في هذهِ المعبودةِ «السوريةِ» الجمهوريةِ المغتصبةِ، سأقصُّ عليكم منشوراتٍ كتبتها بمنامي، إصبعي المتيبِّسُ على الحاسوبِ، وهاتفي الموصولُ بنبضاتِ آخرِ سوريٍ قُتِلَ بالأمسِ. كما أعلم—بل أنتم الأَخْبَرُ—أيضًا في الحربِ لا تتساوى نهاياتُ البشرِ: البعضُ يموتُ من الرعبِ، ومنّا من يموتُ ببرميلٍ متفجّرٍ، أو يسقطُ عليه صاروخٌ طائشٌ، أو حتى برصاصةِ قناصٍ، وأحيانًا بواسطةِ منشارٍ، أو بسكينٍ قيلَ لنا إنها مباركةٌ من إلهٍ يعبدونه.
أما قبل—وقد ضاقت بنا نداءاتُ الغوثِ ورسائلُ التنديدِ… وسطاءٌ كُثرٌ، وهيئاتُ الأممِ ومؤتمراتٌ، أيضًا اجتمعَ أبالِيسُ العالمِ… لكن الثابتَ أنها حربٌ مُنظَّمةٌ في شكلِها ومضمونِها؛ حربٌ على شعبٍ يتكاثرُ كلما قُصِفَتْ أرضُهُ بطائرةٍ أو بصاروخٍ، كلما رُميَ بالنابالمِ والفسفورِ؛ حربٌ تُنتجُ شعبًا يتكاثرُ بقوّةٍ وإصرارٍ ضد طغاةٍ أنتجتهم مصالحُ دولٍ وسلطاتٌ في أمكنةٍ أُخرى.
يا أنتَ المعبودُ الغفورُ، مع أنني لم أدْخُلْ أيَّ بيتٍ من بيوتِك، لم أتعبَّدْ أحدًا من قبلُ. سأدقُّ الدفوفَ إثرَ مراتٍ، وأطوّفُ حولَ أضرحةٍ وجثثٍ منثورةٍ، ثم أَصعَدُ كي أهتِفَ بكَ، سائلاً عن إعجازٍ ينتظره أبناءُ هذه الأرضِ الذاهِبةِ إلى التصحُّرِ: أرِمْنِي بمعجزةٍ واحدةٍ فقط، كي لا يشغلَني صمتُكَ المؤلمُ؛ فقد أخذت قلوبَ محبّيكَ، وامتحَنَتْ ما يزيدُ على الوعيِ الشقيِّ بأكثرَ من كونٍ وسماءٍ عاشرةٍ.
هذهُ الحربُ المجنونةُ-«المعبودةُ» و«الملهمةُ» لسفهاءِ الإجرامِ المحليِّ والدوليِّ—مشغولةٌ بعنايةِ مختبراتٍ تفقِسُ في كلِّ يومٍ طوابيرَ تبارِكُ قراراتِ مجلسِ الأمنِ، فيما هي تفتِكُ بكلِّ شيءٍ، إذ لم تَعُدْ لها بوصلةٌ أو معينٌ، كما لو أنها موصوفةٌ ومركَّبةٌ من قبلِ ربٍّ رمزيٍّ مُحاطٍ بسماواتٍ توزِّعُ الشرَّ على بسطاءِ العالمِ.
لكن، كما نرى وبمنتهى الدقّةِ، صمتٌ طويلٌ يترافقُ مع مجازرَ صريحةٍ، وما فهمنا العِبْرَةَ من أن يُقتلَ كلَّ لحظةٍ ما يزيدُ عن حربِ إبادةٍ… حتى هذهِ اللغةِ المجنونةِ لم تُسعِفْنا وخَذَلَتْنا أثرَ لعثمةٍ؛ ظننا أن نشازَ الكيماويِّ فَكَّكَ وعينا فما قتَلَنا.
ثمةَ في بلدي أكثرُ من كعبةٍ: من قدسٍ وكنيسٍ، أكثرُ من أمٍّ وأمهاتٍ وأممٍ؛ أكبرُ من جحيمٍ أحرقَ ملائكةً ورُسُلَ سلامٍ. يا أبانا الذي يترقَّبُ كلَّ هذا الدمارَ بثَتٍ مباشرٍ، بلا أقمارِ رصدٍ أو حتى شاشةِ تلفازٍ.
ها أنا ذا أكتبُ اسمَكَ في غوغلَ، أمعِنُ النظرَ في المعاجمِ لعلّي أقرأُ تفسيرًا يقنعُني… وما فهمتُ: صمتُكِ أيّتها الآلهةُ المعبودةُ، صمتُكم أيّها العالمُ الحُرُّ، أكبرُ من أن يُقاسَ منذ بدءِ الكونِ. أعدكُم أن أكون أكثرَ من قِسٍّ وشيخٍ وناسِكٍ في معبدٍ… خُذوني إليكم إن شئتُمْ؛ وسحقًا لفضولٍ يُشوِّشُ وعينا كي لا أفهمَ لغطًا أو عن سابقِ يقينٍ أن الخالقَ لعبيدهِ يدعمُ الطغاةَ لا أكثر.
فهذهِ الجموعُ من شعبي—أطفالٌ ونساءٌ وشبابٌ وكهولٌ—تُقْتَلُ، فيما ألحظُ صمتًا هجيرًا يشعلني نارًا لم تمحَ. فيما أنتَ تأمَلُ ما يَشبهُ السحرَ الأسودَ. زدْنا قليلًا من بصيرةٍ أو علمٍ يا عزيزَ البشرِ، زدْني قليلًا من خبرٍ، أو كثيرًا من إثمٍ إن شئتَ. فقط كي أَتَفَحَّصَ «ذنوبَ» شعبي إن كان بحقٍّ ذي «جرمٍ عظيمٍ». فقد ابتلعَتْنا هذه الحربُ، لكننا نتنفّسُ بعضَ اللغةِ لنكتبَ تواريخِ كلِّ مجزرةٍ، أو خبرًا عاجلًا عن ذبحِ بشريٍّ واحدٍ، أو موتِ معتقلٍ تحتَ التعذيبِ. هذهْ خطايانا… فقد غصَّتْ بنا المقابرُ.
المزيد من المواضيع
شيفرة السياسة الخارجية تجاه سوريا : تداخل الملفات، أدوار اللاعبين، وخيارات القيادة الحالية
إقالة مُلتبسة… شخصنة القرار وسوء الإدارة في اتحاد الكتّاب
جلسة مغلقة بين الشرع وترامب: انسحاب إسرائيلي، تنمية مشروطة، ومكافحة الإرهاب