الياس خوري : الغوطة من خلال ثماني عيون
رزان زيتونة، سميرة الخليل، وائل حمادة وناظم حمادة، امرأتان ورجلان تم اختطافهم في 7 كانون الأول ـ ديسمبر 2013 من مكتب توثيق الانتهاكات، في مدينة دوما، في غوطة دمشق الشرقية، حيث كانوا يعملون كناشطين في صفوف الثورة السورية.
في تلك الأيام أُخضعت دوما لهيمنة ميليشيا «جيش الإسلام»، وهي ميليشيا أصولية وثيقة الصلة بالمملكة العربية السعودية. ومنذ خمس سنوات اختفت آثارهم، وفشلت جميع المحاولات المضنية للبحث عنهم، أو معرفة مصيرهم.
كان تغييب هؤلاء المناضلين الديمقراطيين والعلمانيين الأربعة مؤشرا رمزيا إلى المصير البائس الذي يُقاد إليه الشعب السوري، في هذه المذبحة الرهيبة التي اشترك فيها أطراف دوليون وإقليمون عديدون، لكن المسؤول الأول عنها هو النظام الاستبدادي الذي قرر تدمير ـ وقتل شعبها والتنكيل به، لأنه رفض العبودية وقرر التمرد على الاستبداد.
في الغوطة الشرقية نشهد اليوم فصلاً جديداً من المذبحة التي يُفاخر القتلة بارتكابها. بشّار الأسد وزبانيته يرقصون طربا لأصوات البراميل التي تفتك بأجساد الأطفال، وبوتين وعساكره يقفون سدا لحماية القتلة لأنهم شركاء في الجريمة، أما محور الممانعة بزعامة إيران فيسنّ السكاكين ابتهاجا، في انتظار مجزرة جديدة.
وفي المقلب الآخر يفرح الأمريكي «البشع» بأشلاء الشعب السوري لأنها عبّدت له طريق القدس، فقرر أن ينقل سفارته إلى المدينة المحتلة في يوم الذكرى السبعين للنكبة، وعرب النفط يرتمون في أحضان إسرائيل طلبا للحماية، والعثماني الجديد لا همّ له سوى الحرب ضد الأكراد.
أما أهل الغوطة فيموتون تحت أنقاض بلداتهم، يموتون بيأس يليق بالضحايا، صارت دموعهم دماً، وصار صراخهم تحدياً لهذا التاريخ الذي أصبح مسلخاً.
الطريق إلى القدس الذي يمر في مدن سورية ودساكرها لم يكن كذبة كما يعتقد الكثيرون. نعم كانت مدننا المدمرة طريقاً إلى القدس، غير أن الممانعين ارتكبوا كذبة صغيرة، إذ قالوا إن تدمير ـ والفتك بشعبها على يد الأسد وحلفائه هو طريق العرب والفلسطينيين إلى القدس، وهم يعرفون أن العكس هو الصحيح، فوأد الحلم الديمقراطي والإصرار على استعباد الشعوب، هو طريق الصهاينة والأمريكيين إلى القدس، وهو طريق عبّده القتلة بدماء الشعب السوري.
أرى الغوطة الذبيح بعيون رفاقنا الأربعة الذين كانوا أول الضحايا. أراهم في عتمة التغييب يرتجفون غضباً وحزناً، أرى إلى كلماتهم وهي تغطي أجساد أطفال الغوطة كي تحميها من التمزّق، ألمس أصابعهم التي بترها القمع وهي تتوق إلى كتابة كلمة تعلن الحق والحقيقة وسط سيل الأكاذيب.
أراهم في عتمتهم التي تضيئها إرادة الحرية وهم يعاينون انقلاب الزمن بابتسامة حزن وإشفاق على خاطفيهم السفهاء، الذين اعتقدوا أنه يمكنهم سرقة الثورة من أصحابها. ثم أرى في أيديهم ممحاة تقوم بمحو بقايا كلمات مَنْ تنطّح لقيادة الثورة فقادته أخطاؤه وخطاياه إلى منحدرات البُغاة. وأراهم يهزأون من ملوك الكاز والغاز الذين أرادوا امتطاء الثورة عبر تعهيرها، فانتهوا كأصداء شاحبة للمشروع الصهيوني.
لكنهم يشعرون بالتقزز والعار أمام خطاب يدّعي مقاومة الإمبريالية وهو يصير أداة تفكيك الشعوب بالطائفية والمذهبية. وهي أداة حاولها المستعمرون طوال تاريخهم، لكننا نرى اليوم كيف يقف هؤلاء المستعمرون بإعجاب أمام قدرة الأصوليين الممانعين، ووجههم الآخر المتمثل بالتكفيريين، على تحقيق ما عجزت ثقافة الاستشراق وقادة جيوش الاحتلال عن تحقيقه بهذه البراعة طوال قرن كامل.
أتخيل ثماني أعين تحدّق في هول الاستبداد الذي احتلّ ـ منذ خمسة عقود على يد ضابط انقلابي وَلَغ في الدم اللبناني والفلسطيني جاعلا منه تمريناً على بداية المجازر في حماه 1982، وحوّل ـ إلى سجن كبير يتوسطه سجن تدمر الرهيب، قبل أن يسلّم السلطة لابنه، طبيب العيون، الذي فهم أن عليه أن يدمّر ـ كلها ويسلّمها للقوى الاستعمارية قبل أن يرحل إلى الجحيم.
ثماني عيون تحمل مراياها المحطّمة كل الأسى السوري والعربي، عيون ترى في العتمة المضاءة بالحب والإرادة ما لم تعد عيوننا الملوَّثة بغبار الموت قادرة على رؤيته.
نلجأ إلى عيونهم كي لا تحتلنا العتمة، ونرى خلف كل هذا الدمار صمود شعب عظيم، ترسم آلامه طريقا لمقاومة السفهاء والطغاة والعنصريينن والطائفيين الذين امتطوا بدايات هذا القرن الجديد.
هذه العيون هي أفق الحياة رغما عن الموت.
تقف رزان وسميرة ووائل وناظم في المكان الذي تخيّله الشاعر محمد الفيتوري وهو يصف إعدام أمين عام الحزب الشيوعي السوداني عبد الخالق محجوب، على يد الطاغية جعفر النميري صباح الأربعاء 28 تموز ـ يوليو 1971 في سجن كوبر.
صار عبدالخالق خارج الزمن بعد إعدامه شنقا، لكن قلبه كان ينبض بالحب:
«قتلوني وأنكرَني قاتلي
وهو بردانَ في كفني
ومنْ أنا
سوى رجلٍ واقفٍ خارجَ الزمنِ
كلّما زيّفوا وطناً
قلتُ قلبي على وطني».
الياس خوري : روائي لبناني