جمال قارصلي يكتب عن ” ما وراء نقل رفات سليمان شاه “
إن بضع المئات من الأمتار على شاطيء الفرات التي بُني عليها ضريح سليمان شاه, جد مؤسس الخلافة العثمانية, كانت في الأيام القليلة الماضية محط أنظار العالم أجمع وأثبتت لنا أهميتها البالغة ومكانتها الرفيعة بين أفراد المجتمع التركي والتي قد تصل لدى بعضهم إلى حد القداسة, وبناء على هذه الأهمية الكبرى والحساسية العالية حصلت ردود فعل كبيرة على الصعيد العسكري والسياسي والديبلوماسي أثناء عملية نقل رفاة هذا القائد التاريخي بإستعراض عسكري كبير وتدابير لوجستية هائلة أطلق عليها إسم عملية “شاه الفرات”. هذه العملية تمت في ليلة 21 شباط/ فبراير 2015, حيث تم التحضير لها بدقة عالية وبسرية تامة وبسبب أهميتها قام رئيس الوزراء التركي, أحمد داوود أوغلو, متابعة خطوات تنفيذها لحظة بلحظة.
ردود الفعل التي حصلت كانت نتيجة للتوترات والأزمات التي تمر بها المنطقة وبسبب تداخل وتواجد الكثير من القوى الإقليمية والعالمية على الأراض السورية, إضافة إلى التوتر الذي تسببه المنافسة الكبيرة بين الأحزاب التركية والتي بدأت تحضر نفسها لخوض الإنتخابات البرلمانية القادمة.
من المعروف بأن هذه هي ليست المرة الأولى التي يتم فيها نقل رفاة سليمان شاه بل هي المرة الثالثة, حيث تم نقله في المرة الأولى في عام 1973 وذلك خوفا من أن يتم غمر الضريح بمياه سد الفرات, من القرب من قلعة جعبر إلى مسافة أكثر من 100 كيلومترا شمالا بإتجاه الحدود التركية السورية, إلى تلة عالية بالقرب من جسر “قراه قوزاق”, وبعد ذلك تم نقله إلى المكان الذي غادره قبل يومين إلى داخل الأراض التركية. الجيش التركي قام بتفجير مبنى الضريح تحسبا لأي سوء إستخدام لهذا المبنى. يقع ضريح سليمان شاه, الذي زرته شخصيا قبل سنوات قليلة, في شمال سوريا على ضفة نهر الفرات الشرقية وبالقرب من مدينة منبج ويبعد حوالي 30 كيلومترا عن الحدود التركية. بعد قيام الدولة التركية الحديثة وبموجب المادة التاسعة من اتفاقية أنقرة الموقعة بين تركيا وفرنسا في عهد الانتداب الفرنسي على سوريا عام 1921، تم الاتفاق على أن يبقى ضريح سليمان شاه تحت السيادة التركية ويُرفع عليه العلم التركي وتتم حمايتة من قبل مجموعة عسكرية تركية لا تتجاوز ال 40 عنصرا, وهي تتبدل كل ثلاثة أشهر.
سليمان شاه توفى في عام 1231 ميلادي وتم تشييد قبرا له بالقرب من قلعة جعبر وعندما إنتصر السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق الشهيرة في عام 1516, أقام له ضريحا لائقا بمكانته وأطلق على هذا الضريح إسم “المزار التركي”. في عام 2010 زار الرئيس التركي السابق, عبد الله غول, الضريح مما لفت إليه الأنظار أكثر وصار محط إهتمام أكبر.
