الأسد نحو المحاكمة الدولية /الترجمة الكاملة لتحقيق”نيويوركر”
بن توب – نيويوركر : كان المحقق قد قام بنفس المشوار مئات المرات. دائماً في نفس الشاحنة البالية وبدون أي بضائع أبداً. كانت الحدود على بعد أربعين ميلاً عبر أحد عشر حاجز تفتيش أمني، حيث يراه الجنود على أنه أحد السكان المحليين. محامٍ تضمنت مظاهر سوء حظه في الحرب، تنقلاً عبر منطقتهم من الطريق. كان يأتيهم أحياناً بالوجبات الخفيفة والمياه، وكان يحرص على شكرهم على حماية المدنيين من أمثاله. عبَّأ الشاحنة لأجل هذه الرحلة بأكثر من مائة ألف وثيقة حكومية سورية، كان قد جرى دفنها في حفر وإخفاؤها في كهوف وبيوت مهجورة.
انطلق مع الغروب. بالنسبة للمقاتلين الذي يحرسون الحاجز كان كأنه خفي. مرت ثلاث مركبات استطلاع أمامه وأكدت إحداها عبر الراديو ما كان المحقق يرجو سماعه. لا نقاط تفتيش جديدة. كالعادة كانت الحدود مغلقة ولكن الجنود من الدولة المجاورة سمحوا بمروره. أخيراً وصل إلى سفارة غربية حيث أوصل البضاعة كي تصل بأمان إلى محامٍ أمريكي يدعى كريس إنجلز Chris Engels. كان إنجلز يتوقع أن تتضمن الأوراق أدلة تربط مسؤولين سوريين كباراً ببشاعات جماعية. بعد تدريب ممارسي العدالة الجنائية في البلقان وأفغانستان وكمبوديا لعقد من الزمن يقود إنجلز اليوم وحدة جرائم النظام في لجنة العدالة والمساءلة الدولية the Commission for International Justice and Accountability، جهة تحقيق مستقلة أُسست في 2012 كرد فعل على الحرب السورية.
قام العاملون مع لجنة العدالة في السنوات الأربع الماضية بتهريب أكثر من ستمائة ألف وثيقة حكومية خارج سورية، الكثير منها من منشآت استخباراتية شديدة السرية. يتم جلب كمية الأوراق إلى مقر للمجموعة في إحدى الدول الغربية، وأحياناً تحت غطاء دبلوماسي. يتم هناك مسح كل ورقة ضوئيّاً وتحديد بار كود ورقم لها وتخزينها تحت الأرض. يطن جهاز مزيل للرطوبة داخل غرفة الأدلة وخارجها مباشرة صندوق صغير به سم فئران.
في الأعلى في غرفة مؤمنة بباب معدني، تغطي الحوائط خرائط لقرى سورية وقوائم بالأدوار التي قام بها متهمين عديدين في الحكومة السورية على لوح أبيض. تملأ أقوال الشهود والوثائق المترجمة عشرات الملفات يتم وضعها داخل خزانة مضادة للحريق مغلقة ليلاً. إنجلز البالغ من العمر واحداً وأربعين عاماً، والأصلع الرياضي صاحب الأسلوب المحدد والمتحفظ يشرف على العملية، ويرفع المحللون والمترجمون تقاريرهم إليه مباشرة.
توج عمل لجنة العدالة مؤخراً بمذكرة قانونية تبلغ أربعمائة صفحة تربط التعذيب والقتل الممنهج لعشرات الآلاف من السوريين بسياسة مكتوبة، وافق عليها الرئيس بشار الأسد، ويتم تنسيقها بين وكالات أمنه الاستخباراتية، ويطبقها عملاء النظام الذين يرفعون تقاريرهم عن نجاح حملتهم إلى رؤسائهم في دمشق. تسرد المذكرة أحداثاً يومية في سورية عبر عيون الأسد وشركائه وضحاياهم، وتقدم سجلّاً للتعذيب المدعوم من الدولة يكاد لا يصدق في مداه وقسوته. لقد حكى الناجون قبل ذلك عن القتل وأعمال التعذيب والاحتجاز غير الإنساني في سورية، ولكن لم يتم تتبع ذلك إلى أوامر موقعة. ستيفن راب Stephen Rapp الذي قاد فرق الادعاء في المحاكم الجنائية الدولية في رواندا وسيراليون قبل أن يخدم لست سنوات كسفير الولايات المتحدة لقضايا جرائم الحرب قال لي إن توثيق لجنة العدالة “أغنى بكثير من أي شيء رأيته وأي شيء قمت بالادعاء فيه في هذا المجال”.
هذه القضية هي أول تحقيق دولي حول جرائم حرب تقوم به وكالة مستقلة مثل لجنة العدالة والمساءلة الدولية والتي تمولها حكومات ولكن بدون ولاية محكمة. مؤسس لجنة العدالة بيل ويلي Bill Wiley وهو محقق كندي في جرائم الحرب عمل مع عدة محاكم دولية بارزة أصابه الإحباط بالخطوط الحمراء الجيو- سياسية التي عادة ما تشكل السعي وراء العدالة. ولأن عملية جمع الأدلة وترتيبها في قضايا هي عملية تنفيذية صرفة فقد توصل إلى منطق أنه من الممكن القيام بها قبل وجود الإرادة السياسية في السير في القضية.
مجلس الأمن في الأمم المتحدة وحده بمقدوره إحالة الأزمة في سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية: في مايو 2014 حجبت روسيا والصين مشروع قرار كان سيعطي المحكمة السلطة القضائية على جرائم الحرب التي ارتكبتها جميع أطراف الصراع. وقد قال لي ويلي مع ذلك إن اللجنة عليها أيضاً أن تحدد عدداً من “الجناة الخطرين الآتين من خدمات الأمن الاستخباراتية” الذين دخلوا إلى أوروبا. “لجنة العدالة ملتزمة بشدة بمساعدة السلطات المحلية في الادعاء”.
لقد أصبح من المستحيل تقريباً حصر القتلى في سورية- توقفت الأمم المتحدة عن المحاولة منذ أكثر من عامين- ولكن مجموعات حقوق الإنسان التي تراقب الأزمة قدرت أن العدد يصل إلى نصف مليون تقريباً بمعدل قتل متصاعد كل عام. لقد أفرغت الحرب البلاد من حوالي خمسة ملايين سوري هاربين إلى الدول المجاورة وأوروبا، مما ينهك إمكانيات حتى تلك البلاد المستعدة لتوفير اللجوء والمساعدة الإنسانية. لعبت الفوضى أيضاً دوراً أساسيّاً في صعود داعش، أكثر الجماعات الجهادية دموية والتي استخدمت سورية كقاعدة لتوسيع مدى الإرهاب.
في الخريف الماضي دعاني ويلي لفحص حالة لجنة العدالة في مقرها بشرط ألا أكشف موقع المكتب والحكومات التي تساعد في استخلاص الوثائق وأسماء العاملين باستثناءات قليلة.
التمرد
في ديسمبر 2010 قام بائع فاكهة في الريف التونسي، وقد ضجر من حياة مليئة بالتحرش والابتزاز من مسؤولي الحكومة المرتشين، بإغراق نفسه بالجازولين وضرب عود ثقاب مشعلاً الربيع العربي. قام مئات الآلاف من المواطنين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضد تشكيلة من المتسلطين والملوك. طالبوا بإصلاحات ديموقراطية وفرص اقتصادية ونهاية للفساد عاكسين سخط بائع الفاكهة ويأسه. في نهاية يناير 2011 قال بشار الأسد لوول ستريت جورنال Wall Street Journal “ما ترونه في المنطقة هو نوع من المرض”. بقيت سورية مستقلة وهو ما أرجعه الأسد لانتباهه إلى “معتقدات الناس” وأضاف “تلك قضية محورية. عندما يكون هناك انفصال بين سياستك ومعتقدات الناس ومصالحهم، سيكون لديك ذلك الفراغ الذي يخلق الاضطراب”.
كانت ثقة الأسد متجذرة بالفعل في فاعلية أذرع الأمن الاستخباراتي السورية والتي أبقته وعائلته في السلطة منذ 1971. المتسلطون الآخرون في المنطقة وضعوا ثقة مماثلة في قوات أمنهم. ثم سقطت الديكتاتورية في مصر، وصوت مجلس الأمن لإحالة الموقف في ليبيا حيث حكم معمر القذافي منذ اثنين وأربعين عاماً، إلى المحكمة الجنائية الدولية. في مارس شنت قوات الناتو حملة لقصف ليبيا. في سورية بدأ الناس في مطالبة الحكومة بتنازلات- على استحياء في البداية. لقد قضت البلاد ثمانية وأربعين عاماً تحت قانون الطوارئ ولم تكن فكرة المظاهرات العامة مألوفة وقد قوبلت الاحتجاجات بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص، ولكنها سريعاً ما جذبت عشرات الآلاف من الأشخاص.
في 30 مارس 2011 خاطب الأسد الأمة من الغرفة الدائرية في مبنى البرلمان السوري. كان قد صرف وزارته وتوقع العديد من الناس أن يعلن عن إصلاحات ليبرالية. بدلاً من ذلك أعلن نيته في الانقضاض على المعارضة، على نهج والده حافظ الأسد “سورية تواجه مؤامرة كبيرة تمتد أذرعها” إلى قوى خارجية تخطط لتدمير البلاد. وقال: “لا توجد نظرية مؤامرة”. وأضاف: “هناك مؤامرة”. وأنهى كلامه بتوجيهات منذرة “إن دفن التحريض على العصيان واجب وطني وأخلاقي وديني، وكل من يستطيع المساهمة في دفنه ولا يفعل هو جزء منه” وأكد: “لا توجد تسوية أو طريق وسطي في ذلك”.
بعد يومين كبرت الاحتجاجات حول البلاد. كان الأسد قد كون بالفعل لجنة أمن سرية تُسمى الخلية المركزية السورية لإدارة الأزمة لتنسيق الهجمة. كان رئيسها محمد سعيد بخيتان أكبر مسؤول في حزب البعث الحاكم بعد الأسد، وكان الأعضاء الآخرون جميعاً مقربين من قبيلة الأسد. وكان يتم تدوير مناصب هؤلاء المسؤولين بين المناصب الأكبر في القوات المسلحة والوزارات وأذرعة الأمن الاستخباراتي.
