فادي آدم : الدولة الأمنية «العلمانية» كدافع للأسلمة
كانت بعض أجهزة الأمن في دولة عربية أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق تعمد إلى إهانة معتقليها وشتم مقدساتهم ومعتقداتهم الدينية بما فيها الرموز الإسلامية المعروفة، وبالطبع فإن رد الفعل الطبيعي لهؤلاء المعتقلين هو اندماج بتلك المقدسات والمعتقدات ومبالغة في التشبث بها، وهو رد فعل نفسي مفهوم في أجواء الاعتقال يمكن أن يتعرض له حتى غير المتدينين الذين يتعاطفون آليا وتلقائيا مع أي شيء ينكره ويكرهه أو يشتمه المحقق والجلاد…
حدث هذا في سوريا والعراق في العقد الأول من هذا القرن وحدث كذلك في مصر زمن عبد الناصر وهو كان أمر وأدهى. وأنتج ما يسمى بالجهاد الإسلامي لهول ما تعرض له المعتقلون المصريون لاسيما أولئك المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين حيث قيل إن جلاوزة النظام استخدموا ما سماه الشيخ كشك بكلاب المضاجعة لإذلال المعتقلين من جماعة الإخوان وحيث كان حمزة البسيوني الجلاد يقول « مفيش هنا جنه ونار، هنا فيه جنة عبد الناصر ونار عبد الناصر.»
لم تكن علمانية الأنظمة الديكتاتورية بأمر مزعج للجماهير العربية المحكومة يوم كانت تلك الجماهير مأخوذة بوهج الأيديولوجيتين الشيوعية والقومية العربية، لوجود تقاطعات مفهومية بين تلك الأيديولوجيات وبين الإسلام الشعبي البسيط، ففي الشيوعية والقومية العربية مفاهيم «علمانية» تطال المستوى الاجتماعي، تسمح بحرية المرأة وحرية الفرد بحدود دنيا لا تتجاوز الشكليات المنضبطة اجتماعيا في مجتمع إسلامي معتدل كمجتمع سـوريا أو مصـر في عقد السـبعينيات مثـلا.
لكن حين سقطت كل من هاتين الأيديولوجيتين، أي الشيوعية والقومية العربية ظهرت مفاهيم الأنظمة الحاكمة بما يخص الحرية، كمفاهيم مخالفة للعادات الاجتماعية العربية، وبدت كما لو أنها مفاهيم علمانية قسرية في المستوى الاجتماعي تركز على حرية شكلية للمرأة تتعلق بلباسها خصوصا دون حريتها الداخلية ككائن، ودون منح أي حرية سياسية أو فكرية أو ثقافية للمجتمع وهو الأمر الذي تجاهله أو غفل عنه معظم دعاة ومناصري تحرير المرأة التابعين أو الموالين لتلك الأنظمة…
الغريب أن الأنظمة الديكتاتورية القومية العربية الاشتراكية العلمانية التي كانت تقصي الدين في خطابها الديماغوجي، بل تصف المتدينين بالرجعيين وتصف الأحزاب الإسلامية السنية بالأحزاب اليمينية، هي نفسها التي عادت لتعدل سياساتها وتدفع الجماهير العربية دفعا إلى أحضان التدين والمذهبية، فقد وجدت تلك الأنظمة أنه لا بد من وجود بديل إيديولوجي إيماني عن الشيوعية والقومية بعد سقوطهما المدوي، وهذا البديل لا بد أن يكون شيئا يشبه القومية والشيوعية من حيث طوباويته وسحره وتخديره للنفوس.
بالطبع لن تجد تلك الأنظمة العلمانية أفضل من الدين والمذهبية الدينية بديلا يمنع النخب والجماهير من السقوط في جاذبية الحداثة أو العلمانية الحقيقية أوالليبرالية وأفكار المجتمع المدني… الخ
لم يكن غياب الشيوعية وفشل القومية العربية هو الدافع الأساسي للتدين والتطرف الديني إنما ارتفاع مستوى وتعمق منسوب القمع السلطوي ودخول فنون وأجهزة جديدة إليه وهذا ما نعتقد أنه كان متقصدا ضمن سيناريو شامل وضع للمنطقة العربية كلها…
كانت العودة إلى الدين أو إلى المذهبيات بفعل فاعل، بمثابة تعويض أو بديل عن العلمانية أو الحداثة أو الليبرالية، فحين تسقط القومية والشيوعية معا لا بد للجماهير و النخب العربية معا من البحث عن بديل أيديولوجي أو سياسي فكري.. هذا البديل قدمته الأنظمة الحاكمة على طبق من ذهب.
