ريم فاضل : عن “طبول الحب” بين الواقع والمتخيل
لعلنا لا نزعم بقولنا إنّ رواية “طبول الحب”, للكاتبة مها حسن تعدُّ أول الأعمال الروائية التي تناولت الثورة السورية سنة 2013, وإن كانت الكاتبة سمر يزبك قد سبقتها في تقديم كتاب “تقاطع نيران” تحت عنوان يوميات من الانتفاضة السورية سنة 2012, إلا أن طبول الحب جاءت تحت مسمى رواية.
تفتتح الرواية خيارها السردي بعرض محتويات الكتاب تحت عناوين “مقدمة وأربعة فصول”, ليأتي بعد ذلك في المقدمة التعريف ببطلة الحكاية وهي أستاذة جامعية ومترجمة تعيش في فرنسا اسمها ريما الخوري تحمل كنية طليقها وأرادت تأليف كتاب “لن يكون بحثاً أكاديمياً ولا أطروحة جامعية أدبية تلتزم خطة أدبية ومراجع بحث, ولا رواية حتى, بسبب تعثر الرواية, وهذا ما سوف يثبته أحد طلابي, إذ سيتغير مسار الكتابة الإبداعية بعد فشل الربيع في سورية, فإن هذا الكتاب سيكون أقرب إلى المحاولة البحثية الفنية, فهو مزيج من الواقع والبحث والمشاعر القوية التي تستحق أن تأخذ وصف الابداع. لكل هذا فإن كتابي بمثابة محاولة أدبية” وفي البداية لن يدري القارئ هل هذا الحديث عن تعثر الرواية هو حيلة فنية أم أن الروائية أدركت في مفاصل المتن أنها ستخرج عن الإطار الروائي المتعارف عليه وسيغدو ما تكتبه هو مجرد يوميات أدبية؟
لكن عبر هذه الحيلة الفنية الضبابية في مغزاها تستهل مها الحسن روايتها بتعريف أكاديمي نمطي لما سيأتي في صلب النص الروائي. يبدأ الفصل الأول “حب ما قبل الثورة” بحديث على لسان البطلة, التي تمسك زمام السرد الذاتي حيث يتماهى الراوي مع الشخصية, فتكون الحكاية عن شخص تعرفت عليه عبر عالم شبكات التواصل الاجتماعي, والذي دخلت إليه كنوع من التسلية واكتشاف هذا العالم, وتقوم باسترجاعات زمنية حول الحياة الرتيبة في باريس وعن الوحدة بعد الطلاق والتي دفعتها لتربية كلبة تدعى “كوارتز” فضلاً عن مشاعر مرحلة سن اليأس التي تجتاحها. كذلك تتحدث عن علاقاتها العاطفية السابقة, وعن زواجها من انطوان مسيحي الانتماء, في حين هي مسلمة من أم مسيحية, وكيف عارض والدها هذا الزواج. هذه الأمور مهدت لعلاقتها الافتراضية مع المحامي يوسف المختص في الدفاع عن حقوق الإنسشان المنتمي إلى مدينة كفرنبل والذي انتهى به الأمر إلى حمل السلاح في الثورة السورية.
إن فصول الرواية تنهض على عناوين جزئية, ليغدو الشكل مشابهاً لتوزيع مادة الأبحاث الأكاديمية, لكن مضمون كل عنوان يختص بجانب من حياة البطلة فتأخذ هذه العناوين أحياناً شكل اليوميات الموثقة, ولا سيما ما بعد الفصل الأول بدءاً من الكابوس السوري ومروراً بالمثقفين المخمليين وانتهاء بسقوط الأبد. إلا أن هذه العناوين الجزئية قد تختصر الكثير من الأحداث السورية بصفحة أو بضعة أسطر كما نجد في “من الحرية إلى إعدام الرئيس”, إذ ثمة اختزال كبير لتطور الهتافات السورية من هتاف السلمية حتى هتاف إعدام الرئيس ببضعة أسطر قليلة, في حين نجد هوس التوثيق وذكر أرقام الشهداء يلح كهاجس تتبعه الروائية على لسان البطلة في الفصل الثاني ويمتد إلى بداية الفصل الثالث. لكن هذا الهوس قد أوقع النص الروائي في مأزقين؛ الأول يتجلى في أخطاء التوثيق على سبيل المثال نجدها تقول في الصفحة 56 “في اليوم السادس من شهر كانون الأول بلغ عددهم 4871” وعلى الرغم من أنها تتبع تسلسلاً زمنياً واحداً ولا يوجد انقطاع زمني في الحديث إلا أنها تقول في الصفحة التالية “سأكتب عن موتاي الذين لم يفارقوني لحظة عن الذين بلغوا حتى هذه اللحظة 9759”. وإذا عدنا للتأكد من توثيق أعداد الشهداء سنجد حتى نهاية كانون الأول بلغ عدد الشهداء 4895, وحتى نهاية 28 شباط وهو الزمن الذي تنتهي فيه الرواية 7495 شهيداً فمن أين أتى الرقم الذي ذكرته؟.