كانت خلية الأزمة تلتقي كل ليلة في مكتب باهت في الدور الأول من القيادة الإقليمية لحزب البعث في وسط دمشق لمناقشة إستراتيجيات لسحق التمرد. وكان ذلك يتطلب معلومات مفصلة عن كل احتجاج، لذا كان يلزم الخلية تقارير من اللجان الأمنية والعملاء الاستخباراتيين في أكثر المقاطعات تمرداً. قررت المجموعة توظيف شخص يقوم بكل العمل الكتابي.
كان أحد المتقدمين عبد المجيد بركات البالغ من العمر أربعة وعشرين عاماً، وصاحب الشعر المصفف بعناية للخلف. كان بركات قد أنهى لتوه درجة الماجستير في العلاقات الدولية وكان يعمل في وزارة التعليم. عن مقابلته في أبريل فحص مسؤول كبير يدعى صلاح الدين النعيمي سيرته المهنية وسأله إن كان قادراً على استخدام الكمبيوتر. ثم سأله النعيمي كيف سيحل الأزمة التي تطورت. رد بركات إنه لتفادي رد فعل عسكري يجب على الحكومة أن تقدم بعض التنازلات وتقوم بإصلاحات حديثة.
فوجئ بركات أنه قد تم توظيفه. في الكلية استجوبه عملاء المخابرات الحربية حول شكوك أنه وزملاءه متورطون في أنشطة سياسية مضادة للحكومة. كان قد انضم في وقت مبكر من الاضطرابات إلى إحدى أولى الجهات الثورية المنظمة. والآن في هرولة خلية الأزمة لجعل نفسها أكثر فاعلية، قامت بتوظيف عضو في المعارضة ليقوم بتسيير مذكرات أمنية سرية من جميع أنحاء البلاد. في أغلب الأيام كان يصل إلى مكتب بركات أكثر من مائة وخمسين صفحة تصنف دقائق التهديدات المتصورة لحكم الأسد — جرافيتي، منشورات الفيسبوك، واحتجاجات — وأخيراً تهديدات فعلية مثل وجود مجموعات مسلحة. قرأ بركات كل شيء وكتب ملخصات أوصلها النعيمي إلى أعضاء خلية الأزمة لتوجيه كل اجتماع.
لم يسمح لبركات أبداً بدخول غرفة الاجتماعات، ولكنه رأى الأعضاء يدخلون إليها واحتفظ النعيمي بمحاضر مفصلة على أوراق تحمل شعار حزب البعث. وتضمن ضيوف المجموعة أحياناً مسؤولين بعثيين كباراً ونائب الرئيس السوري وشقيق الرئيس الأسد الأصغر، ماهر وهو قائد عسكري عصبي وصفه الاتحاد الأوروبي في قائمة العقوبات بأنه “المشرف الرئيسي على العنف ضد المتظاهرين”.
في نهاية كل اجتماع كانت خلية الأزمة تتفق على خطة لكل مسألة أمنية. ثم كان الرئيس بخيتان يوقع على محضر الاجتماع ويحمله مراسل إلى الأسد في القصر الرئاسي. وعلم بركات أن الأسد يراجع الاقتراحات ويوقعها ويعيدها إلى خلية الأزمة للتطبيق. أحياناً كان يجري مراجعات بشطب توجيهات وإضافة أخرى. كما أصدر قرارات بدون مراجعة خلية الأزمة. كان بركات واثقاً أن أي قرار أمني مهما كان صغيراً، لا يتم بدون موافقة الأسد.
وبعد بداية عمل بركات في خلية الأزمة بفترة قصيرة بدأ في تسريب وثائق. ومع أن النظام كان قد ادعى علناً أنه سيسمح بالمظاهرات السلمية، إلا أن المذكرات الأمنية أوضحت أن عملاء المخابرات كانوا يستهدفون المحتجين ونشطاء الإعلام ويطلقون النار عليهم بلا تمييز. صور بركات الوثائق في الحمام وأرسل الصور إلى صلاته في المعارضة السورية الذين حولوها إلى مؤسسات إعلامية عربية. كانت خطته أن يسرق أكبر قدر ممكن من المعلومات ثم يهرب. ولكن التسريبات زادت من الشكوك داخل المكتب وكان يعرف أنه عاجلاً أم آجلاً سيكتشف النظام أنه هو الواشي.
المحققون
في أحد أيام أكتوبر 2011 وبينما كان بيل ويلي يزورمواطنا ليبيّاً منفيّاً في النيجر تلقى مكالمة من صديق ينقل له طلباً من الحكومة البريطانية: بينما تتصاعد الأزمة السورية سريعاً إلى حرب أهلية، فهي تبحث عن شخص يدرب النشطاء على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان. قال ويلي للمتصل إن العديد من المجموعات تقوم بالفعل بتوثيق الانتهاكات. ولكن كان لديه عرض مقابل: كان بإمكانه تدريب السوريين على جمع النوع من الأدلة الذي سيخدم الادعاء بشكل أفضل، متعقبين المسؤولية الجنائية إلى أعلى مكان تصل إليه. كان ذلك توجهاً جديداً — بدلاً من رفع الوعي بالجرائم، كان ينوي إثباتها على أطراف من الدولة سواء أقر المجتمع الدولي التحقيق أم لا. وافقت الحكومة البريطانية.
كانت مسيرة ويلي المهنية قد تقاطعت مع إعادة إحياء مجال القانون الجنائي الدولي. لم تكن هناك تحقيقات دولية كبرى منذ محاكمات نورمبرج وطوكيو حتى الأعمال الوحشية في البلقان في التسعينيات والتي أدت إلى محكمة يوغوسلافيا. ويلي والذي كان قد نال درجة الدكتوراه في القانون الجنائي الدولي من جامعة يورك York University وهو يخدم في الجيش الكندي — كتب رسالته حول جرائم الحرب وتقييم القانون الإنساني الدولي — أصبح محللاً في المحكمة. عام 2002 سافر إلى كيجالي للتحقيق في جرائم الحرب في رواندا وفي العام التالي انتقل إلى المنطقة الشرقية لجمهورية الكونغو الديموقراطية حيث كان أول محقق توكله المحكمة الجنائية الدولية.
ويلي الذي يعتبر نفسه “رجل حقل وليس رجل مكتب” طويل بشعر أحمر يميل إلى الشقار ويتعامل مع القدر الكبير من الضغط في مهنته باستخدام السيجار الكوبي والكوميديا السوداء وممارسة الرياضة. (يرفع في عمر اثنين وخمسين عاماً ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين رطلاً من الحديد مستلقياً على ظهره). وقد توصل إلى اعتقاد أن نظام المحاكمة الدولية كثيراً ما يصيبه “عدم كفاءة” الإدارة العليا. منذ إطلاقها عام 2002 فتحت المحكمة الجنائية الدولية تسعة تحقيقات فقط، وأنفقت أكثر من مليار دولار، وأمنت إدانات ضد ثلاثة رجال فقط: اثنان من أمراء الحرب وسياسي سابق جميعهم في الكونغو. بعد عامين في العمل لدى المحكمة الجنائية الدولية تقدم ويلي ليصبح مراقب حقوق إنسان لصالح الأمم المتحدة في العراق.
يوم 19 أكتوبر 2005 وبينما يجلس ويلي في هنجر في قاعدة جوية في عمَّان بالأردن منتظراً نقله إلى بغداد، ظهر على التلفزيون صدام حسين في مناقشة حادة مع القاضي، وهو يصر على أنه لا يزال رئيس العراق. كان ذلك أول يوم في محاكمة الديكتاتور السابق “لم أعر الأمر أي اهتمام مطلقاً” كما يتذكر ويلي. كان التحالف الدولي قد أنشأ محكمة خاصة يعمل بها قضاة وممثلو ادعاء عراقيون للقيام بالإجراءات القانونية المتسقة مع المعايير الدولية. ولكن الحكومة العراقية استبدلت القضاة الذين رأت أنهم يبدون متعاطفين مع الدفاع وبعد أيام من ظهور محامي صدام حسين في نشرات الأخبار تم اغتيال اثنين منهم.
في بداية 2006 وظف التحالف ويلي ليقدم استشارات لمحامي صدام الذين كان دفعهم الأساسي أن المحكمة نفسها غير قانونية، وقاموا بشكل دوري بمقاطعة الإجراءات، مغادرين العراق ومتابعين الجلسات على التلفزيون. بالنسبة لويلي لم تكن المحاكمة عن “صدام في حد ذاته” ولكن “عن إرسال إشارات لمجتمع متأثر بالصراع أنه بداية من ذلك الوقت ستحكم هذه الأمة على أساس من القانون” وقد حث المحامين على العودة إلى العراق والدفاع عن موكلهم.
في النهاية عاد محامو صدام حسين إلى المحكمة، ولكن قبل نهاية الجلسات بوقت قصير تم اختطاف محامٍ ثالث، وفي اليوم التالي وجدت جثته مشوهة. ألقى الأعضاء المتبقون من الفريق باللوم على الحكومة العراقية ولم يظهروا لإلقاء المرافعة النهائية. صاغ ويلي دفاع صدام وقرأه محامٍ عراقي عينته المحكمة. اعترض صدام “لقد كتب المرافعة النهائية كندي. أنا أعرف أنه جاسوس”. كان من الواضح أن المحكمة ستدين صدام، ولكن كان ويلي ناقش أن حياته يجب ألا تهدر. بدلاً من ذلك وبعد سبعة أسابيع في قاعدة عسكرية تسمى معسكر العدالة تم شنق صدام حسين، بينما يقوم حراس شيعة بالاستهزاء به. تم إيصال جثمانه إلى منزل رئيس الوزراء من أجل حفلة عرض.