كان الانقلاب الخميني في إيران بداية التحول الأيديولوجي السياسي في عقل النخب العربية المنتمية أو النخب المؤدلجة، والتقى الانقلاب الخميني مع صعود التبشير بالوهابية والسلفية التي قادته السعودية عبر رجال أعمال ومتمولين وأجهزة. فالنظام السعودي وجد أن أبلغ رد على التمدد الأيديولوجي الإيراني تحت غطاء التشيع يكون ببضاعة من النوع نفسه.
دخل النظام السوري على الخط وبدأ يلعب لعبة التوازن التي اشتهر، بها فكان بعض ضباطه يقبضون من السعوديين مقابل غض النظر عن التبشير الوهابي في دمشق، وفي أوساط طلاب كلية الشريعة، وكان بعض مسؤوليه الرسميين يقبضون المال من الإيرانيين ويغضون النظر عن موجة تشيع في حوران والرقة، وبدأ النظام نفسه بالنفاق والمزاودة على السعوديين والإسلاميين معا بافتتاح معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم وأخيرا وليس آخرأ سمح لبرجوازية دمشق التجارية بنشاط نسائي غريب من نوعه في تاريخ سوريا هو النشاط الإسلامي النسائي تحت اسم القبيسيات وهي حركة دينية تشبه الأخويات المسيحية مضمونها مزيج من سلوك تصوفي وأفكار تراوح بين السلفية المعتدلة غير التكفيرية والوسطية الإسلامية التي ازدهرت على يد دعاة ومجتهدين أمثال الشيخين البوطي وكفتارو…
لم يقتصر التوجيه إلى التدين على النظام السوري، بل عمل عليه كل من نظام مبارك في مصر وعلي عبدالله صالح في اليمن ومحمد الخامس في المغرب وكذلك في سائر بلاد المشرق العربي والخليج.
هكذا تتناغم أجهزة الدولة الأمنية «العلمانية» العميقة في تمثيل مسرحية تتقاسم أدوارها وشخوصها، ما بين واجهة رسمية وخلفية أمنية، ففي العلن تدعو وزارات الإعلام إلى العلمنة، وفي الظل تعمل وزارات الأوقاف على افتتاح آلاف المساجد ومعاهد تحفيظ القرآن، وفي السر وظلام الأقبية تعمد أجهزة الأمن على إهانة المقدسات الدينية للمعتقلين، دافعة إياهم عن عمد إلى مزيد من التدين ثم التطرف ثم التكفير، ليتم تجهيز عدد منهم ليكونوا قادة تكفيريين تطلق سراحهم ليعيثوا دمارا وخرابا في البلاد ولتخوض تلك الأجهزة معهم حربا معلنة ضد الإرهاب وتظهر تلك الأنظمة الفاشية كقوى خير تحارب الشر، وتظهر أيضا كأنظمة علمانية متنورة تحارب الظلامية والتخلف…..
ماجرى في سوريا ابتداء من إطلاق معتقلين إسلاميين في حزيران/يونيو2011 بمرسوم جمهوري قبل أن ينهوا أحكامهم أبلغ دليل على ما ذكرناه، وما جرى لاحقا بين أولئك والنظام وحتى اللحظة دليل أقوى حيث التزم الطرفان بمسرحية «عسكر وإرهابيين» جرى عن طريقها الالتفاف على ثورة الشعب السوري السلمية وأخذها إلى حرب الإمارات الإسـلامية مع النظام الذي يحارب الإرهاب، الأمر الذي أنقذ النظام ومنعه من السقوط وأبقاه حتى اللـحظة نظاما علمانيا يحـارب الإرهـاب..
فادي آدم : كاتب سوري
الموضوع عن القدس العربي
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.