بيد أن الإشكالية لا تتجلى في ذكر الأرقام الخاطئة وحسب وإنما في إصرارها على توثيق تواريخ خاطئة قد تربك القارئ الذي ينفصل عن الطابع التخييلي المفترض في الرواية ليدقق بتلك التواريخ ولاسيما حين تتكرر, كأن تقول “الذهاب إلى سورية بجواز سفري الجديد الذي استخرجته في الشهر العاشر من السنة الفائتة 2010” بالرغم من أنها تتكلم في شهر شباط 2012, وكأن تتحدث أيضاً عما أخبرها به سائق سيارة الأجرة الكردي “وأنهم يظلمون أكراد سورية حين ينسون أن الربيع السوري بدأ قبل 2010”. لكن الربيع السوري لم يبدأ قبل تاريخ 2011. وكذلك تذكر مدينة مرمريتا وتضع الروائية هامشاً في أسفل الصفحة تنسب فيه مرمريتا إلى محافظة طرطوس إلا أنها تابعة لمحافظة حمص. في حين نلمس المأزق الثاني لهوس التوثيق لدى الروائية بأنه يبعد النص عن الطابع الروائي ويقربه إلى ما يسمى يوميات مكتوبة على فترات متباعدة ثم تم القرار بصوغها روائياً بطابع الحكاية, فغدت أقرب إلى الواقع بتجرده الموثق والذي يحول الشهداء إلى أرقام وحسب, أكثر من اللعبة الفنية المتخيلة المستمدة من الواقع, ولاسيما أن اللغة تستقي مفرداتها من العبارات الدارجة في اللغة العامية “الفايسبوك, صورة بروفايل, ايميلي, ماسينجر”. أما الحوارات فقد جاءت في الفصل الأول باللهجة المحكية, ونحن نعلم أن ثمة خلافات بين الأدباء حول استخدام اللهجة العامية أو اللغة الفصحى في الحوارات الروائية وإن كان معظمهم يميل إلى استخدام الفصحى, بيد أن هناك ملاحظة, غريبة من نوعها, أدرجتها الروائية حول حوار مع عائلتها تقول فيها “اضطررت إلى تحويل الحوار العائلي الجاري بالعامية, إلى الفصحى” فقد يظن القارئ أنه بعد هذا الحوار ستعود الروائية إلى الحوارات العامية إلا أن الأمر يستمر باللغة الفحصى.
وإذا كان الفصل الأول ذا طابع حكائي, والفصل الثاني أقرب إلى التوثيقي, فإن الفصل الثالث المعنون بـ” المثقفون المخمليون” حافلٌ بشهادات سياسية مطولة من المثقفين الذين التقتهم البطلة في رحلتها إلى سورية وخاصة في دمشق. لكن المفارقة تكمن بأن كل من التقته في دمشق هو مثقف بدءاً من والدها الدكتور الجامعي المختص في علم النفس الذي شبهته بأدونيس وأمها المخرجة السينمائية, مروراً بابنة خالها وخالها المعتقل السابق وسائق سيارة الأجرة أيضاً, وانتهاء بعدد كبير من الروائيين والروائيات, حتى إن حبيبها المحامي هو من حمل السلاح. إن هذا الازدحام الثقافي في طيات الرواية يدفع القارئ إلى التساؤل أين الشعب؟
أما كحبكة قصصية فإن البطلة تبدو شخصية لا واقعية بعد أن هجرت البلد وأهلها وانقطعت صلتها بهم لمدة عشرين عاماً، حين تعود إلى بيتها يكون الحوار الأول معهم هو الحوار السياسي، إنها تتعرف على الناس بتلقائية غريبة, تدخل إلى بيوت لا تعرفها وتبدأ معهم حواراً سياسياً حتى مع سائق سيارة الأجرة, ربما لأنها كما تقول دائماً ترى نفسها بمهمة وكأنها “مراسل حربي” لكن يبدو أنها مختصة بالمثقفين لا بالثوار في الشوارع، ولا بالمقاتلين على الجبهات ولا في المدن المحاصرة وإن كانت تتوق إلى الذهاب إلى هناك. ولعلنا قد نجد لها مخرجاً عبر توصيف الشخصية المغتربة التي قد تشعر بالحميمية مع أبناء بلدها, لكن أهل البلد في ذلك العام ما كان لديهم هذه الجرأة في الحديث السياسي العلني مع الغرباء. ومن ثم استعراض هذا الكم الهائل من آراء المثقفين, التي قد نجد الكثير منها على صفحات التواصل الاجتماعي الزرقاء, قد أوقع الروائية في مأزق التكرار فالآراء متشابهة ومتداخلة إلى حد كبير, مما يحاصر القارئ بالملل من جمع هذه الشهادات وإدراجها تحت مسمى رواية. لننتهي بعد ذلك في الفصل الختامي “سقوط الأبد” حول رحلتها إلى حلب التي كانت حافلة بشخصيات فارغة ثقافياً وسياسياً، ومدينة لا علاقة لها بالأحداث, على الرغم من أنها زارت حي سيف الدولة الذي كان يعج بمظاهرات جامع آمنة في تلك الفترة, ربما لذلك نجد إشارات حول ربط الحلبي بجماعة الإخوان ولو كان شيوعياً فهو يحجب بناته أو يرتد إلى الدين بل قد يمول السلاح كما تصف عمها حتى من قابلتهم من المثقفين في حلب ليسوا أبناء هذه المدينة, وقد تناست الروائية أنها تحاول التوثيق في كثير من مفاصل روايتها، لكن يبدو أنّ مصدر معلوماتها لم يسعفها بمعرفة أن أول اعتصام للأطباء، في سوريا، كان في حلب سنة 2011, وأول اعتصام للمحامين كان في حلب أيضاً في الشهر الأول من سنة 2012. إنّ إغفال كلّ ذلك في الرواية قد أجهض حق هذه المدينة في الوعي الثقافي الثوري في متن الرواية.