بقي ويلي في بغداد عامين آخرين قام خلالهما بملء مذكرات دفاع لأعضاء سابقين في نظام صدام. وقد قال لي أحد مسؤولي العدالة الأمريكيين إن مجهودات ويلي لجلب الإجراءات الواجبة إلى المحكمة “بطولية”. عندما غادر ويلي العراق عام 2008 أنشأ مكتب استشارات خاصّاً اسمه تساموتا Tsamota، يساعد الحكومات الغربية ووكالات الأمم المتحدة في منع جرائم الحرب في الدول المضطربة، بتدريب الشرطة بالإضافة إلى أعضاء في القوات المسلحة والأمن والخدمات الاستخباراتية على التصرف بشكل مطابق للقانون الدولي.
في نوفمبر 2011 سافر ويلي إلى إسطنبول مع اثنين من زملائه في تساموتا لتدريب السوريين على جمع الأدلة التي ستكون مفيدة للادعاء. كان مستشار أمني يعرفه قد اختار بعض النشطاء السوريين الشباب والمحامين الذين تمت دعوتهم لترشيح أصدقاء موثوق بهم. انبهر ويلي بشجاعتهم، ولكنه كان يعتقد أن أساليبهم غير فعالة. “كانوا يميلون في تلك الأيام إلى التجول بكاميرات فوتوغرافية وكاميرات فيديو وهواتف ذكية ليصوروا هجمات النظام على المناطق الحضرية ثم يضعون مادتهم على اليوتيوب” كما قال لي. “من أوائل ما فعلناه هو أننا شرحنا لهم أن هذا يكاد يكون بلا قيمة كدليل جنائي” بلا إثبات “إنكم تخوضون مخاطرات كبيرة – وبالفعل كان العديد من الشباب يقتلون أو يصابون وهم ينتجون فيديوهات أو صوراً- بلا جدوى”. على سبيل المثال فإن تصوير قصف جوي لمستشفى على سبيل المثال لا يوفر أي دليل على أن الهجمة كانت مخططة من قبل المسؤولين الكبار الذين يثيرون اهتمام نظام العدالة الدولي. يقول ويلي: “يحتاج الشخص أن يثبت عليهم مسؤولية جنائية فردية”.
بحلول ذلك الوقت كانت الآلاف من القوات الحكومية قد هربت من الخدمة وانضمت إلى الكتائب الرثة المكونة من الفلاحين المحليين والعمال البسطاء. بعض المقاتلين صنعوا متفجراتهم بأنفسهم وأطلقوا قذائف من مقاليع عملاقة. قصفت القوات السورية المساحات الضئيلة التي كان هؤلاء المتمردون يسيطرون عليها. كان العديد من النشطاء الذين يحضرون جلسات التدريب في إسطنبول يعيشون في مناطق محاصرة. علمهم ويلي وزملاؤهم كيف يلتقطون الصور ويقدرون حجم صناديق ذخيرة المدافع وزوايا الصدمات، ويجمعون الشظايا لتحديد نوع السلاح المستخدم وحساب نقطة الانطلاق. ولكنه قال: “الشيء الأكبر الذي أردنا أن يركزوا عليه هو التوثيق الناتج عن الحكومة” والذي أسماه “ملك أو ملكة الأدلة في الإجراءات الجنائية الدولية”.
بعد جلسات التدريب القليلة الأولى دعا ويلي ستيفن راب الذي كان في ذلك الوقت السفير الأمريكي لشؤون جرائم الحرب، للتحدث مع السوريين الذين كان عددهم قد وصل إلى بضعة عشرات. كان الرجلان قد التقيا قبل عقد من الزمن بينما كانا يعملان في محكمة رواندا، ناقش ويلي وراب وهما يحتسيان المشروبات في إسطنبول إمكانيات إنشاء مركز توضع به الوثائق التي يتم الاستحواذ عليها والتي يمكن أن تستخدم في يوم من الأيام في تلك المحاكمات. كانت الأمم المتحدة قد أطلقت لجنة للمساءلة والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في سورية، ولكن سلطتها لم تمتد إلى الادعاء وبدلاً من التعامل مع الوثائق فإن الأمم المتحدة اعتمدت في الأغلب على مقابلات مع شهود أجريت في معسكرات اللاجئين وعبر السكايب. قال لي راب “أغلب الأدلة التي جمعوها لن تكون متاحة للادعاء”، لأن الأمم المتحدة عاهدت الشهود على السرية غير محددة المدى والمحاكمات علنية.
عندما عاد النشطاء والمحامون — هم الآن محققون — إلى سورية صاغ ويلي خطة لإنشاء لجنة العدالة والمساءلة الدولية ووضع ميزانية. ومع أن بريطانيا استمرت في دعمها إلا أنه قد ثبت أنه من الصعب العثور على متبرعين آخرين. تخصص الحكومات الغربية مئات الملايين من الدولارات سنويّاً لمشاريع حقوق الإنسان، ولكن ويلي قال لي إن ردهم المعتاد كان “ما تعرض فعله هو شيء تفعله الحكومات أو تفعله الأمم المتحدة وتفعله المحكمة الجنائية الدولية”. في النهاية استطاعت لجنة العدالة والمساءلة الدولية بمساندة من راب أن تؤمن ثلاثة ملايين يورو من الاتحاد الأوروبي. لاحقاً تعهدت ألمانيا وسويسرا والنرويج والدنمارك وكندا بتمويل مستمر.
الإمساك بالوثائق
كانت الحرب تجري بشكل سيئ بالنسبة للأسد. في 2012 ارتفع عدد الهاربين من القوات المسلحة ومن الوزارات المدنية بشكل دراماتيكي. انضم الهاربون إلى الجيش السوري الحر وهي منظمة فضفاضة من المجموعات المتمردة عبر البلاد. تحدثوا عن تحويل سورية إلى ديموقراطية، ولكن الجهاديين المتطرفين بدأوا في الظهور على أرض المعركة أيضاً، وأثبتوا بشكل عام أنهم أكثر قدرة في القتال. استولى عدد من المتمردين على ممرات رئيسية إلى داخل تركيا ودفعوا القوات الحكومية خارج جزء كبير من شمال سورية بما في ذلك أجزاء من إدلب وحلب، أكبر مدينة سورية.
بحلول فبراير من نفس العام كان رئيس الخلية المركزية السورية لإدارة الأزمة قد استجوب بركات بالفعل حول التسريبات. قال موظف آخر في خلية الأزمة لبركات إن سكرتيرته تتجسس عليه. قرر بركات الهروب من البلاد ولكن ليس قبل تأمين الحصول على محاضر الاجتماعات التي كانت تحفظ مؤمنة في مكاتب الأعضاء. كما خطط أيضاً لسرقة المراسلات بين خلية الأزمة ومكتب الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الداخلية. في يوم عطلة قام بركات بنهب المكاتب وأخذ أكبر عدد استطاع الحصول عليه من الوثائق قبل الانتقال عبر مسافة تقدر بمائتين وخمسين ميلاً شمال دمشق إلى الحدود التركية.
كانت القوات السورية تسيطر على نقطة المرور، ولكن بركات استطاع التسلل عبر النقطة بأكثر من ألف صفحة ملصقة بجسمه وحجز غرفة في فندق باسم مستعار قبل أن يلاحظ أي شخص في دمشق أنه قد رحل. في الشهر التالي وبعد مغادرة والدته سورية قال لمحطة تلفزيون الجزيرة أنه أرد أن تصل الوثائق إلى المحكمة الجنائية الدولية.
بعد هروب بركات بوقت قصير نقلت خلية الأزمة اجتماعاتها من قيادة حزب البعث الإقليمية إلى مقر مكتب الأمن الوطني شديد الحراسة. في يوليو ووسط شائعات عن ترقب انقلاب، دوى انفجار داخل غرفة الاجتماعات متسبباً في مقتل رئيس خلية الأزمة ورئيس مكتب الأمن الوطني ووزير الدفاع وزوج شقيقة الأسد آصف شوكت الذي كان قد تولى مؤخراً منصب نائب وزير الدفاع. (تبنت مجموعتان متمردتان على الأقل مسؤولية الهجوم ولكنهم طرحوا سرداً غير مطابق بشكل كبير للأمور اللوجستية للأمر). في اليوم التالي حملت التايمز Times عنواناً رئيسيّاً يقول: “واشنطون تبدأ التخطيط لسقوط الحكومة السورية” ثم هرب رئيس وزراء الأسد إلى المعارضة. كما فعل المتحدث الرئيسي باسم وزارة الخارجية نفس الشيء. حتى الجنرال الأكبر المسؤول عن منع الهروب اتهم القوات المسلحة “بالقيام بمذابح ضد شعبنا المدني البريء” وأعلن “أنا أنضم إلى ثورة الشعب”.
أقام المحققون السوريون في لجنة العدالة تحالفات مع كتائب محورية في الجيش السوري الحر بينما كانوا يكسبون أرضاً. لم يكن لدى الثوار في البداية “اهتمام بالتوثيق” كما شرح ويلي. “كانوا يدخلون ويستولون على منشأة تابعة للنظام. تظهر الهواتف الذكية. يكون هناك الكثير من الفرح والصياح وإطلاق الأعيرة في الهواء. يقومون بنهب المكان باحثين عن أسلحة وذخيرة لأنها كانت ما يحتاجونه ثم يضرمون النيران في المكان”. كل الأدلة المحتملة يتم تدميرها.
يقول ويلي إن لجنة العدالة قالت للثوار: “استولوا على الوثائق أولاً، ثم نحوها جانباً حتى يمكن إخراجها من البلاد. واحتفظوا بملاحظات — ملاحظات بسيطة جدّاً — عن من أين تم الحصول على الوثائق وفي أي تاريخ. احفظوها في صناديق. اقفلوا الصناديق بأفضل شكل تستطيعونه بمغلف بلاستك أو شيء شبيه — أي شي متاح. ثم مع انتقال المواد، احتفظوا بجدول لتلك الحركة. ولكن لا تعبثوا بتلك المواد أوتقلبوها” لأنه في المحكمة بإمكان محامي الدفاع أن يقول “إنكم تجاهلتم أدلة نفي عن عمد”.
