علي العائد : ‘كردستان العراق’ سُرَّة ثانية في آسيا
احتمالات الحرب مستبعدة كثيرا مع وجود المايسترو الأميركي في المنطقة، بل بوجود داعش، وهو إحدى أهم حجج بغداد في تبرير رفضها لإجراء الاستفتاء أثناء دوران عجلة الحرب ضده في غرب العراق.
في آسيا سُرَّةٌ شهيرة هي أفغانستان، تتشارك الحدود مع سبع دول هي: باكستان وإيران وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان والصين والهند، دون وجود أي منفذ بحري لها، ما جعل ذلك اللقب يلتصق بها بكل ما يعنيه من صعوبة الاتصال بالعالم، وتبعية سياسية واقتصادية حتى لجيران مماثلين لها في الضعف، بل وشراسة وقسوة طباع سكانها الناتجة عن فقدان التأثيرات البحرية، وهي الصفة الملازمة للأرض القاحلة.
في المستقبل، قد تكون كردستان، أي أرض الأكراد، سرة ثانية في آسيا تتشاطأ الحدود مع ست دول، أو أكثر، مع احتمال وجود منفذ على البحر الأبيض المتوسط، أو على الخليج العربي، أو دونهما. ففي بعض الخرائط المتخيلة تحيط بالدولة المتخيلة ست دول، هي: إيران وأرمينيا وجورجيا وتركيا وسوريا فضلا عن العراق، مع ميناء على البحر المتوسط غربا، وميناء على الخليج العربي جنوبا، إدراكا من متخيلي الخرائط بأن هذه الدولة ستكون مخنوقة، أو غير قابلة للعيش في محيط من الأعداء دون وجود ميناء بحري يصلها بالعالم ويجنبها تحكم الأعداء في صادراتها ووارداتها.
على كل حال، لا اتفاق بين الأكراد أنفسهم على مساحة، وشكل الدولة، وحدودها، لعدم وجود اتفاق على “الأرض التاريخية” للأكراد، حتى بين أكبر منظري القضية الكردية، ومن بينهم عبدالله أوجلان نفسه، الذي لم يتحدث أثناء قتال دام أكثر من 15 سنة بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي عن “أرض تاريخية” للأكراد في سوريا، على الرغم من وجود ما لا يقل عن مليون ونصف المليون كردي من بين حوالي 25 مليون سوري حاليا، أي6 في المئة من السوريين، وقد يكون العدد أكبر، حيث لا نثق بأرقام النظام الأسدي الذي من مصلحته تصغير العدد، كما لا نثق بالمصادر الكردية التي من مصلحتها تكبير العدد، ودائما دون حرص من الطرفين على الحقيقة والإحصاء العلمي.
حتى إقليم كردستان العراق إذا أصبح دولة في المستقبل سيكون سرة بين أربع دول معادية هي: إيران وتركيا والعراق وسوريا، بل قد نكون أمام سرتين كرديتين في العراق إذا سارت العلاقة بين الحزبين الكرديين الكبيرين على ما رسمه التاريخ القريب بينهما منذ تأسيس جلال الطالباني حزبه الاتحاد الوطني الكردستاني، متمايزا عن حزب البارزاني التاريخي الحزب الديمقراطي الكردستاني.
الطبيعة فرضت على أفغانستان، بمساحة أكثر من 652 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكان تجاوز 34 مليون نسمة عام 2016، والاعتماد على زراعة غير مستقرة المردود نتيجة تقلب مواسم الأمطار بين سنة وأخرى، عدا عما يقرب من أربعين سنة من الحرب لم تدع لأي نشاط اقتصادي الفرصة أن ينمو أو يستمر.
ولعل شهرة أفغانستان بزراعة الأفيون، وتهريبه، خاما ونصف مصنّع عبر جيران السرة، وخاصة إيران كمركز تصدير، وتركيا كدولة عبور، إلى الأسواق الأوروبية، كان الحل لابتداع اقتصاد بديل في بلد يعيش ثلثا سكانه على أقل من دولارين للفرد يوميا.
أفيون كردستان هو النفط، فالإقليم ينتج حاليا 650 ألف برميل يوميا، منها 150 ألف برميل من حقول كركوك المتنازع عليها مع الحكومة المركزية في بغداد. هو أفيون لأن طرق تصديره ستكون مغلقة عبر الدول المحيطة، وخاصة العراق وتركيا وإيران، بل مغلقة عبر سوريا المحكومة إيرانيا.
والنفط سلعة رخيصة جدا مقارنة بالأفيون، فالكيلوغرام الواحد من الأفيون الخام يصل سعره إلى 16 ألف دولار، بينما يبلغ سعر برميل النفط (159 ليترا) نحو 50 دولارا منذ حوالي عامين!
