راتب شعبو : خمس سنوات من تهميش الثورة السورية
تبين بعد خمس سنوات من اندلاع الثورة السورية أن الوقت لم يعمل لصالح ترميم العيوب التي ظهرت في سياق الثورة بل لصالح مفاقمتها. لم يرمم الزمن تبعثر قوى المعارضة السورية ويدفع باتجاه نشوء مركز معارض ذو ثقل ذاتي مؤثر، بل زاد في التبعثر وفي زيادة التبعية للخارج وانعدام الثقل الذاتي. ولم يرمم الزمن عيوب التشققات الطائفية التي برزت منذ البدايات، بل حولها إلى شروخ وهوّات لن يكون من السهل جسرها. ولم يعمل الزمن على تقريب الكورد من العرب بل زاد في التفاصل والنفور المتبادل ومراكمة وقائع عدائية.
كما لم يرمم الزمن عيوب غياب الوضوح في الخطة السياسية للمعارضة وفي الهدف السياسي للتغيير، بل زاد في انكماشه، مع سيطرة السلاح والإسلاميين، إلى حدود عبارة “إسقاط النظام”. ولم يرمم الزمن تشتت الهوية السياسية للمعارضة السورية، أو قل للقوى التي تواجه النظام السوري، بل زاد في حيرة التحديد السياسي لها، حيرة بين هل هي إسلامية أم علمانية، هل هي جهادية أم معتدلة، هل تعترف بوطن اسمه سورية أم تتعامل معها كإقليم مؤقت أو ككيان عابر، هل تريد إنشاء دولة إسلامية أم دولة ديمقراطية ..الخ.
أيضاً لم يخدم الزمن المرير الذي مضى في تعميق الفهم السياسي لدى عموم السوريين، بل زاد في تسطيحه بالانتقال من غلبة لغة سياسية تهتم بالنظر إلى آليات الحكم التي تنتج وتديم الاستبداد، إلى غلبة لغة طائفية لا تعنيها هذه الآليات، فتعفّ عنها لتركز على طائفة الفاعلين المباشرين فيها.
على خط مواز لاستنزاف قوة النظام العسكرية وظهور ضعفه، كانت تتكرس في الثورة السورية العيوب إلى حد أن الثورة طُردت فعلياً إلى الهامش وبات العالم ينشغل اليوم في البحث عن حل سياسي يقوم على حطامها. وإذا كان بمقدور النظام أن يستدرك ضعفه باستعارة القوة من حلفائه التقليديين (إيران وروسيا) فإن خسارة الثورة هي من النوع الذي لا يمكن تعويضه، ذلك أن تراجع معنى الثورة هذا، كان النتيجة الأكيدة المرافقة لتقدم المعنى الإسلامي الجهادي.
توجد محاجتان دارجتان على الضفة المعارضة للنظام السوري، من المفيد تأملهما في مجرى تأمل عيوبنا التي ساعدت على استمرار نظام القتل والتمييز:
أولاً، (ليس في الإمكان أفضل مما كان): يقول أصحاب هذا المنطق إن من وقف مع النظام وسانده بعد كل جرائمه، كان سيقف مع النظام في كل حال ومهما كان المسار الذي سارت به الثورة، ومن لم يقف مع الثورة منذ البداية لن يقف معها تالياً وسيجد دائماً الذريعة التي تسوغ موقفه. لا شك أن هذا القول يصح على قسم من مؤيدي النظام (مثلاً مجموع المنتفعين أو المتماهين مع النظام طائفياً). غير أن هذا القول التبريري ينصرف في الواقع إلى عكس ما يرمي، إنه ينصرف إلى امتناع الثورة أصلاً وإلى الحكم على المحكومين السوريين بالاستسلام، في الوقت الذي يخال هذا القول نفسه معبراً عن الثورة ومستمداً شرعيته من أحقيتها وضرورتها.