كثيراً ما كان المحققون السوريون يصحبون الثوار المعتدلين بينما يهاجمون مباني الأمن الاستخباراتي ولكن القوات الحكومية حاولت تدمير أي ملفات لم يستطيعوا أخذها معهم. في الأيام التالية للانسحاب “يكون هناك قصف بلا هوادة” لمواقع محورية كما قال لي المحقق الرئيسي في لجنة العدالة. تنفجر مواسير المياه مدمرة مئات الآلاف من الصفحات قبل أن يتمكن هو وزملاؤه من الدخول. أحياناً تتصل بهم مجموعات مسلحة بغرض أن يأتوا ويجمعوا الملفات بعد انتهاء تبادل إطلاق النار. قال لي ويلي: “تسلسل الحيازة مهم، ولكنه لا يفسد الأموركليا.. لقد قتل وأصيب أشخاص خلال نقل تلك الأشياء”.
أول الضحايا كان مرسال (الذي يتولى مهمة تهريب الوثائق) تم إطلاق النار عليه وإصابته في 2012 بينما كان يجري نحو طريق تهريب خارج سورية بحقيبة ملابس ممتلئة بالوثائق. منذ ذلك الوقت أصيب اثنان آخران خلال إخراج (الوثائق) وأحدهما — شقيق نائب رئيس محققي اللجنة — قتل في فخ نصبته القوات السورية. في 2012 أيضاً وصل مرسال وزوجته إلى نقطة تفتيش غير متوقعة خارج حلب. كان يقوم عليها مقاتلون منتمون لجبهة النصرة وهي مجموعة جهادية تبين لاحقاً أنها الفرع السوري من القاعدة. وجد المقاتلون وثائق المرسال في خلفية السيارة. تركوا زوجته تذهب ولكنهم احتجزوه. قال لي ويلي: “هددوا بأن يحاكموه ويعدموه كجاسوس للنظام… تمكن من الوصول إلى صفقة حيث تمت إدانته بشيء ما في المحكمة الشرعية وكانت الغرامة خمسة آلاف دولار فقام بدفع الغرامة”.
قامت الجماعات الجهادية باختطاف خمسة أو ستة محققين ولكن أُطلق سراحهم جميعاً. ويشكل الإسلاميون الراديكاليون خطراً مساوياً لخطر النظام. تنظر تلك المجموعات للارتباط بالغرب ومفهوم العدالة الدولية الذي كثيراً ما يكون غير مألوف لهم بشك عميق. ومع ذلك فكثيراً ما جعل المحققين مهمتهم معروفة للمتمردين والجهاديين في سعيهم للوثائق. قال لي ويلي “أفرادنا مدربون جيداً في ما يفعلونه إذا تم الإمساك بهم… الأدوات التي بحوزتهم مشفرة ومعقدة بشكل كافٍ لدرجة أن أي شخص يفحصها لن يجد بها أي أدلة عن العمل الذي يقومون به”. محقق واحد فقط، تم إلقاء القبض عليه قبل عامين، يحتجزه النظام السوري حاليّاً.
نقل الوثائق إلى الحدود الدولية هو أخطر الخطوات على الإطلاق في عمل لجنة العدالة. الأوراق ثقيلة وتدين المرسال ولكن الصور، مع أنها أكثر قابلية للحمل إلا أنه من الصعب التأكد من صحتها في المحكمة. عادة تصل حزم يبلغ وزنها 50 رطلاً “في طيف مربك من حقائب السفر الرديئة” التي يتم تهريبها عبر الحدود. قال لي ويلي إنه بينما تتطلب الحمولة الضخمة تخطيطاً أكثر دقة “فكر في صناديق الأوراق التي تقبع بجوار ماكينة التصوير” كما يفسر “في ذلك الصندوق خمس رزم من الأوراق بكل منها خمسمائة ورقة فقط” يزن إجماليها عشرين رطلاً. “وذلك ألفان وخمسمائة ورقة فقط. لقد استخلصنا من سورية ما يقارب ستمائة ألف ورقة”- عدة أطنان. “لذا نحتاج إلى سيارات. وتلك السيارات تحتاج أن تعبر نقاط التفتيش. تحتاج أن تجري استطلاعاً. تحتاج أن تعرف أي نوع من نقاط التفتيش سيصادفك” تدفع اللجنة لمجموعات الثوار والمراسيل من أجل الدعم اللوجيستي. يقول “نحرق مبالغ باهظة في نقل تلك الأشياء”.
إخراج كميات كبيرة يعتمد عادة على أن تفاوض الدول الصديقة من أجل فتح الحدود التي تكون مغلقة، لذا قد تبقى الوثائق مخبأة لشهور. في إحدى الحالات تركت عدة آلاف من الصفحات من الأدلة مع سيدة عجوز في بيت ريفي معزول في جنوب سورية ولكن المحققين لم يشرحوا أهمية الملفات. قال ويلي إنه عندما أتى الشتاء “للحق كانت تشعر بالبرد فأحرقت المجموعة كاملة كوقود”. قال لي المحقق الرئيسي للجنة وهو سوري إنه في الأماكن المعادية بشكل استثنائي يخفي هو ورفاقه الوثائق في كهوف أو يدفنونها في الأرض، ويسجلون الموقع ويأملون أن يستعيدوها بعد شهور أو سنوات من ذلك الوقت — عندما يتوقف القتل. يقول ويلي، “لا يزال لدينا في سورية كميات كبيرة من المواد لن ننقلها” لأن ذلك خطير جدّاً “ربما نصف مليون صفحة”.
وبينما يجمع السوريون وثائق يوظف ويلي محللين عسكريين وسياسيين ومحققين ومترجمين ومحامين في أوروبا. بحلول 2015 تضخمت ميزانية لجنة العدالة إلى ثمانية ملايين دولار سنويّاً وبلغ موظفوها حوالي مائة وخمسين بما في ذلك الموظفون في المقر الرئيسي وفي مكتب تحليل أفلام الفيديو في مكان ما من أوروبا بالإضافة إلى المحققين في الشرق الأوسط. توظف اللجنة عدداً من المحققين مساوياً لمن يعملون على كل قضايا المحكمة الجنائية الدولية مجتمعين.
تأتي العديد من الوثائق من منشآت أمن استخباراتي بعيدة عن العاصمة. وتشير تلك الصفحات عادة إلى قرارات اتخذتها الخلية المركزية السورية لإدارة الأزمة، ولكنها لم تكن ثمينة بنفس قدر الملاحظات التي أتت من داخل تلك الاجتماعات. لا تعرف لجنة العدالة الشهود علناً، ولكن بركات الذي يعيش في إسطنبول اليوم قال لي إنه في 2014 زاره كريس إنجلز ومحلل لفحص وثائقه من خلية الأزمة وقال: “قضيا ثلاثة أيام هنا يسألانني بالتفاصيل الدقيقة عن العمل الذي قمت به، تفاصيل عن سير الاجتماعات”. كما قاما بتصوير الأوراق المهربة ووعدهما بركات بتقديم الأصول إذا وصلت القضية للمحكمة.
بينما أتحدث مع بركات عبر الفيديو، رفع كومة من الملفات التي تبقى عادة في منشأة مؤمنة. قال: “هذه هي محاضر اجتماعات الخلية المركزية السورية لإدارة الأزمة”، وقام بسحب صفحة وأشار إلى شعار غائر في الأعلى. “كما ترى — هذا الصقر الذهبي الصغير؟ تلك هي الوثائق الأصلية، وهي موقعة بالأخضر”. بدأت لجنة العدالة في التقليب في ملفات بركات محللة الصلة بين قرارات خلية الأزمة والسلوك الإجرامي لعملاء الأمن في المقاطعات البعيدة.
تم تسهيل مهمة تعقب عملاء النظام السابق المستعدين لشرح أدوارهم في النظام بسبب حقيقة أن الكثير منهم قد هربوا من الحكومة. وجد محللون عاملون مع لجنة العدالة هاربين أثرياء في دول الخليج وتركيا وأوروبا. كما حصلوا على شهادات من شهود عيان في جنوب تركيا في معسكر مشدد الحراسة للاجئين يسمى أبايدين ويسكنه حصريّاً مسؤولو النظام السابق وعائلاتهم. (لم يتم إدراج أي منهم كمشتبه بهم في القضية والتي تركز على المسؤولين في مناصب أعلى).
قال ويلي عن الشهود: “إذا كان لي أن أستخدم تشبيهاً بارداً — فإنهم (العشرة بقرش)”. فضلت لجنة العدالة أن تقابل الضحايا الذين بقوا في سوريا ولم يتحدثوا أبداً مع صحفيين أو مجموعات حقوق إنسان أو لجنة التحقيق الدولية المستقلة (قد يقترح محامي الدفاع أنه داخل مخيمات اللاجئين المكتظة قد تقترب الشهادات بشكل غير عادل). لذا فقد أجرى المحققون السوريون مقابلات مع ما يقرب من مائتين وخمسين ضحية في عدة مقاطعات لتأمين “أدلة على نمط” تظهر أنه قد تم ارتكاب الجرائم بشكل ممنهج بما يتسق مع الأدلة الواردة في الوثائق. كان الهدف هو إيجاد صلات قوية بين سياسات الحكومة السورية وتأثيرها على الأفراد عبر وثائق النظام وشهادات الشهود والضحايا.
الناشط
بعد ظهيرة أحد أيام هذا الشتاء وفي غرفة فندق بجوار أمستردام، التقيت ناشطاً سوريّاً هزيلاً يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاماً ويدعى مازن الحمادة. تقدم قصة الحمادة، وهو ليس شاهداً للجنة العدالة )هؤلاء ستبقى هويتهم سرّاً إلا إذا تم استدعاؤهم للشهادة( فرصة لتعقب الأثر المحدد لسياسات النظام السوري على المواطنين التي كانت تحاول باستماتة إسكاتهم.