أي أن تهريب النفط لا يشكل حلا عمليا لاقتصاد دولة، وستفتقد “دولة كردستان”، نظريا، ما لا يقل عن 11 مليار دولار من دخلها من النفط حاليا، دون الحديث عن طموحات الإقليم لرفع إنتاجه إلى مليون برميل يوميا. كما سيفتقد الإقليم دخلا مهما من السياحة، وقطاع الطيران، ففي عيد الأضحى فقط دخل إلى الإقليم 145 ألف سائح، بينما شهدت الأيام القليلة الماضية حركة خروج من الإقليم من الأفراد والمنظمات الدولية التي كانت تجد في الإقليم بيئة آمنة لانطلاق عملياتها في العراق كله.
في العمق، الاستفتاء كان مجرد استطلاع رأي مضمون النتائج، ولم يكن تراجع نسبة المؤيدين لحق تقرير المصير من 98.8 في المئة عام 2003، إلى 92 في المئة قبل أيام، مهما. كما لا يقيم المنصفون وزنا لاعتراض بغداد وأنقرة وطهران على فكرة الاستفتاء. هؤلاء المنصفون يقرون بحق الإقليم في إنشاء دولة، لكنهم يشككون في التوقيت، ويحرصون على عدم المغامرة بمصير أكثر من ستة ملايين هم سكان الإقليم من الأكراد والعرب والتركمان والإيزيديين في أرض السرة المحاطة بالأعداء.
وحتى مع بدء تنفيذ بعض الإجراءات العقابية من إغلاق المجال الجوي وتعليق شركات طيران رحلاتها الجوية إلى مطاري أربيل والسليمانية، مع احتمال إغلاق أنبوب النفط الواصل إلى ميناء جيهان في تركيا، لم يتأثر اقتصاد الإقليم، على الأقل كونه لا يملك آليات لقياس هذا التأثير، فلا توجد حتى اليوم عملة للإقليم، كما أن تأثر أسعار النفط العالمية بدا كما لو أنه نوع من المضاربة لجني الأرباح في ظل أجواء نفسية تتأثر بها السلعة الاقتصادية الأكثر حساسية في مثل هذه الظروف السياسية، حيث سجل سعر مزيج برنت أعلى سعر في عامين عند سعر 59.49 للبرميل.
أما احتمالات الحرب فمستبعدة كثيرا مع وجود المايسترو الأميركي في المنطقة، بل بوجود داعش، وهو إحدى أهم حجج بغداد في تبرير رفضها لإجراء الاستفتاء أثناء دوران عجلة الحرب ضده في غرب العراق.
في المستقبل، سيقال عن “كردستان العراق” ما يقال عن أفغانستان التي اشتعلت منذ التدخل السوفييتي فيها في عام 1979. أكثر من ذلك، قد لا تبدو المقارنة جائزة بين نفط الإقليم وأفيون أفغانستان، على الرغم من اجتراح مجتمعات فقيرة ومحاصرة معجزات عبر الاقتصاد الاجتماعي في الفترتين المتوسطة والطويلة. وكم من بلد لا يمتلك النفط ولا المعادن النفيسة ولا يمتلك سوى ميناء، استطاع إنشاء اقتصاد ناشئ ومنافس بالاعتماد على ما يتوافر من المصادر المحلية فقط، لكن بتأسيس ثورة تعليمية وعلمية. مثال ذلك ماليزيا وسنغافورة، فالأولى بدأت ثورتها الاقتصادية بتطوير أبحاث زيت النخيل فقط، والثانية عبر ميناء أصبح محطة للتجارة العالمية بين شرق آسيا والعالم.
لكن الإقليم سيكون مجبرا في الفترة القصيرة على التقشف، حكومة وشعبا، مع فقدانه أهم موردين، النفط والسياحة، وسيكون مضطرا إلى تأجيل الإنفاق على خططه التنموية، خاصة أنه يعاني من دفع رواتب موظفيه منذ انخفاض أسعار النفط قبل أكثر من عامين عن مستوى مئة دولار للبرميل. وسيكون على قادته صياغة نوايا مختلفة في ما يخص “الاستقلال الفعلي”، والرضوخ مؤقتا لمشيئة “أعدائه”، أو ترتيب جدول زمني لـ”الاستقلال”، أو الاتفاق على صيغة متطورة للفيدرالية عبر تعديل “دستور الرمال المتحركة العراقي”، أو حتى بصياغة دستور دائم ليست فيه بنود المناطق المتنازع عليها، ومتاهة المادة “140” الأشهر في الدستور العراقي.
سرة الإنسان هي الميناء الذي يستورد فيه الجنين من رحم أمه ما يلزمه من الغذاء، بل والأحاسيس عبر مئتي عصب تتجمع في السرة، لكن الجنين سيستغني عن السرة بمجرد ولادته، ليطور حواسه الأخرى للاتصال بالعالم المحيط.
- علي العائد : كاتب وصحافي سوري
العرب