الياس خوري يكتب عن الابادة السورية
هل نستطيع أن نقرأ الدم؟
في الماضي رفع اتحاد الكتّاب الفلسطينيين شعار «بالدم نكتب لفلسطين»، لكن كتّاب فلسطين، حتى الذين سقطوا شهداء، اعتبروا هذا الشعار مجرد أداة تعبوية ساذجة، ولم يكتبوا سوى بالحبر.
الدم لا يكتب، لأنه يراق، أما الذي يكتب بالدم فهو المحتل والمستبد والفاشي. الذي كتب بدم عبد الرحيم محمود وغسان كنفاني وكمال ناصر هو القاتل الاسرائيلي، أما كنفاني ورفاقه فكتبوا بحبر النكبة حكاية الضحية. حتى الكاتب أو الكويتب ومعه الشويعر والشعرور الذي يمجد القاتل، لا يكتب بالدم، بل يسجد لمن يسفك الدم، ويتغرغر أمامه بالجريمة.
لا أريد التعليق على خطاب السيدة نجاح العطار، نائبة السفّاح السوري، في مجموعة من الكتبة الفلسطينيين الذين ذهبوا إلى دمشق معلنين انتشاءهم بالكارثة السورية، فالسيدة العطار لم تكتب لا بالدم ولا بالحبر، بل كانت هي وأشباهها وشبيهاتها، مجرد ادوات صغيرة في يد السفاح الذي كتب سوريا بسحق شعبها ويكتبها اليوم بممحاة الدم.
قاتل يسكر بالدم وينتشي بالخراب، من تل الزعتر إلى حماة ومن بيروت إلى حمص، وها هو اليوم يدك حلب، معلناً أن مهمة الأسد الوحيدة هي أن يخرب البلد ويدمره ويبيد شعبه.
نحن اليوم أمام ابادة حقيقية، اتركوا الكلام السياسي التافه جانباً، خطاب «الممانعة» يشبه خطاب أسياد النفط في فراغه من المعنى، وتحوله إلى كلمات لا تقول شيئاً.
الكلام الوحيد الجدي هو لغة القتل، فالشعب السوري يتعرض لحرب ابادة وتهجير، لا شيء آخر. الديكتاتور الصغير وحليفه الروسي، وبغطاء أمريكي وإسرائيلي يشن حرباً شاملة على الناس والعمران، يعاقب السوريين ويكوي عيونهم بالموت.
هذه هي الحقيقة العارية.
هذه هي حقيقتنا العربية اليوم.
الانتقام من ثورات الشعوب العربية كان رهيباً، فلقد ضم حلف واحد وجهنمي ورثاء هولاكو وتيمورلنك مع فقهاء التوحش والعتمة من أجل منع الشعوب العربية من أن تتنفس الحرية. ووجد هذا الحلف غطاء دولياً في تفاهم روسي – أمريكي يستثمر التفكك من أجل إنهاء وجود شعوب المشرق العربي.
حلب اليوم هي العنوان المؤقت لمسلسل الجريمة.
بالأمس كانت حمص وغداً ستكون درعا وبعد غد دمشق… كي لا تبقى في سوريا حاضرة تحتضن الناس، فيصير السوريون تائهي العالم وضحيته.
ماذا يريد الروس؟
هل يريدون إبقاء الأسد حتى لو كان ثمن ذلك تدمير كل سوريا؟
أم يريدون إخراج الأسد من السلطة ولكن بعد تدمير سوريا؟
لا أدري، ولم يعد السؤال مجدياً، فالأسد انتهى، والنقاش يجب الّا يكون حول مصير دمية، الا إذا كان وجود هذه الدمية ضرورياً من أجل انهاء المهمة.
ولماذا لا تنتهي المهمة إلا بتدمير سوريا كلها؟
ولماذا سوريا؟
حين يستفيق تاريخنا من جنونه ووحشيته، فانه سيكتب أن السلالة الأسدية تفوقت على كل من سبقها من سلالات السفاحين، وان الديكتاتور الخافت الصوت، كان محترف موت وتآمر، وأنه قرر أن يسيّج مملكته بالرؤوس المقطوعة، متفوقاً على تيمورلنك، ومعلناً أن هولاكو ليس سوى لاعب صغير أمام خياله الاجرامي الجامح.
حلب تحترق اليوم.
أجمل مدينة في المشرق وشقيقة القدس في السحر تباد اليوم، شعبها يقتل، ومبانيها تدمر، وهي محاصرة من كل الجهات.
أين صوت المتنبي الذي انحفرت أصداؤه على مبانيها العتيقة:
«كلما رحبت بنا الروض قلنا/ حلبٌ قصدنا وأنت السبيلُ»
وها هي المدينة محاصرة بالنار:
«وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ/ فعلى أي جانبيك تميلُ»
الجميلة في المدن، سيدة الزمن، تجد نفسها اليوم تحت نار الطيارات الحربية، التي تقذفها بالحمم والبراميل.
يستطيع المستبد ان ينتشي بانجازاته الدموية، وأن يرقص طرباً بمشهد الموت الذي يجثم على سوريا كلها.
يستطيع أن يفتخر بما صنعت يداه، فلقد نجح في تدمير كل شيء، وفي انتظاره نجاحات أخرى.
يستطيع أن يقول انه خدع العالم، وفرض منطق التوحش.
لكنه ينسى شيئاً واحداً مرتكباً الخطأ الذي ارتكبه جميع المجرمين، وهو أن الجريمة تنقلب في النهاية على صاحبها.
كما نسي الدرس الأهم الذي أعلنه الشعب السوري عندما خرج إلى الشوارع مطالباً بحريته، وهو أن «الشعب السوري ما بينذلّ».
نعم هذا الشعب المغطى بدماء ابنائه لن يُذل، ويقاوم الاستبداد حتى آخر المقاومة.
روائي لبناني
القدس العربي