ولد الحمادة في 1977 وهو الأصغر بين سبعة عشر طفلاً في عائلة متعلمة من الطبقة الوسطى في مدينة ديرالزور الشرقية. أصبح إخوته صيادلة ومدرسين ومحامين، بينما أصبح هو أخصائي ميداني في شركة شلمبرجيه، شركة خدمات البترول الدولية والتي لديها قاعدة عمليات في حقول البترول الغنية حول ديرالزور. كان أعضاء عائلة الحمادة ينتقدون النظام وكان يتم تعقبهم واعتقالهم بشكل دوري حتى قبل الثورة. كانوا غاضبين بشكل خاص بسبب فشل الحكومة في فعل أي شيء بخصوص الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء. قال لي الحمادة “كان كل شيء مرتباً لاستفادة الصفوة”. في 2011 قام رئيس مكتب الأمن الوطني بكتابة مذكرة سرية لرئيس خلية الأزمة مرجعاً بها قلة الوطنية في ديرالزور إلى “النظام القضائي الفاسد والتأخر الطويل في الفصل في القضايا والمحسوبية واللجوء إلى الرشوة لاستعادة الحقوق”.
كانت وكالات الأمن الاستخباراتي في المنطقة موالية للأسد. بداية من أول إشارات الاضطراب في فبراير 2011 أرسل قائد فرع ديرالزور في المخابرات العسكرية اللواء جامع جامع تعليمات لجميع من هم تحت إدارته أن “يحضروا الكاميرات… لتصوير المشاركين والمحرضين كي يتم تحديد هويتهم وتحميلهم المسؤولية في المستقبل” (لاحقاً استعاد محققو لجنة العدالة هذا الأمر من ضمن أوامر أخرى متصلة بالهجمة من مقر المخابرات الحربية في ديرالزور بعد أن تم هجره).
يوم 4 فبراير وقع رئيس مكتب الأمن الوطني في دمشق على أوامر “بالتحقيق حول والبحث عن والقبض على” أيّاً كان من كتب “يسقط بشار” على ماسورة قطرها عشر بوصات، عبر جزء مبهم من الطريق السريع بالقرب من ديرالزور. أمضى رئيس الأمن السياسي للمقاطعة شهراً في التحقيق حول الواقعة ثم أجاب “لم يكن لدينا أي معلومات عن الفاعلين”.
يوم 18 مارس كانت هناك مبارة لكرة القدم في ديرالزور بين الفريق المحلي، الفتوة وفريق تشرين من اللاذقية والذي يفضله الأسد. كان الحمادة يعيش بجوار الاستاد وكان يستطيع سماع صوت الجمهور “بدأ الناس في الجمهور يهتفون من أجل الإصلاح وضد النظام” ويتذكر أن فريق الأسد قد فاز. كان الجمهور غاضباً ولكن الحمادة ضحك. كان يتصور أن نتيجة المباراة محددة سلفاً. يقول: “فور أن أطلق الحكم صفارة إيقاف المباراة خرج الجميع إلى الشارع” كان ذلك أول احتجاج ذي وزن في ديرالزور. تم إلغاء جميع مباريات كرة القدم لبقية الموسم.
عبر أغلب شهر مارس وصف مسؤولو الأمن الاستخباراتي في ديرالزور الاضطرابات بكلمات مباشرة. في تلغراف إلى مرؤوسيه عبر المقاطعة شرح اللواء جامع أن الاحتجاجات في سورية هي بتأثير من “بعض البلدان العربية التي انفجرت فيها ثورات شبابية تطالب بالتغيير وإرساء الديموقراطية والحريات وإجراء إصلاحات لتوفير فرص العمل للشباب وتحسن مستوى المعيشة ومكافحة الفساد”. ولكن بنهاية الشهر تبنى رؤساء الأجهزة الأمنية في ديرالزور لغة المؤامرة التي تنبثق من دمشق. بعد ساعات من إلقاء الأسد لخطابه التلفزيوني في مبنى البرلمان يوم 30 مارس وافق أعضاء لجنة الأمن بديرالزور على اعتباره “مرجعاً وأساساً لعملنا” وكانت أغلب مناقشاتها التالية يتخللها قلق من الخيانة والتحريض والاختراق الأجنبي و”المشروع الصهيوني الأمريكي”.
كان الحمادة وأصدقاؤه متحمسين لإمكانية الثورة وبدأوا كل يوم أربعاء في الاجتماع داخل مسجد الحي، مسجد عثمان بن عفان، لتنظيم احتجاجات تعقب صلاة الجمعة. قال لي “أنها مسالة لوجيستية. الجميع يذهبون إلى المسجد يوم الجمعة والجميع يخرجون منه” وأضاف إن كنا نستطيع ان نخرج من الكنائس كنا خرجنا من الكنائس”.
حسبما ورد في محضر اجتماع تم الاستيلاء عليه من لجنة الأمن بديرالزور فإن أعضاءها قد قرروا أن يخترقوا السجون بموالين لحزب البعث “قمنا بتوزيع الرفاق على المساجد بمعدل من مائتي رفيق في المسجد الواحد والتعامل مع أية حالة تثير الفتنة”. قسمت اللجنة كل مجموعة إلى ثلاث فرق: واحدة داخله وواحدة للاستطلاع خارجه والثالثة مستعدة احتياطيّاً. ولكن في الأسبوع التالي أبلغ محافظ ديرالزور لجنة الأمن أن “معظم من تم توقيفهم لدى الأجهزة الأمنية هم رفاق بعثيون” الذين هجروا الحزب للانضمام للمحتجين.
كثيراً ما كان الحمادة يصور المحتجين ورد فعل الأمن. كان النظام قد قام بقطع الإنترنت في حيه، لذا فقد قام برفع الفيديوهات على يوتيوب في محل عمل أحد أقربائه، بعضها وصل إلى إذاعات إخبارية عربية. لمناهضة مثل تلك الأنشطة، قال محافظ ديرالزور للجنة الأمن: “ويجب ترشيح عدد من الرفاق الخبراء في مجال الإنترنت للتعامل مع المواقع المعادية التي تبث سمومها داخل القطر مثل فيسبوك”. وبينما كانت لجنة الأمن تناقش أهمية إبداء البعض لضبط النفس، كان العنف يتصاعد. قال جامع إن المحتجين يداعبون “إراقة الدماء تمهيداً لطلب قوات أجنبية”. وهي نتيجة قال إنه يريد تفاديها بأي ثمن. في وقت مبكر من اليوم التالي أرسل برقية من سطر واحد لجميع أفرع الأمن الاستخباراتي في المقاطعة: “نطلب منكم إصدار تعليمات لعملائكم بالامتناع عن فتح النار عشوائيّاً وقتل الناس”.
في مايو انحدر الأمن سريعاً في المقاطعة. قام رجال مسلحون بعصي وبنادق والقنابل الحارقة بحرق قسمي شرطة وأربع سيارات شرطة وست دراجات بخارية خاصة بالشرطة. علم عملاء المخابرات أن شخصاً قد حاول تجنيد متطوعين لإبطال مفعول سيارة مفخخة خارج منزل جامع. حذر رئيس فرع الأمن السياسي في ديرالزور “ستكون هناك موجة من الاغتيالات”.
استمر الحمادة الذي كان قد تم احتجازه مرتين، في تنظيم الاحتجاجات، ولكنه بدأ في قضاء الليل في بيوت آمنة مع نشطاء آخرين. كان قد تم القبض على أحد أشقائه ولم يطلق سراحه. في اجتماع مع لجنة الأمن حذر جامع من أن الاعتقالات قد تكون “سلاحاً ذا حدين”، إذ إنها تزيد من عدد الأشخاص الغاضبين المطالبين بإطلاق سراح أفراد من عائلاتهم. في نهاية مايو أرسل جامع عدة برقيات معبراً عن غضبه أن المحققين يصعقون المعتقلين بالكهرباء ويطفئون السجائر في أجسادهم ويقومون بضربهم “الضرب المبرح والمؤذي على كافة أنحاء الجسد بشكل مثير للاشمئزاز” والاعتداء عليهم جنسيّاً بإجبارهم على الجلوس على زجاجات المشروبات الغازية. قال إن سجنه سيقرر “عدم استلام أي موقوف تعرض للضرب في سجن رئاسة الفرع إلا بتقرير خطي عن وضعه الصحي والقائمين بضربه”.
بدا أن تردد جامع تلاشى في صيف 2011. وحسبما قال شهود عيان، يصف محتجزون في فرع المخابرات الحربية الخاص به، ضربهم بالقبضات والعصي حتى يفقدوا الوعي وتكسر عظامهم وتسقط أسنانهم وكانوا يحشرون في إطارات سيارات ويضربون حتى تدمى أقدامهم ويتعرضون لصدمات كهربائية بعد إلقاء المياه عليهم ويتم انتهاك أعضائهم الجنسية حتى يتبولوا دماء، وكانوا يجبرون على مشاهدة مساجين آخرين يضربون حتى الموت. قال العديدون إن جامع كان يشارك بنفسه في التحقيق.
الأوامر
في مساء يوم 5 أغسطس 2011 عقدت الخلية السورية المركزية لإدارة الأزمة اجتماعها المعتاد في المقر الإقليمي لحزب البعث في دمشق. في خمسة شهور من الثورة امتدت الاضطرابات إلى عدة مقاطعات أخرى. وأرجع أعضاء لجنة الأمن هذا الأمر إلى “التداعيات في معالجة الأزمة” حسبما ورد في الوثائق التي استولت عليها لجنة العدالة. وألقوا اللوم على ضعف التنسيق والتعاون بين الأجهزة الأمنية”. في ذلك المساء قاموا بوضع خطة لاستهداف فئات محددة من الناس.