ومما يثير الاستغراب أنها أوردت في إحدى الحوارات مع زوج ابنة عمها قولاً أدرجت ملاحظة عنه بأنه مقتبس من الكاتب والمترجم السوري بكر صدقي , إلا أن هذا القول قد أنطقته على لسان شخصية وصفتها” كنت أتأمل بكري بإعجاب لم أكن أعرف أي شيء عنه ظننته من أثرياء حلب المتخمين والذين لا هم لهم سوى الاستقرار المالي وليست لديهم مشكلة مع أي نظام”. لكن الكاتب بكر صدقي هو معتقل سابق لمدة طويلة وسياسي محنك ولم يأت قوله كمجرد رأي عن ثقافة عامة بل هي معرفة متراكمة لديه, مما أوقع الروائية بفشل خلق الشخصية. لنعود بعد ذلك في الصفحة التالية إلى عبثية التنسيق التي تشي باستعجال الروائية إذ ذكرت قول بكر مرة أخرى مع توجيه الحديث إلى أدونيس, ولا نعرف ما علاقة أدونيس بهذا الحوار, لكن يبدو أن الروائية نسيت حذف المقبوس الأصلي, المأخوذ من صفحة بكر حيث كان الحديث موجهاً إلى أدونيس, من مخطوطة الكتاب .
تنتهي الرواية بحدث ميلودرامي مبالغ في انفعالاته حيث تخرج البطلة في مظاهرة بالصدفة في الجامعة، جامعة حلب، قبل أن تلتقي حبيبها, تسقط إحدى المتظاهرات شهيدة بنيران النظام, على الرغم من أنه لم يسقط أي شهيد في الجامعة, والشهيد الجامعي الوحيد هو أنس سمو في مظاهرة خارج الجامعة بتاريخ 28-3-2012. لكن الأمر اللافت للانتباه هو الطابع الذي أوردته كإشارة لتوصيف الحلبي حين استشهدت الفتاة بأن أحدهم قال لها “تشاهدي تشاهدي” ليجيبه صديقه بلهجة حلبية ساخرة لا نعرف ما الغاية منها في موقف مؤلم “هي مسيحية يا أجدب” . ومن ثم تسقط البطلة شهيدة في ساحة الجامعة, وحين تغمض عينيها تقرأ عناوين الأخبار عن الرصاص والمظاهرات وخبر رواية “المثقفون والكلاشنكوف” التي تحمل اسم البطلة ريما بكداش الخوري. ولعلنا نزعم أنه كان يجب أن تحتفظ الروائية بهذا الاسم.
خيراً , نأمل أن لا نجافي الصواب بالقول إن الكتابة عن الثورة السورية وعن غيرها من الثورات يحتاج إلى أمرين, أولاً مدة زمنية كافية لهضم الأحداث والحكايات ومعايشتها واقعياً لا عبر نشراتالأخبار وصفحات التواصل, وثانياً التخلص من هاجس التوثيق الشامل على حساب جمالية اللعبة الفنية في بناء الرواية وإلا سيصبح العمل أقرب إلى اليوميات الموثقة منها إلى عمل إبداعي روائي.لكن والحق يقال يحسب للروائية الفضل في إيصال أصوات بعض من الشعب السوري إلى الخارج ليكون توثيقاً عن أن هذه الحرب ليست أهلية كما يروج لها بل كانت ثورة من أجل الكرامة والحريةوالديمقراطية!!
ريم فاضل : ناقدة سورية
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.