد، وعلى الجمهورية الفاقدة الرأس منذ ستة أشهر، إلا أن ما حصل، في الأيام القليلة التي سبقت الذكرى، يوازي الاستقلال بحد ذاته. شهادة رجل يدعى مروان حماده، وهو نائب في البرلمان ووزير سابق في عدة حكومات، أمام المحكمة الدولية الخاصة التي تحقق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري. رجل نجا بأعجوبة من محاولة اغتيال (3 أكتوبر/تشرين أول 2004)، سبقت اغتيال الحريري (14 فبراير/شباط 2005).
كان كلام مروان حماده في لاهاي، مكان المحكمة، واضحاً ومباشراً، ولم يحمل مفاجآتٍ كثيرة، إلا أن وقعه وأصداءه كانت تتردد بقوة في أجواء بيروت والعواصم العربية، فهو لا يزال عضواً في كتلة وليد جنبلاط النيابية، وكان صديقاً، في الوقت نفسه، للحريري. ومن موقع المقرب والعارف بخبايا الأمور، وخصوصاً في فترة السنوات الأخيرة التي سبقت اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، روى حماده وقائع وأحاديث خاصة وأسراراً أصبحت فيما بعد على كل لسان. ولكن، تكمن أهمية شهادته في أنه رواها أمام المحكمة بجرأة ودقة وصراحة متناهية، وأكسبها قوة وصدقية، بوضعها في سياقها السياسي وظروف تلك المرحلة التي تبدأ بتدخلات بشار الأسد المباشرة والغليظة في الشأن الداخلي، إلى ممارسات أجهزته القمعية على اللبنانيين، إلى فرض التمديد لرئاسة إميل لحود (سبتمبر/أيلول 2004)، وكيف هدد الأسد الحريري بـ”تهديم لبنان على رأسك” إن هو رفض التمديد، إلى قيام حماده بدور الوسيط المتنقل بين جنبلاط والحريري، لأن الاثنين كانا يتحاشيان استعمال خطوطهما الهاتفية، لأنها كانت مراقبة (والأرجح أنه لهذا السبب تم استهدافه)، انتهاءً بوقائع الأسابيع الأخيرة التي سبقت جريمة الاغتيال.
أكسبت شهادة حماده هذه الاحداث والوقائع الموثقة مشروعيتها القانونية والجرمية، ولم تعد مجرد معلوماتٍ يتداولها الناس والألسن. أعطتها قوة القانون أمام محكمة القضاء الدولي، حوّلتها إلى حبر على ورق سجلات التحقيق في هذه المحكمة. كلام حماده حوّل الأجساد المتفحمة للحريري، ولمستشاره الاقتصادي والوزير السابق، باسل فليحان، وللصحافي والكاتب، سمير قصير، وللقائد الشيوعي، جورج حاوي، وللصحافي، جبران تويني، وللنائب والوزير، بيار الجميل، وآخرين، إلى محاضر إدانات مدوية لإجرام النظام السوري وإرهابه.
وستلي شهادة حماده، في الأيام والأسابيع المقبلة، شهادات أخرى مفصلية لسياسيين، مثل رئيس الحكومة السابق، فؤاد السنيورة، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ولسياسيين وصحافيين آخرين. وكان الاثنان من المقربين جداً من الحريري.
رفعت شهادة حماده هذه الوقائع إلى مصاف الحقائق الدامغة، ودكّت أول إسفين في هيكل الإفلات من العقاب الذي كان سائداً طوال فترة الوصاية السورية على لبنان لنحو عشرين سنة، والتي تستمر، عملياً، بفعل هيمنة ميليشيا حزب مسلح على مرافق الدولة ومفاصلها الأساسية. وهذا الحزب، أي حزب الله، يستخف بالعدالة والمحاكم، محلية أو دولية، فهو لم يعترف بالمحكمة الخاصة بلبنان، لا بل اتهمها بأنها إسرائيلية، ورفض تسليم خمسة من كوادره المتهمين في تنفيذ جريمة اغتيال الحريري، للتحقيق معهم، على الرغم من تشكيل المحكمة فريقاً من المحامين للدفاع عنهم. كما رفض حزب الله، أيضاً، تسليم كادر آخر، يدعى محمود الحايك، متهم بمحاولة اغتيال النائب ووزير الاتصالات، بطرس حرب، في 12 يوليو/تموز 2012، بعد أن وجدت محفظة عائدة للمتهم في مكان الجريمة. وقبل أشهر، أعلن أن الحايك “استشهد” في أثناء قيامه “بواجبه الجهادي” في سورية. كذلك، تفيد معلومات التحقيق في محاولة اغتيال مروان حماده بأن السيارة المفخخة التي انفجرت عند مرور سيارته تم تفخيخها في الضاحية الجنوبية من بيروت، معقل حزب الله.
ولهذه الأسباب، أسند التحقيق الأولي في الجريمة إلى لجنة دولية خاصة، ومن ثم كان اللجوء إلى القضاء الدولي، وإنشاء مجلس الأمن الدولي محكمة خاصة بلبنان في مايو/أيار 2007.
إنها شهادة “أدخلت” الأسد إلى المحمكة الدولية، وضعته قانونياً في قفص اتهامها، في دائرة الاتهام الدولي، فيما هو مستمر في ذبح شعبه وقصفه بالبراميل المتفجرة. إنها ربما الحدث الأكثر إنصافاً، والأكثر سيادية الذي يعيد إلى الاستقلال معناه، ويؤسس لإعادة بناء الدولة حرة ومستقلة، وصاحبة السيادة والسلطة على أراضيها.
العربي الجديد
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.