أولاً كان على جميع الأفرع الأمنية أن تشن حملات يومية ضد منظمي الإحتجاجات الذين يتحدثون إلى الصحافة الدولية. ثانياً “بعد تنظيف كل قطاع من المطلوبين” سيقوم عملاء الأمن بالتنسيق مع الموالين للبعث ومليشيات الأحياء وقادة المجتمع، لضمان ألا يستطيع نشطاء المعارضة العودة إلى تلك المناطق. ثالثاً سيتم “تشكيل لجنة تحقيق مشتركة في المحافظة” مكونة من ممثلين لكل الأفرع الأمنية يقومون باستجواب المعتقلين.النتيجة “تعميم نتائج التحقيق على كافة الفروع الأمنية لاستثمارها في توزيع الأهداف الجديدة والجدية في ملاحقتهم”. كان الهدف الأساسي هو “التوصل إلى أسماء التنسيقيات المحلية” منظمي الاحتجاجات- “وتوقيفهم”. كما تم إعطاء أوامر لعملاء الأمن بـ “موافاة رئيس مكتب الأمن القومي يوميّاً بتقرير عن نتائج التفتيش يتضمن أسماء المطلوبين الذين تم توقيفهم”. بعد ذلك بوقت قليل سافر أعضاء خلية الأزمة إلى المقاطعات التي تشكل مشكلة بما فيها ديرالزور للإشراف على تشكيل لجان تحقيق مشتركة.
أصبحت هذه السياسة وتداً في قضية لجنة العدالة ضد المسؤولين في النظام السوري. قال ويلي عن أعضاء خلية الأزمة “أسماؤهم في كل مكان في هذه الوثائق”. استطاع المحللون في أوروبا أن يتتبعوا، بين وثائق بركات من دمشق والوثائق الستمائة ألف الخاصة بلجنة العدالة، توزيع تلك الأوامر إلى عدة سلاسل قيادية موازية مختلفة من خلية الأزمة. أرسل هشام بختيار رئيس مكتب الأمن القومي تعليمات إلى السكرتيريات الإقليمية لحزب البعث الذين يرأسون مجلس الأمن في كل مقاطعة بأوامر إضافية بـ “التقيد بالمطلوب للإسراع في إنهاء الأزمة”. أرسل رؤساء أجهزة الأمن الأربعة — المخابرات العسكرية ومخابرات القوات الجوية والأمن السياسي وإدارة المخابرات العامة — توجيهات إلى المقاطعات ورؤساء الأفرع الإقليمية الذين حولوها بدورهم إلى عملاء الأمن المحليين.
قال لي كريس إنجلز: “إن كانت تلك الأوامر ترسل ولا يعمل على أساسها أحد، فلم يكن ذلك ليقول لنا الكثير… لذا فقد كانت هناك أهمية مساوية لأن نرى التقارير الآتية إلى أعلى سلم القيادة “للتأكد أن تلك الفئات من الناس قد تم استهدافها بالاعتقال والتحقيق وأن القيادة في دمشق بقيت على علم بالانتهاكات في مراكز الاعتقال. قال ويلي: “إن الفشل الممنهج في السيطرة على مرؤوسي الشخص الذين يتصرفون بشكل إجرامي ستتم محاسبته… إن قانون القيادة ومسؤولية الأعلى مركزاً متطور جدّاً”. كان بعض أعضاء لجان الأمن الإقليمية متحمسين لإبلاغ رؤسائهم. وجدت نسخة من تعليمات خلية الأزمة في الرقة مع ملحوظة بخط اليد “فعلنا ذلك منذ زمن”.
تجبر الحكومات في القانون الدولي أن تحقق في التقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان. في سبتمبر أرسل المحامي العام لديرالزور ثلاث رسائل بالفاكس — استعادها محققو اللجنة فيما بعد — يحثهم فيها على التوقف عن خرق القانون السوري. في إحداها كتب “ولاستمرار المراجعات اليومية إلينا من قبل ذوي وأقرباء المواقيف للتعرف عن مصير أبنائهم وآبائهم وإخوانهم … وسماع أقوالهم… ولوجود عدد من الجثث في براد المشفى مجهولة الهوية، تفسخت مضى عليها مدة زمنية طويلة”.
الاحتجاز
سرعان ما ظهر اسم مازن الحمادة في قائمة اعتقال في ديرالزور. كان اثنان من إخوته مطلوبين أيضاً بالإضافة إلى أحد أزواج أخواته. في أحد أيام مارس 2012 طلب طبيب من الحمادة أن يقوم بتهريب لبن أطفال إلى امرأة في داريا، وهي ضاحية ثائرة في دمشق. جمع هو وأبناء إخوته خمساً وخمسين علبة من لبن الأطفال وخبأوها تحت ملابسهم، وسافر ليقابلها في مقهى. فور أن سلم الحمادة الأكياس قيده عملاء أمن هو وأبناء إخوته وغطوا وجوههم بقمصانهم ودفعوهم داخل ميكروباص. يقول الحمادة: “لم يكن لديَّ فكرة عن وجهتنا.. طوال الطريق كانوا يقولون لنا سنعدمكم”.
بعد أن تم نزع ملابسهم مع إبقاء الداخلية منها وضربهم ورميهم في زنزانة تبلغ ما يقرب من 12 قدماً مربعاً بها 40 سجيناً آخرون، وقد علموا أنهم في فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري أحد أكثر منشآت الاعتقال في البلاد شهرة بسوء السمعة.
بعد أسبوعين تم توزيع المساجين بين ثلاثة هناجر صغيرة، كل منها أطول قليلاً من أربعين قدماً وبعرض عشرين قدماً . يتكدس داخل كل منها مائة وسبعون شخصاً، تلتف أذرعهم على سيقانهم ويميلون بذقونهم على ركبهم؟ قال لي الحمادة: “أنت تتعفن.. ليس هناك هواء ولا شمس، أظافرك طويلة لأنك لا تستطيع قصها، لذا فعندما تحك نفسك تنزع جلدك”. لم يكن المساجين يستطيعون أن يستحموا أو يغيروا ملابسهم الداخلية. وغطت أجسادهم تقيحات من الجرب وأمراض جلدية أخرى. عبر البلاد يشرب المحتجزون بشكل دوري مياهاً من المرحاض ويموتون من الاختناق والأمراض. قال الحمادة: “أصيب أشخاص بالجنون… ويفقد ناس ذاكرتهم ويفقد ناس عقلهم”، في النهاية تم نقله إلى زنزانة انفرادية تقاسمها مع عشرة أشخاص.
في أحد الأيام تم جر الحمادة وهو مُغمَّى إلى غرفة أخرى للاستجواب. بدأ رئيس قسم الاستجواب الذي كان الحمادة يعرفه باسم سهيل في التأكد من هوية الحمادة (كان بعض المواطنين يُعتقلون ويُعذبون بالصدفة، أسماؤهم تشبه أسماء آخرين في القائمة). عندما طلب سهيل معلومات عن نشطاء المعارضة الآخرين الذين التقاهم في دمشق تردد الحمادة. بدأ التعذيب. “في البداية كانوا يستخدمون السجائر.. كانوا يطفئونها في ساقيَّ”. رفع ساق بنطلونه الجينز حتى الركبة وأراني أربع ندوب دائرية على ساقه اليسرى وخمساً على اليمنى. كانت هناك حروق على فخذيه أيضاً. كما ألقوا مياهاً عليه وصعقوه بأسلاك ومهاميز. لإيقاف التعدي أعطاهم الحمادة أسماء أصدقاء ماتوا بالفعل في ديرالزور.
كانت الأسماء هي البداية فقط. سأله سهيل: “كم شخصاً قتلت من الجيش العربي السوري؟”. كان الحمادة قد اعترف بالفعل أنه ينظم احتجاجات ويرفع فيديوهات على اليوتيوب ويتحدث مع الصحافة الأجنبية. قال: “كان التحدي هنا هو كيفية تأليف قصة عن كيف قتلت هؤلاء الناس؟” كانت يداه مقيدتين إلى أنبوبة قرب السقف. يقول: “كانت قدماي على بعد ست عشرة بوصة من الأرض، لذا كان كل ثقلي على معصمي… كنت أشعر أن القيود تنشر، تقطع يديَّ. بقيت لمدة نصف ساعة ثم بدأت في الصراخ. ولأني استمررت في الصراخ فقد دفعوا بحذاء عسكري في فمي وقالوا لي: عض هذا كي لا تصرخ”. كانت هذه الطريقة في التعذيب مستخدمة في أغلب منشآت الاحتجاز السورية الخاصة بالأمن الاستخباراتي بتنويعات مبدعة. كانت معاصم الكثير من المحتجزين تربط خلف ظهورهم قبل تعليقهم منها. وكان البعض يبقى معلقاً لأيام، وآخرون حتى يتوقفوا عن التنفس.
قال مساعدو سهيل لالحمادة إنه إذا اعترف بحمل السلاح سيتم إطلاق سراحه. لم يعترف فكسروا أربعة من ضلوعه. عند تلك النقطة وافق أنه كان مسلحاً ببندقية صيد فأنزلوه. ولكن سهيل أراد أن يتضمن الاعتراف كلاشينكوف كي يليق أكثر بتهمة إرهاب. الحمادة رفض وقال: “نزعوا عني ملابسي الداخلية وأحضروا إبزيماً خاصّاً بالسباكة مثل الذي يستخدم في ضبط الضغط في الخراطيم. “وضعوه على قضيبي وبدأوا في تضييقه” قال الحمادة إن سهيل سأل: “هل ستعترف أم أقطعه؟” وافق الحمادة على أنه كان يحمل كلاشينكوف فأطلق سهيل الإبزيم. وسأل كم مشطاً كان الحمادة يحمل. سأل الحمادة: “كم مشطاً تريد أن يكون بحوزتي؟” ولكن سهيل ذكره أنه يجب أن يعترف وحده فقال الحمادة: “لديَّ خمس رصاصات”. لم يكن ذلك كافياً. قال له سهيل: “أريد مخزن رصاص”. وتصاعد التعذيب حتى اعترف الحمادة بكل شيء سألوا عنه.
في مئات المقابلات مع شهود وجدت لجنة العدالة نمطاً سائداً في أساليب التحقيق عبر جميع فروع أجهزة الأمن. كان الناس يحتجزون تبعاً لسياسة خلية الأزمة. بالإضافة إلى تحديد “أهداف جديدة” كانت الأجهزة تتشارك في نتائج تلك المقابلات. كان المحتجزون يبقون في ظروف غير إنسانية لشهور أو سنوات بدون الدخول إلى النظام القضائي.