لن تجد مؤيدين كثر لحركة تغيير إذا كان من المعروف سلفاً أنها محكومة بالوصول إلى مثل هذا المأزق، وأنها سوف تقود إلى هذا القدر من الدمار والخراب والموت. يغلق هذا القول التبريري الباب أمام أي محاولة تغيير، كما يغلق الباب أمام أي نقد، لأنه يحيل النقد إلى مضيعة للوقت على اعتبار أن تردد أو رمادية قسم من السوريين، وموالاة قسم آخر منهم للنظام، مردود إلى طبيعة رمادية أو موالية فيهم، مستقلة عن طبيعة المسار الذي اتخذته الثورة وعن كل ما يمكن وصفه بالعيوب فيها. النقد، والحال هذه، ينبغي أن يتوجه إلى هؤلاء السوريين الذين يوالون النظام أو إلى الرماديين الصامتين، على أن يخرج النقد عن طبيعته الخاصة ليتخذ شكل توبيخ المنقودين والتشكيك في إنسانيتهم. الخ. وللتخفيف من ضغط ما يظهر للعيان من عيوب يمكن لها أن تساهم في تفسير تردد الكثير من السوريين في مساندة الثورة وانكفاء الكثيرين عن مساندة الثورة وتمسك الكثيرين بموالاة النظام، يفتح أصحاب هذا المنطق نافذة تصريف اسمها الأخطاء الفردية أو الحالات الجزئية، ليس أكثر.
ثانياً، (غياب الدعم الخارجي هو سبب ضعف العلمانيين): يقول كثير من العلمانيين إن سيطرة الإسلاميين على الثورة السورية لا ينبع من ضعف التطلع الديموقراطي والعلماني لدى الشعب السوري، أو من ضعف التيار الديموقراطي والعلماني في الثورة بل من غياب الدعم السياسي والمالي الذي يذهب كله إلى الفصائل الإسلامية بما في ذلك الفصائل الجهادية. لا شك أن ثمة مصالح مشتركة تجمع التنظيمات الإسلامية السنية بمختلف درجات تطرفها مع دول الخليج ذات الباع الأطول في الدعم. وهذا يساهم في تفسير تنامي سيطرة الإسلاميين على الثورة السورية. غير أن هذا القول المتكرر لا يفسر لماذا تمتلئ الساحة السياسية في سوريا بأحزاب وتنظيمات علمانية وديموقراطية قزمة، تنشأ إلى جوار بعضها البعض وتبقى هامشية ومتنافرة دون أن تنجح في التجمع لتشكل وزناً ديموقراطياً فعلياً، رغم أن ما يجمع هذه التشكيلات السياسية فكرياً وسياسياً أقوى مما يجمع التشكيلات الإسلامية.
كما لا تفسر حجة غياب الدعم، توزع هذه التشكيلات الديموقراطية، فضلاً عن توزع الديموقراطيين الأفراد، على كامل الطيف السياسي من التبعية للنظام السوري إلى التبعية لتشكيلات جهادية تكفّر الديموقراطية، الأمر الذي يحرم السوريين من توفر القطب الديمقراطي. في حين لا نجد هذا التوزع لدى التشكيلات السياسية أو العسكرية الإسلامية. بكلام آخر، قطبا الصراع في سوريا هما النظام والإسلاميين فيما توزع الديموقراطيون السوريون بينهما وفشلوا في تشكيل قطب مستقل.
المفارقة تكمن في أن الشعب السوري انتفض ضد نظام حكم مستبد يقوم على التمييز بحسب الولاء، ومن الطبيعي أن يكون المآل الذي يريده السوريون هو شكل الحكم الديموقراطي القائم على فكرة المواطنة والتساوي أمام القانون وتوسيع دائرة المشاركة السياسية وتداول السلطة، في حين نجد أن ممثلي هذا التيار السياسي الديموقراطي عديمي الوزن في غضون الثورة السورية. لا يكفي الكلام عن غياب الدعم الخارجي، على أهميته، لتفسير ذلك. السؤال هو لماذا تتكاثر التشكيلات السياسية الديموقراطية السورية بدل أن تتوحد رغم تشابه طروحاتها وغاياتها المعلنة إلى حد التطابق؟ ولماذا تعمل هذه التشكيلات على مراعاة ضمنية للتوزيع الطائفي في بنيتها التنظيمية فتغذي بصمت ما ترفع الصوت في رفضه؟ في الأمر علّة داخلية تمنع تبلور الديموقراطيين السوريين كقوة فاعلة مستقلة.
- راتب شعبو : طبيب وكاتب سورى من مواليد 1963. قضى من عمره 16 عامًا متّصلة (1983 – 1999) فى السجون السوريّة، كان آخرها سجنُ تدمر العسكري. صدر له كتاب دنيا الدين الإسلامى الأوّلَ، وله مساهمات فى الترجمة عن الإنكليزيّة.