مزن مرشد :كسرة خبز
في دول اللجوء المحترمة ، يعيش السوري في بيت دافئ ،تدفع له الدولة جل إيجاره ،يستخدم وسائل مواصلات آمنة ،سريعة ،مدفأة ،تصل حتى آخر قرية في مدينته – القرية التي تتمتع بكافة خدمات المدينة.
يراجع الأطباء والمشافي مجاناً ،يطمئن على صحته التي بدأ يشعر بأنها ليست على ما يرام من هول ما يعانيه من قلق على بلاده ،وقهر على أهل بلاده.
لم يجد عملاً حتى الآن ،لكنه يعيش عيشاً كريماً ،فالدولة المضيفة تدفع له تكاليف الحياة ليكون آمناً ،محترماً ،مكتفياً ،وما عليه إلا التفكير بمستقبله.
يتحسس وثيقة سفره الجديدة ،يتساءل عن الدول التي يمكن أن يدخلها بها ،يحمل هم الاجازة المملة القادمة ،أوروبا كلها مشرعة الأبواب أمامه اليوم ،أماكن كان لا يحلم برؤيتها إلا في الأفلام باتت على بعد قطار منه ،فكر في نيس لكنه تراجع ،فكر في باريس لكنها باردة ، روما … أثينا … استوكهولم … حيرة سيطرت عليه .. جلبت معها كآبة جديدة في هذه البلاد الباردة …
تذكر المعاملات الكثيرة التي تخنقه … وخنقته حتى استطاع أن يستقدم زوجته وأولاده وأخيه وأمه وأبناء عمومته … تأفف بحنق وشتم بيروقراطية الغرب.
في الصباح … يحتسي قهوته السادة أما شاشته، بلباس نومه الخفيف والحرارة خارجاً تحت الصفر بكثير …
ينتهي من شرب قهوته بهدوءٍ ممل .. يفتح ثلاجته ينظر بملل لمحتواها … مل من أنواع الجبن … من الألبان المطعمة بالفاكهة … ومن المخبوزات المخصصة للفطور ،المحشوة بالزبيب تارة واللوز تارة أخرى … من المربيات … لا يعرف ماذا يأكل هذا الصباح … يلعن اللجوء وساعته والغربة والبرد …
يعود أمام شاشته يطالع خبراً ما عن اتفاق قادم … يغلي الدم في عروقه … يفتح هاتفه الذكي الذي اشتراه مؤخراً يكتب بغضب … سنقاتل حتى آآآخر نقطة دم … صامدون … لن نفرط بدم الشهداء … لن نفرط بقهر الأمهات … سنموت كما الأشجار وقوفاً … يتنفس الصعداء …
يشعر بالرضى .. فخوراً بنفسه على هذا الموقف النبيل … الآن عادت شهيته … سيشرب القليل من الحليب المحلى بالعسل مع بعض الفاكهة لا أكثر … إفطار خفيف يعيد له حيويته التي أكلتها هذه البلاد الباردة .
هناك على الأرض … حيث الأمهات المقهورات … والشهداء المدفونون في حدائق المنازل والحدائق العامة والبساتين … بعد أن اكتظت المقابر بالأحبة ولم تعد تتسع لجسد اضافي .. هناك حيث تهوي درجات الحرارة إلى ما دون الانسانية والثلج يغطي الركام … هناك حيث لا تدفئة ولا كهرباء ولا طعام …
هناك في بقايا بيت مهدم بلا سقف … وفي زاوية بين بقايا جدارين … تحتضن الأم طفليها … تحاول تدفئتهما … من برد ينخر عظامهم معاً … تفكر في زوجها الذي قضى في آخر قصف … ربما ما زال جسده تحت الأنقاض … لم تملك حتى رفاهية أن تحزن من أجله … تشعر بالجوع … تشد حزامها على بطنها الخاوي منذ أيام …
يئن طفلها الرضيع جائعاً .. تلقمه صدرها وهي تعلم تماماً أن لا حليب في ثديها .. يلتقم الطفل ثدي أمه ويسكت … يبكي الطفل الأكبر صارخا – جوعان – تخرج من تحت ثوبها بعض كسراتٍ من خبزٍ قديم تعطيها للطفل … يبدأ بقضمها …
الجوع ، الحزن ، القهر ، الذل يطبقون عليها من كل الاتجاهات .. تفتح هاتفها المكسور تلتقط إشارةً ضعيفةً من شبكةٍ ما … تسرع إلى موقع إخباري … تقرأ خبراً يلمّح إلى إمكانية اتفاق على حل … تتنفس الصعداء … تنظر الى طفليها … ترفع رأسها للأعلى … يااارب .. دمعة واحدة دافئة في هذا الصقيع .
- كاتبة سورية ، والنص من مجموعتها الصادرة حديثا في باريس