ولا تخدم الاعترافات على ما يبدو أي أغراض خاصة بجمع المعلومات، ولكنها تعطي مظهراً قانونيّاً لعملية الاحتجاز. يمكن أن يتم اتهام النشطاء ضد الدولة بجرائم جادة بعد اعترافهم بجرائم عنيفة، وإذا أدينوا يمكن أن يبقوا في السجن لسنوات. كما أنها تديم وهم المؤامرة الواسعة ضد سورية بينما يعترف المحتجزون باشتراكهم في التحريض أو الإرهاب.
كان للوحشية وقعها على المحققين أيضاً. في حالة واحدة على الأقل ترجى أحد المحققين معتقلاً أن يعترف بجريمة كي يستطيع التوقف عن إيذائه. قال كريس إنجلز من لجنة العدالة: “كان رأيهم إلى حد كبير أن عليهم الإتيان بنتائج… كانت عواقب عدم أدائهم لوظيفتهم جيداً حقيقية، وكانت هناك أدلة عن ما حدث لمن لم يفعلوا ذلك”. كان السطر الأخير في سياسة الاستهداف الخاصة بخلية الأزمة يأمر رؤساء الأفرع الأمنية بـ “موافاة مكتب الأمن القومي دوريّاً بأسماء العناصر المتخاذلين”، وانتهى الأمر ببعضهم في زنزانة الحمادة.
بعد عدة شهور وقف الحمادة وابن أخيه فهد في طابور كي يضعا بصمتيهما على تقريريهما. تصور الحمادة أن التقرير الخاص به يتضمن اعترافاً. لم يكن يعرف لأن قراءة التقرير لم تكن متاحة. وقف فتى يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً خلف الحمادة وفهد في الطابور. عندما علم الحراس أنه من داريا، ضاحية دمشق، دفعوه إلى الأرض. جلب أحدهم مسدس لحام وحرق الفتى “من هنا إلى هنا”، قال الحمادة وهو يتتبع بإصبعه خط فكه. “ثم أداروه وحرقوا رقبته وظهره بالكامل… وجهه — أعني، كان حريق. كان يذوب”.
بتذكر الواقعة صارت عيون الحمادة دامعة وحمراء. خانه صوته وبكى بيأس. لمدة يومين حاول هو والمساجين الآخرون في الهنجر تطييب جروح الفتى وهو يموت. عندما أتى الحراس لاستعادة الجثة صرخ الحمادة بهم. رداً عليه علقوه من معصميه لعدة ساعات. قال لي: “أنت تريدهم أن يقتلوك على أي حال كي تخلص من ذلك. أنت منهك من التعذيب. منهك من النوم ومن الصحيان ومن الحياة كل يوم”.
مستشفى 601
في بداية 2013 بعد حوالي عام من الاعتقال استلقى الحمادة على أرض الهنجر. كان قد تم استجوابه وتعذيبه سبع أو ثماني مرات. كان هناك التهاب في عينه يقطر قيحاً. وجلد ساقيه مصاب بالغرغرينا. كان يجب على المساجين أن يقفوا عندما يدخل الحراس إلى الزنزانة، ولكن في ذلك اليوم لم يقف الحمادة. قال: “أنا أتبول دماً”. في اليوم التالي أتى رئيس المحققين إلى الزنزانة وأبلغ الحمادة أنه سيذهب إلى المستشفى 601، وهو مستشفى عسكري يقبع عند سفح جبل المزة: يجثم قصر الرئاسة في الأعلى. قال رئيس المحققين لالحمادة أيضاً أن ينسى اسمه: “اسمك 1858”.
كان الحمادة قد سمع عن مستشفى 601. كان عدد من المحتجزين قد احتجز هناك، وقال إن من عادوا قد حذروا “هذا ليس مستشفى — إنه مذبح”. وبالرغم من إصابة الحمادة فقد ضربه الحراس في الطريق إلى المستشفى. استخدم أحدهم أنبوباً أخضر. بسبب اللون الأخضر كان عملاء الأمن في أنحاء سورية يتهكمون على المساجين بتسمية هذا السلاح الأخضر الإبراهيمي الذي كان في ذلك الوقت مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسورية.
في ممر المستشفى بدأ الممرضون من الرجال والنساء في ضرب الحمادة بأحذيتهم ودعوته إرهابيّاً. عندما وصل إلى العنبر تم ربطه إلى السرير مع سجينين آخرين. سألته ممرضة عن أعراضه ثم ضربته بعصا. ويسجل تقرير الأمم المتحدة لتلك السنة: “تم ضم بعض ممارسي المهن الطبية إلى سوء معاملة” المساجين في مستشفى 601. كان الحمادة يعاني من عدم التصديق قدر معاناته من الألم.
تلك الليلة استيقظ الحمادة راغباً في استخدام الحمام. ضربه حارس طوال الطريق إلى دورة المياه، ولكنه ذهب هناك وحده. عندما فتح أول حمام وجد كومة جثث محطمة وزرقاء. ووجد اثنين آخرين في الحمام الثاني ضامرين وبلا عينين. كانت هناك جثة آخر بجوار الحوض. خرج الحمادة مصاباً بالهلع، ولكن الحارس أعاده وقال له: “تبول فوق الجثث”. لم يستطع، بدأ في الشعور أنه يفقد إحساسه بالواقع. حسبما قال محققو الأمم المتحدة، فإن المحتجزين الذين يموتون كانوا “يحفظون في الحمامات” في عدة أفرع أمنية في دمشق.
في وقت لاحق من نفس الليلة دخل جنديان في حالة سكر إلى العنبر وصاح أحدهما: “من يريد دواء؟” رفع عدد من المعتقلين أيديهم. لم يكن الأطباء قد أعطوا الحمادة أي أدوية — فقط كيس محاليل شبه فارغ — ولكن أحد شركائه في السرير والذي كان قد قضى بضعة أيام في العنبر حذره ألا يتطوع. اختار الجندي سجيناً متحمساً. استل الجندي سلاحاً حادّاً، وبينما يركع السجين عند قدميه برأسه في مواجهة الأرض بدأ في ضرب قاعدة جمجمته فاصلاً عموده الفقري عن رأسه ثم أمر مريضاً آخر بإلقاء الجثة في الحمام. قالت تقارير الأمم المتحدة عن المستشفى 601 “تم تعذيب الكثير من المرضى حتى الموت في تلك المنشأة”. كان الجندي يطلق على نفسه عزرائيل، يتذكره ناجون آخرون وهو يقتل سجناء بطرق مماثلة في وحشيتها.
قال لي الحمادة: “عندما رأيت ذلك أقسم – تلك كانت اللحظة التي فكرت فيها أن ذلك هو مصيري… سأموت هنا”. في اليوم التالي ترجى طبيباً أن يعيده إلى فرع المخابرات الجوية. لاحظ الطبيب أن الحمادة لا يزال مريضاً. قال: “لا لا لا.. أنا قد شفيت بالكامل”. في اليوم الخامس اصطحبه إلى خارج مستشفى 601 نفس الحراس الذين أودعوه به. قالوا: “يا حيوان، يا ابن الكلب… لم تمت بعد”. وضربوه طوال طريق العودة إلى الفرع ثم علقوه من رسغيه لأربع ساعات.
في يونيو 2013 تمت إحالة قضية الحمادة إلى القضاء وتم تحويله لسجن أردا في دمشق، حيث تقدم بطلب لإثبات التهم المنسوبة إليه (السجون السورية تابعة اسميّاً لإشراف القضاء ولكن ليس الأجهزة الأمنية) قال الرد المكتوب أنه قد تم إلقاء القبض عليه “بجريمة الإرهاب وقد حرم من حريته منذ 5 يونيو 2013” — نفس تاريخ توجيه التهم إليه. رسميّاً فإن الشهور الخمسة عشر التي قضاها في فرع المخابرات الجوية في مطار المزة الحربي لم تحدث قط.
في نهاية أغسطس شنت الحكومة السورية قذائف تحمل غاز السارين في أحياء عالية الكثافة السكانية في دمشق، وقتلت أكثر من ألف وأربعمائة شخص. كرد فعل أعلن الرئيس أوباما الذي كان قد التزم في وقت سابق بأن استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية خط أحمر: “لقد قررت أن الولايات المتحدة عليها أن تتخذ فعلاً عسكريّاً ضد أهداف النظام في سوريا”. وقال إنه سينتظر موافقة الكونجرس ولكنه أضاف: “ما هي الرسالة التي سنرسلها إذا كان ديكتاتور يستطيع أن يقتل مئات الأطفال بالغاز علناً ولا يدفع الثمن؟”.
في أحد الأيام تم نقل الحمادة وعدد كبير من المساجين إلى المزة بلا تفسير. في تلك الليلة نقل عملاء المساجين بعدد كبير إلى هنجر فارغ في القاعدة. يعتقد أنه تم إطلاق صاروخ سارين واحد على الأقل من المزة وكانت هدفاً منطقيّاً لغارة جوية أمريكية. داخل الهنجر كان الحراس يسخرون من المعتقلين. قالوا إنه عندما يقصف الأمريكيون سورية فسيقتلون جميعاً.
في بداية سبتمبر تراجعت الولايات المتحدة عن احتمالية الحملة العسكرية وتمت إعادة الحمادة إلى محكمة الإرهاب في دمشق حيث تم أخيراً نظر قضيته. لاحظ القاضي أنه قد اعترف بأنه هاجم نقاط تفتيش وقتل جنوداً. رفع الحمادة بنطاله وأرى القاضي أثر حريق السجائر كما رفع رسغيه كاشفاً عن الندوب البنفسجية العميقة وأظهر الآثار السوداء والبيضاء للضرب على جذعه. كان المشهد مألوفاً داخل قاعة المحكمة. قال القاضي على كل تهمة: “غير مذنب”.