بعد سيطرة “تنظيم الدولة الإسلامية” على المنطقة التي يقع فيها ضريح سليمان شاه وقيامه بتفجير العديد من الأضرحة في سوريا والعراق، تحول هذا الضريح إلى ورقة ضغط في يد “التنظيم” وأصبحت المخاوف تزداد كل يوم من أن يقوم “التنظيم” بتدمير الضريح وأخذ العساكر الذين يحمونه كرهائن. هذه الأفكار والتهديدات كانت تقلق الحكومة التركية كثيرا وترى فيها المساس الكبير لسيادتها وكرامتها وأمنها القومي وكانت كل مرة تؤكد بأنها ستدافع عن الضريح بكل ما لديها من قوة. فلهذا صوّت البرلمان التركي في أكتوبر/تشرين الأول 2014 لصالح تفويض الجيش بإجراء عمليات عسكرية ضد مسلحي تنظيم الدولة بسوريا والعراق. وبناء على الدستور التركي، فإن هذا القرار يعطي قوات الجيش الإمكانية لخوض عمليات عسكرية في داخل سوريا والعراق وذلك وفق الحاجة، إضافة إلى السماح بنشر قوات أجنبية في الأراضي التركية.
دخلت القوات التركية إلى الأراضي السورية بالتنسيق مع الإئتلاف والجيش الحر وكذلك مع قوات الحماية الكوردية المتواجدة في عين العرب “كوباني” ومع “تنظيم الدولة الإسلامية” وبإعلام القنصلية السورية في أنقرة بذلك.
عندما شاهد الأهالي دخول هذا الكم الكبير من الآليات والجنود من الطرف التركي (حوالي 600 عسكري ومائة عربة عسكرية منها 39 دبابة) تفائلوا خيرا وتوقعوا بأن تكون هذه القوات قد جاءت من أجل إحداث منطفة آمنة لهم وهي بداية لخلاصهم من سيطرة “تنظيم الدولة” وكذلك من قصف طيران “النظام” لهم بالبراميل المتفجرة, ولكن سرعان ما تبخر تفاؤلهم عندما بزغت شمس اليوم التالي.
هنالك من يتساءل لماذا تم إعادة نصب العلم التركي على بقعة أخرى من الأراضي السورية وبالقرب من مدينة عين العرب “كوباني” وبمسافة لا تتجاوز ال 500 مترا فقط عن الحدود التركية وهل ما تم هو إشارة واضحة على رفض الحكومة التركية لأي شكل من أشكال الإدارة الذاتية للمناطق الكوردية على حدودها؟ وهنالك بعض المحللين من يرى في عملية “شاه الفرات” إبتعاد الحكومة التركية عن المسألة السورية ورضاها بالأمر الواقع, ولكن وبالمقابل, هنالك من يرى عكس ذلك وأن السياسة التركية قد نجحت في إقناع الإدارة الأمريكية بتصورها للحل في المسألة السورية وأن هذه العملية هي الخطوة الأولى للخلاص من تهديدات وإستفزازات “تنظيم الدولة” والبداية في تشكيل المنطقة الآمنة على الأراضي السورية وذلك تنسيقا مع الطرف الأمريكي.
شعوب المنطقة سئمت الحروب والويلات والظلم والطغيان, والكثير من مواطنيها صاروا يتمنون لو أن قادتهم يتعلمون من تجارب قادة دول أخرى وعلى سبيل المثال الإتحاد الأوربي والذي إستطاع أن يجمع شعوبا ولغات وحضارات مختلفة كانت تتحارب فيما بينها سابقا تحت سقفه, والذي وبواسطته وعن طريقه تم حل الكثير من المسائل التاريخية العالقة بين دوله, مثل مسألة “الزاس واللورين” بين فرنسا والمانيا وكذلك قضية الأقليات العرقية في التشيك وبولاندا ومسائل شائكة كثيرة.
سكان منطقة الشرق الأوسط لديهم علاقات تاريخية وحضارية ودينية عريقة تجمعهم وكذلك الكثير من صلات القرابة فيما بينهم, على سبيل المثال يوجد بين المواطنين السوريين والأتراك لا يقل عن عشرة ملايين صلة قرابة تجمعهم. هذه الشعوب تنتظر القائد الشجاع الذي يستطيع أن يعلن وبكل وضوح بانه سيعمل وبكل ما بوسعه على توحيد هذه البلاد ولو في سوق تجارية مشتركة ويقول كما قال مارتين لوثر كينغ: أنا لديّ حُلُمْ „I have a dream“ وبأي لغة يشاء.
جمال قارصلي / ألمانيا