قبل إطلاق سراح الحمادة تم استجوابه مرة أخرى من عملاء قسم الأمن السياسي وسألوه عن الاحتجاجات التي حضرها من سنتين. اعترف فوراً. “قلت نعم كنت في الاحتجاجات. وقلت إن الرئيس وغد!” وأضاف: “كنت قد مررت بالجحيم بالفعل. إن كان هذا هو الأمر فسأعترف بكل شيء”. بعد وقت قصير أعاد العملاء الحمادة إلى قاعة المحكمة. تعرف عليه القاضي وشطب القضية فوراً.
عاد الحمادة إلى ديرالزور التي وصفها بأنها “مدينة أشباح”. عامان من القتال المكثف والغارات الجوية دمرت الكثير من المباني. مئذنة المسجد العثماني كانت قد قصفت. كان ابنا إخوته الاثنان لا يزالان محتجزين في فرع المخابرات الجوية في دمشق وقد اختفى أفراد آخرون من أسرته في منشآت أمنية.
خلال اعتقال الحمادة كانت الثورة قد تحولت إلى حرب طائفية. أرست جبهة النصرة نفسها كقوة كبيرة لا يطغى عليها في الوحشية إلا داعش. كانت مجموعات المعارضة المعتدلة لا تزال موجودة، ولكنها عادة ما كان يقودها أمراء حرب فاسدون وفقدت مقاتلين إلى فصائل جهادية أكثر قدرة. العديد من الثوريين الذين قاتلوا يوماً ما من أجل الحرية أصبحوا راديكاليين أو قتلوا. المحاربون الموالون للأسد أتوا من العراق ولبنان وأفغانستان وإيران. وكان لداعش تواجد مهم في ديرالزور. يقول الحمادة: “كانوا يقتلون جميع نشطاء الإعلام والنشطاء الديموقراطيين، وفي كل مرة كانوا يفعلون ذلك بطريقة هوليوودية مختلفة”.
هرب الحمادة إلى تركيا. ركب طوفاً خاصّاً بالتهريب إلى اليونان، ومن هناك سافر عبر أكثر من ألف وسبعمائة ميل إلى هولاندا حيث انتقلت أخته قبل الحرب. يتذكر الهجرة بهزة كتف وفي جملة واحدة كأنها لا شيء.
تم تأكيد سرد الحمادة للأعمال الوحشية في المستشفى 601 من خلال أكثر من خمسة وخمسين ألف صورة تم تهريبها من سورية عبر ضابط في الشرطة العسكرية يعرف باسم قيصر وهو اسم مستعار. قبل الحرب وثق قيصر وزملاؤه مشاهد لجرائم وحوادث مرور في دمشق، أحد أطرافها شخصيات عسكرية. وحمل الصور على كمبيوترات خاصة بالحكومة ثم طبعها وقام بتدبيسها مع شهادات وفاة رسمية. ولكن بداية من 2011 كانت الجثث لمعتقلين تم جمعها يوميّاً من أفرع أمنية وإيصالها إلى المستشفيات العسكرية.
في مستشفى 601 قام فريق قيصر بتصوير الجثث في المشرحة وفي مرفأ الجراج. كان لكل جثة مصورة رقم مميز يتكون عادة من أربعة أرقام — مثل رقم الحمادة 1858 — مكتوبة بخط رديء على ورقة أو شريط لاصق أو على الصدر أو الجبهة بقلم خطاط سميك. يحدد رقم آخر فرع المخابرات الذي قتل فيه المريض. كان هناك حوالي ألف ومائة جثة. كان فريق قيصر يصنف أكثر من خمسين جثة يوميّاً- هزيلة، مشوهة، مقطعة، محروقة، مضروبة بالرصاص، مخنوقة، مكسرة، ذائبة.
حسبما ورد في تقرير الأمم المتحدة، بعد أن انتهى فريق قيصر من التوثيق عادة ما كان طبيب في المستشفى يكتب “أزمة قلبية” على شهادة الوفاة. ثم يتم تحميل الجثث على شاحنات وإلقاؤها بعيداً. في حالات نادرة تمكن أفراد العائلة من استعادة جثمان ولكن محققي الأمم المتحدة لاحظوا أنه في كل حالة معروفة “كانت تحمل علامات تعذيب شديد”. وأكمل التقرير “بعض الجثامين كانت تعاد من مشرحة المستشفى إلى العائلة، فقط بعد أن توافق العائلة على التوقيع على إفادة تؤكد أن المتوفى قتله “إرهابيون”.
هرب قيصر من سورية في أغسطس 2013 مع وحدات ذاكرة مخبأة في جواربه. بقيت الصور سرّاً حتى بعد أن تكلم مع فريق من المحققين الدوليين وخبراء الطب الشرعي في يناير التالي. بدون مفتاح الشفرة الذي يربط أسماء المعتقلين بأرقام الجثث كان من الصعب تحديد هوية المتوفين. الكثير من الوجوه تم تدميره بإتقان أو أن العيون تم نزعها. النشطاء السوريون المقربون من قيصر نشروا عدة آلاف من الصور على الإنترنت مما يسمح لأفراد العائلة أن يبحثوا عن أحبائهم المفقودين. تم توزيع الصور في مخيمات اللاجئين أيضاً واكتشفت بعض العائلات أنهم كانوا يدفعون رشاوى لضمان معاملة جيدة لأقارب تم قتلهم قبل وقت بعيد. حتى الآن تم التعرف على سبعمائة وثلاثين ضحية بمن فيهم بعض من زملاء الحمادة في الزنزانة.
نهاية اللعبة
بين صور قيصر وقضية لجنة العدالة قال لي ستيفن راب: “عندما يأتي يوم العدالة. سيكون لدينا أدلة أفضل مما كان لدينا في أي مكان آخر منذ نورمبرج”. ويعتقد ويلي وإنجلز أنه إذا وصلت القضية للمحكمة فإن لجنة العدالة لديها ما يكفي من الأدلة كي تدين الأسد ومعاونيه بعدد من التهم تتضمن القتل والتعذيب وأعمالاً أخرى ضد الإنسانية.
في العام الماضي عندما سُئل الأسد عن صور قيصر خلال مقابلة مع مجلة فورين أفيرز Foreign Affairs قال: “من قال إن الحكومة فعلت ذلك وليس المتمردين؟ من قال إن هذه ضحية سورية وليس شخصاً آخر؟” عام 2011 ادعت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة أن طفلاً يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً يدعى حمزة الخطيب عذب حتى الموت في المعتقل. وكرد توصل تحقيق سوري إلى أنه بعد وفاة الطفل بوقت قصير التقط “مصور شرعي.. ست صور ملونة” للجثمان “وأعطيناه رقم ثلاثة وعشرين”.
توصلت التحقيقات السورية إلى أن الصور أظهرت “عدم وجود علامات ضرب وعدم وجود علامات تعذيب وأن الطفل قُتل رمياً بالرصاص “في الأغلب من زملائه الإرهابيين”. كما وجد التحقيق أن الطبيب الذي أبلغ بأن قضيب الطفل مقطوع “أساء تقدير الموقف في فحص سابق”. تتضمن مجموعة قيصر ست صور لجثمان حمزة الخطيب. عيناه مغلقتان من الورم ورأسه لونه بنفسجي غامق من الضرب. قضيبه غير موجود وفي كل صورة هناك كارت ملطخ بالدم يحمل رقم ثلاثة وعشرين.
في رد رسمي على تحقيق الأمم المتحدة أشارت بعثة سورية الدائمة في الأمم المتحدة إلى الدستور السوري والقوانين المحلية السورية كدليل على أن “الادعاءات بوجود اعتقال تعسفي وانتهاكات للقانون في أي من مؤسساتنا لحماية القانون غير معقولة بعد الآن”. ويستمر الخطاب “ليس لدينا مساجين تم القبض عليهم خارج القانون لأمور لها صلة بالتظاهر السلمي. إذا كان سؤالكم بخصوص أفراد إستخدموا أسلحة أو إرهاب ضد الدولة فتلك مسألة مختلفة تماما”. في 2011 قال الأسد لبربارة والترزBarbara Walters إن مشاركة سورية في الأمم المتحدة “هي لعبة نلعبها وهذا لا يعني أننا نصدقها”.
من المنتظر أن تعقد هذا الأسبوع جولة جديدة من المفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة في جنيف حيث ينتقل مسؤولو الأمم المتحدة بين الوفدين اللذين لا يزالان يرفضان أن يتقابلا وجهاً لوجه. قبيل المفاوضات قال لي بركات – الواشي السابق في دمشق – إن وفد المعارضة طلب منه نسخاً من الوثائق التي سرقها من حكومة الأسد، فشل الوفد مع ذلك في ترتيب الاستلام.
في الشهور القليلة الماضية استعاد الجيش السوري الأراضي التي خسرها أمام قوات المتمردين وأصبح يبدو بشكل متزايد أنه من غير المتوقع أن يتنحى الأسد. أعلن وزير خارجيته وليد المعلم مؤخراً: “لن نتحدث مع أي شخص يرغب في مناقشة الرئاسة”. ويتفادى ويلي وطاقم لجنة العدالة والمساءلة الدولية التعليق على تغيير النظام. قال لي: “نحن لا نريد التورط كثيراً في المعاناة السياسية” لمجهودات إنهاء الحرب السورية “نحن ببساطة واثقون- ولا أظن أنها غطرسة- أن عملنا سيرى النور في المحكمة في وقت قصير نسبيّاً”.
يذهب الحمادة في هولاندا إلى جلسات علاج طبيعي لإعادة تأهيل أطرافه المشوهة ويدرس الهولاندية وينظم احتجاجات مناهضة للأسد في الميادين العامة مع أن حضورها يكون ضئيلاً. يتساءل عن أبناء إخوته وعن أخيه وعن زوج أخته وعن أصدقائه العديدين المفقودين. يبكي وهو يقول: “أين هم؟.. هل هم على قيد الحياة؟ هل هم أموات؟” تطلب شقيقته في سورية شهادات وفاة من الشرطة العسكرية بلا جدوى. يقول كل يوم: “تعاسة.. إنها تعاسة. إنها تعاسة. إنه موت. إنها حياة في موت”.
* ترجمة: نرمين نزار
المدن